يا نفط مين يشتريك؟

أي قراءة لنزول الأسعار تحت الصفر للمرة الأولى في التاريخ؟

الرباط ـ  »الحصاد«:

حجز الـ 20 من نيسان/أبريل مكانه ضمن قائمة الأيام السوداء في ذاكرة الاقتصاد العالمي، كالخميس الأسود الذي أرخ لبداية أزمة 1929 سيئة الذكر، و15 سبتمبر 2008، تاريخ إفلاس بنك  »ليمان براذرز« وبداية أسوأ أزمة مالية في الألفية الجديدة حينها. في ذلك الاثنين هوت أسعار النفط تحت الصفر لأول مرة في التاريخ متسببة فيما لم يكن في الحسبان: أن يدفع البائعون للمشترين مقابل تخليصهم من بضاعتهم! يومها بيع نفط غرب تكساس، أهم نفط مرجعي في السوق الأمريكية، بـ 37.63- دولارا للبرميل. فهل تكفي جائحة كورونا لتفسير هذا التهاوي؟ وأي إشارات لسوق النفط العالمية في الأسابيع والشهور والمقبلة؟

معادلة العرض والطلب… والتخزين

شهدت أسعار النفط منذ بداية العالم تراجعا مسترسلا بسبب جائحة كورونا التي تسببت ـ إلى جانب أضرارها الصحية الجسيمة ـ في تجميد النشاط الاقتصادي وتراجع الطلب العالمي على المحروقات. وترافق النفطان المرجعيان الأساسيان ـ  »نفط غرب تكساس« و »برنت بحر الشمال« – في رحلة نزول طويلة ما فتئت أن تسارعت وتيرتها بالنسبة لـ  »نفط تكساس« الذي عرض مالكو عقوده الآجلة بيعه بالمجان، ثم اضطروا لدفع مبالغ فاقت بقليل 37 دولارا للمشترين مقابل تخليصهم من عبء تسلمه وتخزينه.

خزانات النفط الخام في مركز كوشينغ، ولاية أوكلاهوما الأمريكية

وتعد معضلة التخزين في الولايات المتحدة من الأسباب وراء هذا الوضع الذي يتعدى حدود المنطق. فازدهار صناعة النفط الصخري الأمريكية في السنوات العشر الأخيرة، بوأ الولايات المتحدة صدارة قائمة المنتجين قبل روسيا والمملكة العربية السعودية. وأمام وفرة المعروض في السوق الأمريكية وتراجع الطلب بسبب كورونا، اقتربت المخزونات الاستراتيجية الأمريكية من قدرتها القصوى. وقدرت الوكالة الأمريكية لمعلومات الطاقة أن الاحتياطي الأمريكي ارتفع في الأسبوع الثالث من أبريل بـ 19.2 مليون برميل، وهو أعلى معدل ارتفاع أسبوعي منذ بدء تسجيل إحصائيات الطاقة الأمريكية. وتتوقع الوكالة أن يصبح الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي غير قادر على استيعاب أي برميل إضافي بحلول منتصف شهر مايو إن استمر رفدُه بالنفط بنفس الوتيرة. وقد دفع هذا الوضع مستثمري النفط، وبخاصة الصغار منهم، إلى التخلص من عقودهم بأي طريقة قبل أوان التسليم المحدد في 21 نيسان/أبريل، وذلك تفاديا لكلف التخزين التي ارتفعت بشكل غير مسبوق.

سيف المضاربة ذو حدين!

والجدير بالتذكير أن الكثير من العقود الآجلة للنفط ليست في ملكية الشركات المنتجة، ولا حتى وسطاء النفط الحقيقيين. فالنصيب الوافر من النفط المتداول يوميا في البورصات العالمية هو في الواقع افتراضي، مجرد عقود ورقية تباع وتشترى وليس بضاعة! وقد حاول المضاربون كعادتهم استغلال الظرفية التي خلقتها جائحة كورونا لشراء نفط رخيص على أمل بيعه حين تتحسن أحوال السوق. غير أن السوق كذبت توقعات المضاربين: فلا الأسعار تحسنت ولا الطلب تحرك، وظل فيروس كورونا وحده متحكما في سوداوية المشهد.

وتطرح العقود الآجلة، كبقية أوراق التداول في البورصة، الإشكالية القديمة/الحديثة بشأن العلاقة بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد الافتراضي. حيث يقدر البعض أن ما يُتدوال في البورصات العالمية يتجاوز بثلاثة أضعاف على الأقل حجم الاقتصاد الحقيقي. والنفط لا يفلت من  »افتراضية« البورصات وجموح المضاربات. ومن هذا المنطلق، لا يُستبعد أن يخضع  »نفط تكساس« لنفس الضغوط السعرية حين تحين عقوده الآجلة الشهر المقبل.

