يوميات: اللبنانيون في مواجهة المجهول

السياسيون إلى الواجهة مجددا.. لكن  »علبة الكرتون« لن تقضي على الفقر

بيروت- غسان الحبال

مع بدء كل أول شهر يحلّ  »كابوس« يطارد اللبنانيين في يومياتهم العادية التي لا تشبه يوميات مواطنين يعيشون في دول تحترم نفسها وشعبها. كابوس يزيده ثقلا ترافقه مع حجر المواطنين في منازلهم تحسبا لتفلت الأمور وانتشار وباء  »كورونا«، وانقطاع مئات الآلاف عن موارد رزقهم وعيشهم، أو خسارة أعمالهم بشكلٍ كامل.

تحت ضغط هذا الكابوس باشرت الحكومة اللبنانية باتخاذ حزمةٍ من الإجراءات الوقائية، أعلنتها تباعا ومضت في التشدد بها بعد أن أصبح التجوّل في الليل محظورا. لكنّها، اي الحكومة، وجدت في  »كورونا« سبيلا لبسط هيبتها وسلطتها، فبدتْ  في المقابل عاجزة، وحتّى فاشلة، عن تأمين الحدّ الأدنى من الأمن الاجتماعي، الذي يقي الناس من شرّ استمرار احتجازهم في منازلهم من دون عمل.

الحل ليس في  »علبة كرتون«

يظن لبنان الرسمي، كما حال أحزاب لبنان وتياراته التي تستغل بدورها الأزمات الاجتماعية والصحية، أنّ مجرد  »علبة كرتون« تحتوي على كيلوغرامات قليلة من الرز والعدس والسكر والمعلبات والزيت والمعكرونة، ستؤمن حصانة الأمن الاجتماعي، وتضع الناس أمام حتمية البقاء في منازلهم، لا بل يظنون أنّ إلتزام المواطنين بقرارات التعبئة العامة ينبع من إيمانهم وثقتهم بحرص الدولة على حياتهم، وليس خوفهم من الإصابة بالعدوى وتهديدهم في أرواحهم ما يفرض عليهم فعلا الحجر على أنفسهم داخل المنازل، فآلاف اللبنانيين تركوا أشغالهم، طُردوا من أعمالهم اليومية، والتزموا الحجر في منازلهم بعد أن وجدوا أنفسهم بين تهديد  »الموت جوعا« أو  »الموت مرضا«، لكن هل أن الجوع الذي يعانيه المواطنون يقتصر على الطعام فقط، وأن  »علبة كرتون« من المواد الغذائية، أو باقة انترنت مجانية لا توازي نقطة في قطاع الاتصالات الذي لم يكفّ يوما عن مراكمة الأرباح من جيوب الناس، تكفي لسد جوعهم ومعاناتهم مع عائلاتهم؟  الجوع الحقيقي الذي تعانيه الطبقة الفقيرة من اللبنانيين هو الخوف من الذلّ وعجزهم عن دفع إيجارات منازلهم وفاتورة الكهرباء والهواتف والماء والمولد الكهربائي، فضلا عن كلفة فواتير الدواء الشهرية لمواطنين لا يتمتعون بالتغطية الصحية، لا من وزارة الصحة ولا من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

ففي حسبةٍ بسيطة لمدخول مواطن عادي يتقاضى الحدّ الأدنى للأجور، وقد تدنت قيمته الشرائية في ظلّ انهيار الليرة اللبنانية وتفلت السوق السوداء لصرف الدولار، والذي لا يكفيه أصلا لتسديد إيجار منزله وجانبا من فواتيره الشهرية المتراكمة. ثمّ بالنظر إلى العاملين في القطاع الخاص، نجد أنّ شريحة واسعة من الموظفين والعمال انقطعت رواتبهم، أو يتقاضون نصف راتب في أحسن الأحوال، أو أن المصرف حرمهم من راتبهم إن كان مدولرا، أو احتجز مدخراتهم القليلة التي جنوها طوال عمرهم وسنين كدحهم في العمل، أو صاروا عاجزين عن تسديد ديون وقروضٍ استدانوها لتأمين العيش بكرامة.

