حين يتوقف الزمن وتمرض الايام

تبقى لنا ارادة الحياة و.. قوة العزم والتصميم

أمين الغفاري

هل اصبحنا نعيش بالفعل في واقع مر، تتوالى احداثه، وتتفاقم أحزانه ولا نملك معه أو منه فكاكا. قدر صيغت فصوله، وكتبت تفاصيله، وليس علينا سوى أن نتعايش معه، ونرى الى اي منحى تسير بنا الحياة، وتأخذنا الأيام. أم أننا كمن يحاول ان يتلهى فيتصور أنه يشاهد عن قرب نوعا من افلام الخيال العلمي الكئيبة، التي حكمت على شعوب العالم أن تبقى حبيسة منازلها. أصبحنا في حدائق الأنسان، بعد ان كنا نراقب الحيوانات داخل الأقفاص في حدائق الحيوان. مفارقة غريبة لا شك تستدعي الأبتسامات. بعد ان فرضت عليها قيودا، هي الأقرب الى الأغلال، تمنعها من حرية الحركة ان لم يكن بقوة المنطق والمصلحة العامة فبقوة القراروسلطة الالزام. انها بلا ادنى شك تجربة فريدة كونية، مسرحها العالم كله، ولها تداعياتها – بالتأكيد – على مستويات متعددة بل ومختلفة. تجربة يمكن ان تعيد الى ذاكرتنا أحداثا مرت بها مجتمعاتنا من قبل، وان كانت بصور مختلفة، تجربة لا يمكن ان تسقط بالتقادم. لقد عرفنا الكثير من المحن، وقاسينا الكثير من الويلات، ولكنها كانت محنا نعرف اشكالها وان غابت تفاصيلها، وان كانت كشفت بعد ذلك، ولكننا اليوم نعيش خطرا هائما يترقبنا في كل خطوة، ومع كل نفس، ولانعرف من اين تأتي ضربته التالية.

حرب كونية بسلاح مختلف

تعارفنا عبر قرون خلت، على نوعيات السلاح، وتطورها من أول استخدام اليد في توجيه اللكمات الى الأسلحة المدببة من الأدوات الحادة من السكين الى السيف الى الاسلحة النارية بنوعياتها ودرجاتها المختلفة، ومن المسدس الى البندقية الى المدفع الى الدبابة، ومن الطائرة الى الصاروخ، ومن القنابل اليدوية الى الذرية والهيدروجينية

الرئيس الامريكي دونالد ترامب
اعطى توجيهاته لأجراء البحوث اللازمة للعلاج وانتاج وسائل الحماية

الى الصواريخ العابرة للقارات، وداهمتنا حروب محلية وثنائية الطابع الى ان تطور بنا الحال فنتعارف على الحروب العالمية، التي اشتبكت فيها امبراطوريات بكل مالها من قوة وعتاد وقدرات هائلة في الفتك والتدمير، والهدم والقتل بلا رادع او حساب.

 لقد داهمتنا الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، واكتوينا بلهيبها، وتمخضت في  النهاية عن تقسيم بلادنا الى مناطق للنفوذ بالأحتلال الصريح بدعاوى الحماية والوصاية والأنتداب، ولم يكن الأمر في النهاية سوى تقسيم لتركة الرجل المريض وهو الأمبراطورية العثمانية، بين اصحاب المصالح من مراكز القوى لأصحاب القرار على المستوى الدولي وتشكلت عصبة الأمم المتحدة، لتكون مظلة الشرعية للقادة الكبار، وتحت راياتها عشنا عقودا من الاحتلال، رغم المقاومة التي امتهنتها الشعوب الضعيفة في مقاومة هذا الطغيان ولم تهدأ المقاومة، ولم تستسلم للأذعان حتى في أشد الأزمات.