ولكن، لماذا استفرد  »نفط تكساس« بلحظة الهبوط التاريخية بينما ظل نفط  »برنت بحر الشمال« متماسكا نسبيا ومحافظا على سعر يحوم حول الـ20 دولارا؟ في الواقع، فقد  »برنت« 60 في المئة من قيمته منذ بداية العام بسبب تأثيرات جائحة كورونا التي زادتها سوءا حرب الأسعار بين السعودية وروسيا. غير أن عقوده الآجلة لن تحين إلا في حزيران/يونيو المقبل. أي أنه لم يخضع بعد لضغوط سعرية مثل  »نفط تكساس«. ولا يرجح أن يواجه  »برنت« ضغوطا بنفس القسوة لأن إشكاليات التخزين تعد أقل حدة في بقية أنحاء العالم مقارنة مع أمريكا. ولذلك فإن أكثر ما يتابعه منتجو هذا النفط والنفوط المرتبطة به سعريا هو تطورات الحالة الوبائية في العالم والتأثيرات الإيجابية المحتملة لرفع قيود الحجر الصحي المفروضة على أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية.

 »لا وثوق في الحرب بالظفر«

بيد أن منتجي النفط خارج الولايات المتحدة قد يدركون بشكل متأخر أنهم قد ألحقوا بسلعتهم الأغلى أضرارا يصعب جبرها في الأمد القريب حين انبروا منتصف شهر آذار/مارس لحرب سعرية ضروس قطباها السعودية وروسيا. ولأن الحرب، كما يقول ابن خلدون،  »لا وثوق بالظفر فيها وإن حصلت أسبابه«، فإن أقطابها خاسرون جميعهم حتى الآن. فرغم اتفاق خفض الإنتاج بين موسكو والرياض، إلا أن السوق لا زالت متخمة بمعروض الأسابيع الفارطة ولا تبدو مستعدة لاستيعاب مستويات الإنتاج حتى بعد خفضها. ويقضي الاتفاق المتوصل إليه في  »أوبك بلاس« (منظمة الدول المصدرة للبترول زائد روسيا) بحفض الإنتاج ب10 ملايين برميل يوميا انطلاقا من 1 أيار/مايو ثم بثمانية ملايين يوميا حتى شهر كانون الأول/ديسمبر 2020. وهذه مستويات مهمة لو قيست خارج سياق الأزمة الراهنة. غير أن التقديرات تشير إلى أن الطلب تراجع في شهر نيسان/أبريل لوحده بنحو 30 مليون برميل يوميا، أي بثلاثة أضعاف التخفيض المتفق عليه. ما يعني أن العرض سيطغى على الطلب لأسابيع وربما لشهور قادمة، وسيشكل ضغطا على السعر حتى إن عاودت الاقتصاديات النهمة للنفط كالصين والاتحاد الأوروبي نشاطها تدريجيا، وهو أمر غير مضمون. حيث تميل أغلب التوقعات إلى أن يتواصل تراجع الطلب العالمي على النفط بمعدل 10 ملايين برميل يوميا حتى نهاية العام. وهو ما سيشكل اختبارا عسيرا لقدرات التحمل لدى اقتصاديات الدول المصدرة للبترول.

تدني أسعار النفط.. الدول العربية المصدرة تقاوم الانهيار

المصائب لا تأتي فرادى. تلك هي حال الدول العربية المصدرة للنفط التي تعيش صدمة تهاوي الأسعار بالتزامن مع الصدمات الصحية والاقتصادية والاجتماعية التي حبلت بها جائحة كورونا. فضلا عن مشكلاتها الجيوسياسية التي لا تكاد تنتهي.

وتعاني اقتصاديات هذه الدول من ضغوط شديدة مع تفاوت في قدرتها على الاستجابة لتحديات المرحلة، واحتواء التداعيات المحتملة على المديين المتوسط والبعيد. لكن الأكيد أن الجزائر تتصدر دول المنطقة الأكثر تضررا بسبب تراجع أسعار النفط. ذلك أن حراكها الشعبي شل الحركة في البلاد لسنة كاملة قبل أن تزيد جائحة كورونا ووضعية سوق النفط من تآكل قدرتها المالية على المقاومة. وتتوجه الجزائر، حسب صندوق النقد الدولي، نحو تسجيل عجز في الموازنة يعادل 20 في المئة من ناتجها الداخلي الخام، وعجز في الحساب الجاري ب18.3 في المئة، وهو أسوأ من لبنان مثلا (12.6-) رغم أن الأخير دخل مطلع آذار/مارس الماضي نادي الدول المتخلفة عن سداد ديونها. وإذا كانت الجزائر لا تعانى من ثقل المديونية الخارجية، إلى أنها قد تضطر قريبا إلى العودة إلى الاستدانة في ظل توقعات بأن تنزل احتياطياتها النقدية تحت عتبة 13 مليار دولار عام 2021، أي بتراجع 90 في المئة عن مستوى سنة 2017.