هذا بالنسبة لواقع العاملين في القطاع الخاص، فماذا عن أحوال المياومين في لبنان، هنا تحل الفاجعة وتفوق الكارثة أضعافٍ الخوف من الإصابة بفيروس  »كورونا«، وهؤلاء عددهم يتجاوز مئات الآلاف من البقاع إلى الجنوب والضاحية فطرابلس وعكار، ويعيشون يوما بيوم بمعدل 20 ألف ليرة لبنانية فقط من دون أيّ ضمانٍ لحياتهم وصحتهم وعائلاتهم، وهؤلاء هم الأكثر تضررا، مهمّشون ومنسيون ولا يملكون ترف الاقتراض من البنوك لأنهم لا يملكون راتبا شهريا، ولا يتمتعون بتغطية صحية،

عمال لبنان يتظاهرون.. الموت جوعا او بالـ »كورونا«؟

فضلا عن أنهم يعملون في أشقى وأخطر المهن كالعتالة وجرّ العربات وورش البناء والحديد والخشب والتنظيف، في الأسواق والمحلات والمصانع. فهل تساءل مسؤول عن واقعهم حين يضطرون للحجر على أنفسهم في منازلهم؟

لبنان وعقدة البنك الدولي

امام مخاطر كورونا على الشعوب، تحركت دول العالم، المقتدرة منها وغير المقتدرة، فقدمت المقتدرة منها رزما تحفيزية كبيرة لدعم بقاء الناس في منازلهم، ودعم استمرارية الشركات، فيما لجأت الدول غير المقتدرة الى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي الذي وضع برنامج مساعدات مالية للدول المحتاجة، قيمته 50 مليار دولار، وقد تقدمت اليه 81 دولة طلبا للمساعدة.

حتى الآن، وعلى رغم دقة الظروف المعيشية والاجتماعية للأسر اللبنانية، لم يطلب لبنان مساعدة الصندوق، فيما المساعدات المقررة ضمن برنامج دعم الأسر لم تتسع لتطاول التزايد الحاصل في عدد الأسر المحتاجة.

بحسب الأرقام المتوافرة، تستفيد في لبنان من البرنامج اليوم 43 ألف أسرة من منح مختلفة، فيما تقدَّر نسبة الفقراء بـ42 في المئة، وتبلغ نسبة الذين يعيشون في الفقر المدقع، اي بأقل من دولارين في اليوم، 22 في المئة، وفق آخر إحصاءات البنك الدولي، الذي خصص للبنان ضمن البرنامج 450 مليون دولار مقابل توسيع قاعدة البيانات من 150 ألفا الى 300 ألف.

والأسئلة الملحّة المطروحة اليوم: اين الحكومة من هذا البرنامج، وهل قرارها بتأمين مساعدات مالية بقيمة 400 الف ليرة للأسرة المحتاجة، يندرج ضمنه ام انه من موازنة الدولة؟ واذا كانت هذه هي الحال، من اين ستؤمّن الحكومة المال، وما هي المعايير التي اعتمدتها لاختيار الاسر التي ستستفيد من هذا الدعم، ومن هي الفئات المستهدفة، ومتى يبدأ تطبيق هذا الدعم، وما قيمته الإجمالية؟

مصادر مطلعة في وزارة المال كشفت ان الحديث مع صندوق النقد كان بدأ قبل نحو ثلاثة أشهر، من اجل الاستفادة من التمويل الموضوع لمساعدة الدول ذات الدخل المتدني، المتضررة من جراء تفشي الوباء. ولكن لبنان لم يتمكن من الإفادة من هذا الدعم لأن الصندوق لا يصنفه ضمن الدول ذات الدخل المتدني، بل المتوسط، فنسبة الدَّين الى الناتج مرتفعة، كما ميزان المدفوعات. لذلك كان من الصعب الحصول على المساعدة. اما بالنسبة الى البنك الدولي، فتقول المصادر ان مسؤوليه ابلغوا السلطات اللبنانية انه جاهز للمساعدة الفورية ضمن الاعتماد البالغ 450 مليون دولار، منه 200 مليون على شكل هبات، و250 مليونا على شكل قروض ميسرة.

كما ان البنك وضع في تصرف لبنان فورا مبلغ 120 مليون دولار، بعدما كان المبلغ 159 مليونا، وسحبت الحكومة 39 مليونا لتغطية تكاليف طبية متصلة بالكورونا. وقد أمّن المجلس النيابي صرفها فورا ويمكن بالتالي استعمال المبلغ المتبقي.