 ثم الحرب العالمية الثانية(1939 – 1945) التي تمخضت عن بروز كتلتين رئيسيتين في العالم، وكانت الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الامريكية القوة الجديدة الأستعمارية البازغة، والكتلة الأشتراكية بزعامة الاتحاد السوفيتي، وتشكلت الأمم المتحدة، لتبدأ الحرب الباردة، بعد ان أطلت القنبلة الذرية والهيدروجينية براسها، وكانت اليابان هي الضحية، وكانت ايضا هي الدرس، لكي يرتدع المتهور أو الذي يتطلع الى ومضة نور في سماء الحرية، ثم عشنا. الحرب العراقية الأيرانية (1979 – 1988)، ويتلوها الغزو الأمريكي للعراق (2003) الذي أريد به قنص العراق وتدميره، وليس فقط تنحية نظام، وآثار ذلك كله على المنطقة تحديدا وعلى العالم اجمع بعد سقوط الأتحاد السوفييتي. ثم جرت حروب بالوكالة على اكثر من ارض عربية أثر ما يعرف بالربيع العربي.

 اليوم نشهد حربا جديدة ولكنها حربا كونية، بالمعنى الحرفي وليس المجازي، وقد فرضت نفسها فجأة على حين غرة، ويقودها فيروس شديد الضآلة لا تراه بالعين المجردة، ولكنه شديد البأس، عظيم الخطر، وتقف كل تلك الأسلحة الذرية بكل جبروتها عاجزة تماما عن اي تصرف في مواجهة تلك الغارة التي يقوم بشنها وهو عدو قاتل، لا يرحم ولا يفاوض، ولكنه يقتحم ليمتص قوة الجسد، ويدمر جهاز المناعة، في غيبة المصل الشاف أو الدواء الناجع، ولايملك أحدا في مقابلة شيئا سوى بيانات التحذير من القادة الكبار ومناشدة الرؤساء أن يقبع المواطنون في المنازل، وأن يعملوا من خلال البيوت والى متى، فان الآماد مفتوحة وغير منظورة.

السؤال ماذا حدث، وماذا جرى وكيف يمكن رصد الوقائع ؟

هل تصلح نظرية المؤامرة أداة للتفسير ؟

حين يعجز العقل عن التحليل، وتتعطل أدوات المعرفة عن التفسير، تنطلق قذائف الأتهام بوجود مؤامرة، تحركها مطامع سياسية، أو صراعات اقتصادية أو حروب تجارية، وتكون نتيجتها اجتهادات، تعطي ظهرها للأنسانية، مثل ظهور ذلك الفيروس، ويقول مثلا احد الباحثين وهو الدكتور محمد حمزه الحسيني أن (كورونا) ليس فيروسا طبيعيا، وأنما هو فيروس مصنع بيولوجيا، وتم تجهيزه ليكون أداة سيطرة في الحروب التجارية، ويشير الى احتمال أن يكون بين الصين والولايات المتحدة. انه فيروس معدل وراثيا. لكن الرد على هذا المنطق شديد البساطة واليسر. ان كانت تلك مؤامرة فمن المستفيد ؟ ان الكل خاسرون بصرف النظر عن التوصيف الحقيقي لتلك المؤامرة ان كانت هناك ذرة من العقل في قبولها. انها مؤامرة وحشية ان وجدت أو حتى تم تخيلها.

ان التاريخ تمتلئ جعبته بالمؤامرات التي نسجت، ولكن التاريخ في حركته ليس مجرد مؤامرة، والتاريخ ان كانت تحركه المصالح، فعماده الشرعية، وفرق كبير للتخطيط من أجل التنمية أو زيادة الدخل أو تعزيز الموارد، وبين التآمر للهيمنة والسيطرة وتعزيز النفوذ، وان خرجت المصالح أو تحققت من خلال التآمر فعمرها بمقياس الزمن

بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني
هاجمه المرض، لا سلطة نحمي، ولانفوذ يتصدى، ولكن النظام الصحي وكفاءته هو الذي يتكفل