أسعار بعيدة المنال

وتحتاج الجزائر إلى سعر نفط فوق 157 دولارا للبرميل لسد العجز في موازنتها، وهو الأعلى بين كل الدول العربية المصدرة للنفط. ويتأرجح السعر المبتغى لسد العجز بين 95 دولارا للبحرين، و86 دولارا لسلطنة عمان، و76 دولارا للسعودية، و69 دولارا للإمارات العربية المتحدة، و61 دولارا للكويت، و60 دولارا للعراق، و55 دولارا لقطر. وهي مستويات لا يبدو أن النفط قد يسترجعها قريبا في ظل الظرفية الوبائية والاقتصادية التي يعرفها العالم. كما أنها تعكس الفشل المتراكم لعقود في تنويع مصادر الدخل والتخفيف من الإدمان على ريع النفط.

وتتجه الأنظار بشكل خاص إلى أكبر اقتصادين حجما في المنطقة – السعودية والإمارات – لمتابعة استجابتهما للظرفية المستجدة. فالسعودية التي راهنت على سعر 60 دولارا للبرميل في موازنتها لهذا العام قد تكون أخطأت التقدير (في التوقيت على الأقل) حينما أشعلت حرب الأسعار مع روسيا للحفاظ على حصتها السوقية وتقزيم صناعة النفط الصخري الأمريكية. لأن تداعيات تلك الحرب قد تتجاوز تأثيرات جائحة كورونا نفسها على سوق النفط. وسيكون على المملكة مراجعة خططها بواقعية شديدة لسنوات قادمة حتى لا تنهك احتياطياتها التي سحبت منها هذا العام 120 مليار ريال (32 مليار دولار). ويدخل ضمن تلك المراجعة سياسة خفض الإنفاق الحكومي، وتأجيل بعض المشاريع المعلنة أو تعديلها، واللجوء إلى سوق الدين العالمي، وربما خفض المجهود الحربي في اليمن من خلال تشجيع حل سياسي بين الفرقاء اليمنيين.

وتبدو الإمارات أفضل حالا مقارنة مع جارتها الكبرى بالنظر إلى حجم احتياطياتها الذي يقيها من الصدمات. ولكن، وبالرغم من كون الاقتصاد الإماراتي الأكثر تنوعا والأقل اعتمادا على النفط مقارنه ببقية بلدان الخليج، إلا أن عجلته لن تدور كالسابق دون عودة أسعار النفط إلى مستويات مريحة. ذلك أن قطاعات السياحة والطيران، وإعادة التصدير وأغلب فروع الخدمات توقفت بالكامل تقريبا بسبب جائحة كورونا وارتباطها الكبير بالأسواق العالمية المترنحة. ويعكس الوضع في إمارة دبي، التي تتجه إلى تأجيل معرض  »إكسبو 2020«، معاناة النشاط الاقتصادي غير النفطي في البلاد. فعودة السياح لا تبدو مرجحة قريبا، وقطاع العقار يعيش أزمة شبيهة بعام 2008 وما تلاه، وجوهرة التاج في اقتصاد الإمارة  »طيران الإمارات« قد تسجل خسائر لأول مرة منذ أن أفردت جناحيها للريح عام 1986.

أما قطر، فقد تبدو ظاهريا أنها مرتاحة لمغادرتها منظمة أوبك عام 2018، ولاعتمادها المحدود نسبيا على النفط. لكن بواعث قلقها قائمة وتتعدى الضغوط المالية التي خلفها حصار جيرانها الخليجيين. ذلك أن أسعار الغاز ـ مصدر الدخل الرئيس ـ سارت في ركاب النفط ونزلت إلى مستويات معادلة لسعر الفحم الحجري! وهذا مؤشر لا شك ستقرأه الإمارة الغنية جيدا وهي المقبلة على مشاريع استثمارية ضخمة ومكلفة لاحتضان كأس العالم 2022.

 

العدد 104 – أيار 2020