طفلتان تلعبان فوق المسرح المكشوف

البرفسور نسيم الخوري

وكأنّه لم يكن يكفينا عرباً ما كنّا وما زلنا فيه، حتّى اجتاحت بلادنا الكورونا التي تغيّر العالم ولا مقاييس محددة لتوقّع سلبيّات تلك المتغيّرات أو إيجابيّاتها. فمن داعش إلى الكورونا يغطس هذا الزمان العربي في ما يتجاوز المشهد العالمي في نظري. ومن الباب، يمكن التكهن بأنّ المستقبل ليس غير مؤكّد وحسب، بل إتّه أمر لا يمكن التنبؤ به على نحو أصيل. ولمواجهة هذا العجز يفترض تبنّي المبدأ الوقائي بضرورة إبقاء الخيارات كلّها مفتوحة للمستقبل، وتبنّي مبدأ المرونة للمحافظة على قدرات التكيّف لطالما الدنيا مسرح عالمي مكشوف تلعب الحياة  مع الموت مثل طفلتين في نقطة تخلخلت فيه معظم التفاعلات التبادلية غير المحدودة لفكرة التنوّع الحيوي.

لماذا هذا كلّه؟

لأنّ العين العربيّة أنهكتها، أوّلاً، مشاهد الدم والعنف التي شحنت العقد الماضي بصور القتلى والمشوّهين والمحروقين والمشرّدين والجائعين كثمرةٍ من ثمار  »ربيع العرب« المتنامي، تلتقي كلّها بصور خلع باب العراق وسوريا وليبيا وغزّة ولبنان والحروب المصفوفة في ذاكراتنا نتوارثها منذ فلسطين تتوزّع في الأرجاء جيلاً إثر جيل. ولو شئنا تعداد المشاهد لأستغرقنا في مكتبات ضخمة لن تقرأ وكأنّها لم تكتب أصلاً لها مقدّمات وليس لها نهايات.

ولأنّه، خلافاً لكلّ ما يشاع عن إلباس العالم وتلقين القاطنين في هذه الكرة المجوّفة اليوم، وبمختلف الأساليب والطرائق، مفاهيم مثل أكاذيب الحريّة والحق والحقيقة والديمقراطية والعدالة والمساواة وغيرها من الأفكار الزاهية التي تستحوذ إنتباه الكثير من الأفراد والأجيال والشعوب، فإنّ الواقع، كما يبدو لي، هو أسير السلطات المرضيّة وهو أيضاً في مكانٍ آخر خيالي خطير، وخطره يكشف عن تلك المصطلحات أفخاخاً وكأنها غير موجودة في الدول التي تدعو إليها والتي نراها جميعاً عظيمةً بالأسماء لكنّها تقوم الآن، على قوائم من صلصال في زمن الجرثومة الخفيّة. من يحدّق مليّاً حوله يدرك تماماً أننا نعيش عبوديّةً قاتلة وضغوطاً هائلة وعدم مساواة صارخة في هذا الشرق العربي الذي هجرناه أو هجّرنا منه، وما نراه من حولنا بالعين المجرّدة أو عبر الشاشات الحرّة يخالف الوقائع والقوانين والشروط التي تحقق وجودنا كبشر وضعتنا أمّهاتنا أحراراً. ها صارت الأرض تشبهنا… إنّها كرة تتدحرج!

منذ سقوط البرجين في الولايات المتّحدة الأميركية بالطائرات، كنت مأخوذاً بفكرة النهايات المرسومة على الورق في الأذهان. سقطت أو راحت تسقط ثياب الحريّة والأمن والإستقرار وأقنعتها الدولية في العالم ككل، وسقطت معها وبعدها وما زالت تسقط مجموعات من الأنظمة والأوطان والثوابت والقيم والأفكار، وسقط العرب أصحاب السحنة السمراء، تحديداً في قبضة العين العالمية التي تكاد تشعرك وكأنّك إرهابي مراقب كيفما وأنّى اتجهت عبر القارّات. تتعرّى في أروقة المطارات حتّى من تلبيسة أسنانك وأنفاسك التي تشي بأفكارك بما يتجاوز النظريات الكثيرة في العنصريّة. أنت مراقب،والكاميرات مزروعة في شوارع العواصم والمدن والأسواق والمجمّعات التجارية، وربّما في سريرك وفي منزلك ومكتبك وأرجاء عملك ومدرستك وجامعتك كما في دور العبادة والسينما والإجتماعات، وهي تسجّل تحركاتك وسلوكك وصورتك وعلاقاتك طيلة النهار، وتلحق بك الى زواياك الحميمة، فتسجّل لك أيّ إتّصالٍ تقوم به من هاتفك الثابت أو المحمول، وتجمع حولك المعلومات البوليسية التفصيلية الهائلة قبل أن تفتح لك نافذةً إتّصالية لبريدك  »الإلكتروني« أو  »الفيسبوك« أو  »التويتر« أو  »السكايب« أو  »الواتس- آب«.