لا يطول، وليس هناك سر لم يتكشف، ان اغتيال كيندي الذي ما زالت حقائقه تحيط بها الالغاز، فان دوافعه ستظل محط الاهتمام، وسوف تأتي لا محالة لحظة الأنكشاف، من كان المستفيد، ومن خطط ودبر وقتل. ان معركة (كورونا) حدث طارئ في التاريخ المنظور، ولقد سبق أن تعرضت دولا عديدة من العالم للأوبئة، وشهدت عواصم كثيرة وكبيرة هذه الانواع من الكوارث، وسقطت الآلاف من الضحايا، ولكن تلك هي المرة الأولى التي تطال الكارثة ربوع العالم على امتداده، مما يعطي الخيال فرصا ارحب في التصور ونسج القصص والروايات حول المؤامرات وتخطيها لكل القيم الانسانية المتعارف عليها. بالتأكيد هناك تنافس، وهناك صراعات، وسوف تظل، ولكن هل يمكن ان تصل الى مستوى الحروب الجرثومية للفتك بالأعداء، وحتى بالخصوم، هل يمكن ان تختفي انسانية الأنسان، هل يمكن ان تتوارى الخصال الرفيعة، هل بالمقدور ان يتوحش البشر ؟

الواقع على الارض يهتف للانسان

ان ما يجري على الارض يتناقض مع تلك النظرة السوداء. ان الواقع يرسم ملامح الانسان الحقيقية في الأزمات، ان تلك الجيوش البيضاء تضرب المثل، ونقصد بها جيوش الأطباء الذين يرتدون المعاطف البيضاء، ويسهرون على رعاية المرضى، ويتعرضون للعدوي ومنهم من دفع حياته بالفعل تلبية لنداء الواجب، انهم ملائكة الرحمة، ورسل تخفيف الآلآم والأوجاع، الذين يهتفون بالعمل، وليس من خلال الصوت أن الأنسانية ما زالت بخير. نتأمل معا تلك الصورة الوضاءة لأطباء صوماليين تعلموا وتخرجوا من جامعة مقديشيو الوطنية، وهم من المتخصصين، وسافروا الى ايطاليا لدعم جهود الأطباء الأيطاليين، وبقية الأطباء المتطوعين من روسيا والصين وكوبا، وقد ذكرت اسماؤهم صحيفة (نابولي الأيطالية)، وفي التصريحات التي، ادلوا بها قالوا (أن من علمونا الطب كانوا ايطاليين). انه العرفان بالجميل، ونجد بجوار هذا الخبر، قصةأخرى عن ذلك المهندس المتخصص في الكومبيوتر واسمه (أوليفر طاهر) وهو ايضا من ابوين صوماليين ولكنه ولد في نابولي، وقد سجل نجاحا في اسهاماته العلمية هناك وقد قال عقب وصول الأطباء الصوماليين (أنه خبر أبهجني وجعلني فخورا بأبناء بلدي فهم يلبون نداء الواجب من خلال تعاونهم في تلك الازمة).

العالم أصبح أصغر من اي قرية صغيرة

بفعل التطور الكبير والمذهل في حركة الطيران، ونشوء الشركات العملاقة عابرة القارات

والتقدم العلمي في مجال التكنولوجيا والطفرة في حركة التجارة الدولية وازدياد شبكة الأتصال والتواصل. نجد واقعا جديدا، لقد أصبح العالم أصغر من أي قرية صغيرة، ما أن ظهر فيروس في مقاطعة صينية، حتى انتشر في أنحاء العالم بسرعة الصاروخ عابر القارات، وينتشر معه الخوف الى حد الذعر.

نتأمل معا هذا الصرخة التي صدرت عن طبيب القلب الايطالي (فابيو بيفيرالي) الذي أمضى ثمانية أيام معزولا عن العالم في وحدة العناية المركزة والانعاش في مستشفى بوليكينيواو مبرتو في روما بعد اصابته بالفيروس، والآلام التي عاناها، وعاناها آخرون سمع انفاسهم تتردد، وهي تتحشرج، ، كما روى ذلك لوكالة الأنباء الفرنسية، وقال تحت عنوان (في مستشفيات روما.. ليالي المرضى وشبح الموت) استطرد والدموع تنهمر من عينيه أنه رأي حالات كثيرة لمرضى يصرخون من شدة الألم، كان صراخا اشبه بالأستغاثة، ولكن كيف تساعد، ذلك هو السؤال كان القلق يجتاحني، وشبح الموت يتجول في الأرجاء، وأدرك ان ساعة النهاية تقترب، ولايرى أحد من أهله. لقد خرج من تلك المحنة لكي يضع نفسه رهن مسؤولية جديدة أخذها على عاتقه وهي (سأكافح من أجل الصحة العامة، ولاينبغي أن تكون هذه الصحة العامة قضية مال أو ثراء، أو ان نتركها بين ايدي السياسيين، علينا أن نكافح وأن ندفع من أجل أن نحصل على أفضل الأنظمة الصحية في العالم.