هذا الواقع يطرح اكثر من علامة استفهام عن الأسباب التي تمنع الحكومة من استعمال هذه الأموال الجاهزة، بهدف مواجهة التداعيات الخطيرة المرتقبة على المجتمع اللبناني من جراء استمرار حال الحجر المنزلي وتوقف العجلة الاقتصادية. وهل هذا يعود الى خلفيات سياسية تتصل بمن سيستفيد من الأموال؟

 »كورونا« يعيد السياسيين إلى الواجهة

في ما عدا صندوق التبرعات، والمساعدة المالية، لا ترقى المعالجات الحكومية الى المستوى المطلوب الذي يقي اللبنانيين، ولا سيما منهم الفقراء ومن هم دون خط الفقر، العوز، بعدما ضربت ازمة كورونا، واجراءات الحجر المنزلي والتعبئة العامة أيَّ إمكانية لهؤلاء لتأمين حاجات معيشتهم اليومية، فيما تغطي المبادرات الخاصة جزءا من هذه الحاجات وليس كلها.

حتى الآن، لا يشغل الحكومة الا إبراز انجازاتها على مستوى احتواء تفشي الفيروس ومنع توسع انتشاره، فضلا عن حشد الطاقات لاستقبال اللبنانيين العائدين من الخارج وتأمين الفنادق الحجر عليهم الفترة المطلوبة. ولكن ماذا عن المرحلة الانتقالية والإعداد لما بعد كورونا، وهل لدى الحكومة أي تصور في هذا المعنى لم تكشف النقاب عنه في انتظار ان يبدأ استهدافها لتحرك اجهزتها والمستشارين لمواجهة التداعيات الكارثية التي بدأ عدد غير قليل من الخبراء والاختصاصيين في مجال السياسات العامة يحذرون منها؟

قبل شهرين، فقط شهرين على بدء أزمة كورونا، كان لبنان بأكمله في حال انهيار اقتصادي ومالي ولم يحرك أحد من المسؤولين ساكنا. بل اختفوا تماما من المشهد السياسي والإعلامي العام.

وفي الأثناء بحّت أصوات مدراء المستشفيات، وهم يحذرون من نقص المعدات الطبية. وصرخات الناس كانت وما زالت تطالب بالمساعدة في ظل الأزمات الاقتصادية والمعيشية المتلاحقة التي تعصف بلبنان، من دون أن تلقى آذانا صاغية رسمية وغير رسمية.

وحدها أزمة كورونا حركت القوى السياسية التي أخذت تتنافس على حجز مكان دعائي لحملاتها  »الخيرية«. وانطلق السياسيون لتقديم التبرعات للمستشفيات وللأطقم الطبية. والتبرعات والمساعدات هذه ما هي اليوم إلا مساحيق لترميم صور السياسيين والقوى السياسية، وكأن فيروس كورونا قدم أكبر خدمةٍ للسياسيين الذين تمكنوا بفضله من استعادة مجدٍ كاد يهتز. فبعدما تمكن معظم الناس من الخروج على ولاءاتهم للزعامات، وتحطيم تابوهات انتماءاتهم السياسية، جاء كورونا منقذا للسياسيين والزعماء.

واليوم استطاع الوباء حجر المواطنين والمتظاهرين في منازلهم، وحرر السياسيين الذين وظفوا رعب الناس وعزلتهم، ليعودوا إلى الظهور كمخلصين من العوز والشح في المستلزمات الطبية، وهكذا استعادت الأحزاب تموضعها في مناطق سيطرتها. وعاد النواب لتلميع صورهم لدى ناخبيهم، وعاد السياسيون للظهور بكثافة على الشاشات التلفزيونية. بعضهم راح يتبرع بفتات ثروته لشعبٍ كانوا قد أمعنوا في سرقته وإذلاله،فـ »كورونا« الذي زرع الخوف في قلوب الشعوب جميعا، أثلج قلوب سياسيي لبنان.

سد بسري.. صفقة أم مشروع؟

وفي خضم الأزمة الكارثية التي تعصف بالبلاد، ووسط التوقعات بأن تولي الحكومة أهمية لمشاريع أخرى أكثر إلحاحا في ظل الأزمة الإقتصادية التي فاقمها خطر انتشار فيروس  »كورونا«، ها هي الحكومة تستغل الوضع وتقرر الاستمرار في مشروع سد بسري الذي تبلغ كلفته 625 مليون دولار هي قرض من البنك الدولي، الأمر الذي يطرح تساؤلات إضافية عن استمرار الحكومة في نهج الاقتراض لتنفيذ مشاريع مضرة بالبيئة ضاربة عرض الحائط الاعتراضات الشعبية والعلمية التي تطالب بوقفه، وتفنيد مخاطره وضرره على البيئة، فتقرّر حكومة الرئيس حسّان دياب الإستمرار بنهج السلف والمضي بصفقة السد على الرغم من كلفته المرتفعة على البيئة وتهديده بتدمير الأراضي الزراعيّة والأحراش والمواقع الأثرية في أحد أهم الوديان في لبنان.