ويبدو لك الإنسان الرقمي الذي هو أنت والذي سقط في شباك ال3G ثم ال4 G وهو يتأهّب للدخول عبداً منقاداً من جحره نحو منظومة ال5G وقد أدخلت أجهزة الدنيا تحت لسانه وبين أصابعه وفي تموّجات عقله وفكره وخياله الصامت أجهزةً فائقة القدرات تسكن الدماء والحركات والحياة وتعمل بدقة متناهية. كلّ ذلك بموجب برامج وآليات مرسومة، لا لتسجيل كلّ ما ينبس به حبرك ولسانك وتحليله، بل لحفظه نقطة من الضوء في عالمٍ متقنٍ يسهل تخزينه وتوضيبه وإعادة استعماله عند الضرورة. ذهب الخيال في مسأئل الكورونا إلى حدود يلفظها العالم، لكنّه ينطوي على نفسه وعقله ليهمس في قلبه أنّ الإبتكارات العظيمة هي بنات الشعر والخيال عبر التاريخ.  لقد استهلك الكثيرون أعمارهم وفق مقولة محفوفةٍ بالخوف والتوجّس من أجهزة المخابرات التقليدية في الدول الصغيرة، وكان المعيار الأساسي المخيف فيها، أن قلم الدولة الذي تكتب به التقارير والإفتراءات لا ممحاة له في طرفه، بل خطّاً يضعه رجل المخابرات فوق الكلمات أو تحتها للإشارة الى سلوك المواطن من حيث جرمه في القول والفعل، أو حتّى بعد توبته في الأمرين معاً. لا مجال للحبر، يموت من مات ويحرق من يحرق وتتحوّل البشرية إلى رزمة خضراء يضربها الإصفرار وما عادت تحضنها الأرض.

بدأت مرحلة فكريّة سريّة ملتبسة في تاريخ الفكر الثوري العالمي بنيت على الفوضى والموت ومعها تراجع العقل وتقدمت الغرائز الملفوفة بأوهام الحريّة. نحن لا نلتقط سوى نتف من المشاهد، أي لحظات حامية، قويّة لا تمنحنا المشهد كاملاً إلاّ إذا تيسّر لنا روئيتها بطريقة  »بانورامية« عبر الأفلام البعيدة. ومن دون أن ننسى بأن الصورة / اللحظة لا تفضح الحقائق كلّها، لكنّ وراء كلّ منها مآسي تدمغ أعمار الأحياء بالأحزان الكثيرة والخواطر المكسورة التي لا تبرأ. صحيح أنّ العين هي الحاسة الأخيرة التي تستيقظ  لدى الإنسان بعد ولادته، وهي تحتوي على 135 مليون خليّة حسيّة مسؤولة عن إلتقاط الصور وتمييز الألوان وهي حاسة ينقاد خلفها الذكور تحكم سلوكهم، وصحيح أنّ الأذن هي الحاسة الأولى التي تبدأ عملها قبل الولادة في جسد النطفة وتنصاع لها الإناث، وصحيح أيضاً أنّ العين والأذن قامت عليهما مخابرات الدول وحفظت أسرارها عبر التاريخ، لكن الملاحظ أنه بزواج العين والأذن بالمعنى التقني الإتّصالي، إنفتح العالم على سلطات الشاشات والدول الزجاجية، التي لا تنتهي بأشكالها وأنواعها، تنبثق من العين والأذن العالمية حتّى سقوط التوازن النهائي وبلغت الدنيا حدود الإنفجار الجرثومي حيث لا طعم للمساواة إلاً في الجحور.

* كاتب لبنان وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه

العدد 104 – أيار 2020