خلاصة القول

يكثر الحديث تلك الايام ان هذه المحنة سوف تمر، وأن فيروس كورونا سيهزم امام مختبرات العلم، ولكن ماذا بعد. يتصور الكثيرون ان العالم سيتغير، وان عرش الولايات المتحدة في قيادة العالم سيزول أمام الزحف الصيني الذي أثبت كفاءته في القضاء على فيروس كورونا في اسابيع قليلة، بالأضافة الى النهضة الاقتصادية التي حققتها الصين،

لكن الأهم في الأولويات المحلية الخاصة بكل دولة، ان يكون الدرس من تلك المحنة هو عاملان مهمان للغاية وهما التعليم والصحة، لقد هاجمنا المرض، وأصبحنا نتسول انظمة للعلاج من الخارج وفي المقدمة منها الصين بحكم التجربة والمانيا بحكم الثقة في علمائها. ان الأعتماد على النفس لابد ان يكون هو المنهج الأساسي في عالم يبني تقدمه وانجازه من خلال حركة الصراع والمنافسة، لا التعاون من اجل الرخاء كما ينبغي ان يكون الحال، ان العالم لابد ان يتغير في طرح المفيد والابقى، وبقدر ما ترتفع قيمة الانسان بقدر ما تعلو قيمة الحضارة.

ان ترامب زعيم دولة الراسمالية الأولى في العالم اضطر الى التدخل باسم الدولة لتكليف بعض الشركات باجراء البحوث اللازمة لأنتاج الأدوية الخاصة بالعلاج،

الرئيس الايطالي سيرجيو ماتاريلا
مرت ايطاليا بتجربة صعبة تستوجب استيعاب الدرس

وأخرى لوسائل الحماية والوقاية فالضرورة تستلزم اجراء التعديلات في الانتاج بصرف النظر عن فلسفة الحكم واتجاهاته.

وجونسون رئيس الوزراء البريطاني وقع فريسة للمرض ونسأل الله له السلامة، رغم كل وسائل الحماية، فالأمراض لا تعرف سلطة، ولانفوذ، وهي في ذاتها أداة الخطر، ومصدر القلق والأزعاج.

ثم هناك تصريح منسوب لمصمم الأزياء الإيطالى الشهير جيورجيو أرمانى Giorgio Armani، بعد تبرعه بمليون و250 ألف يورو أثر الأزمة التي تمر بها ايطاليا، وقد نشر أنه قال: (لن أقبل أن تسقط إيطاليا على ركبتيها ولو كلفنى هذا الأمر كلّ ثروتي).

وحده النظام الصحي ومدى كفاءته، ومدى الأستعداد للمواجهة مع اخطار نتعايش معها، ولكن الى حين، تحاول ان تنقض وتفتك، ولايقف لها سدا منيعا، وسلاحا واقيا سوى التقدم العلمي ببحوثه واكتشافاته، وكفاءة النظام الصحي وجدارته.

ستمضي الأيام، وستنتصر الحياة رغم المتاعب والقلاقل وكل العذابات، وستصبح حدثا من أحداث التاريخ ككل وباء، وكل حرب، وكل أزمة، ستمضي لأنه رغم توقف الزمن برهة، ومرض الأيام حينا، لابد في النهاية – بعد استيعاب الدرس – أن تنتصر الحياة، ويقوى عزم الأنسان في الصمود وتحقيق الأنتصار.

 

العدد 104 – أيار 2020