وفي حين اتجهت الأنظار إلى وزارة البيئة برر الوزير دميانوس قطار الأمر بأن  »وزارة الطاقة هي صاحبة المشروع وفي حال تمت مخالفة البنود المذكورة في الدراسة تُبلّغ وزارة البيئة النيابات العامة للتحرك، علما أنها لا تملك شرطة لقمع المخالفات«. وحول رأيه الشخصي في مشروع السد، يقول قطار أنه تسلم حقيبة البيئة  »بينما كان المشروع في مرحلة متقدمة«.

سد بسري.. صفقة أم مشروع؟

وفي خضم الأزمة الكارثية التي تعصف بالبلاد، ووسط التوقعات بأن تولي الحكومة أهمية لمشاريع أخرى أكثر إلحاحا في ظل الأزمة الإقتصادية التي فاقمها خطر انتشار فيروس  »كورونا«، ها هي الحكومة تستغل الوضع وتقرر الاستمرار في مشروع سد بسري الذي تبلغ كلفته 625 مليون دولار هي قرض من البنك الدولي، الأمر الذي يطرح تساؤلات إضافية عن استمرار الحكومة في نهج الاقتراض لتنفيذ مشاريع مضرة بالبيئة ضاربة عرض الحائط الاعتراضات الشعبية والعلمية التي تطالب بوقفه، وتفنيد مخاطره وضرره على البيئة، فتقرّر حكومة الرئيس حسّان دياب الإستمرار بنهج السلف والمضي بصفقة السد على من كلفته المرتفعة على البيئة وتهديده بتدمير الأراضي الزراعيّة والأحراش والمواقع الأثرية في أحد أهم الوديان في لبنان.

وفي حين اتجهت الأنظار إلى وزارة البيئة برر الوزير دميانوس قطار الأمر بأن  »وزارة الطاقة هي صاحبة المشروع وفي حال تمت مخالفة البنود المذكورة في الدراسة تُبلّغ وزارة البيئة النيابات العامة للتحرك، علما أنها لا تملك شرطة لقمع المخالفات«. وحول رأيه الشخصي في مشروع السد، يقول قطار أنه تسلم حقيبة البيئة  »بينما كان المشروع في مرحلة متقدمة«.

إلا أنه في وقت لاحق منتصف شهر نيسان/إبريل الماضي، نجح أهالي منطقة حوض بسري بالتعاون مع الناشطين البيئيين ومنظمات المجتمع المدني وثوار انتفاضة 17 تشرين 2019، في تسجيل تقدم ملحوظ في معركة إيقاف سد بسري عبر فتح نقاش جدي واجتماعات في البنك الدولي، أحد الممولين الرئيسين للسد، انتهت إلى تجميد دفع الأموال لصالح تنفيذ السد واستعداد البنك لتحويل القرض لأهداف أخرى من بينها مكافحة الفقر في لبنان، بناء على طلب الحكومة اللبنانية. وعليه، صارت الكرة اليوم في ملعب لبنان، وتحديدا الحكومة اللبنانية التي سبق لعدد من المسؤولين السياسيين فيها أن أثاروا عدم قدرتهم على تحويل القرض عن الهدف الرئيسي للإستدانة، وهو ما دحضه مؤخرا قرار البنك الدولي.

الانهيار فرصة لبناء المستقبل

تشير التوقّعات إلى أن العالم يسير نحو ما يُشبه الكساد الكبير الذي ضرب أهمّ الاقتصاديات العالمية قبل تسعين سنة.

لكن، إذا كان العالم منشغلا عنّا فلا يجوز أن ننشغل نحن عن أنفسنا. إن المسألة بالنسبة إلى الشعب اللبناني هي مسألة حياة أو موت، ولو كان في لبنان قيادة قويّة ومتبصّرة، ووعي وطني لخطورة التحوّلات، وتضامن صادق بين الشعب والدولة، لكان انهيار اقتصادنا الراهن فرصة لبناء مستقبل أفضل، فيقوم اقتصاد جديد عماده الصناعة والزراعة والخدمات واقتصاد المعرفة بديلا من النظام الدي يتغذّى ويشهد مزيدا من التضخم في ضوء  »نظام الفوائد«.

العدد 104 – أيار 2020