إلى حسان دياب: كن عادلاً وإذا عجزت فاستقل

رؤوف قبيسي

أود، قبل أن يأخذ هذا السرد مجراه، أن أفصح لك عن دخيلتي، تحسباً من أن تساورك الشكوك والظنون، فأخبرك بأنني لن أحاسنك لأكون ضد غيرك من أهل الحكم، أو أداجن أحداً من أهل الحكم لأناصبك العداء. لست من هذا الفريق أو ذاك، ولا تأخذني في السياسة حمية من أي نوع، إلا حمية الشعور الوطني الصادق الذي اشترك فيه مع غالبية اللبنانيين، تجاه وطن نريده منيعاً حراً سيدا، ومستقلا عن كل ما هو  »غريب«، سواء جاء  »الغريب« من بلاد الروم والعرب، أو من بلاد الفرس والترك والأجانب، لأني مؤمن إيماناً لا يخالطه أدنى شك، بأن مناعة لبنان لا يمكن أن تُصان إلا إذا كانت على هذه الدرجة من  »الاستقلال التام«، وإذا لم يتأمن هذا الاستقلال الحقيقي، سيبقى البلد مثل مركب تتقاذفه الأمواج، وفريسة لكل طامع، ويبقى شعبه معرضاً لكل ألوان القهر والعذاب، اليوم وفي كل يوم، وإلى أن يرث  »الله« الأرض ومن عليها كما يقول المؤمنون.

ليكن حلماً هذا الذي اقوله، أو أملاً، لكن ليس في جعبتي ما أخاطبك به إلا ما هو من وحي هذا الحلم وهذا الأمل. أخاطبك مجرداً من لقب الرئيس، لا غضاً من شأنك، بل لأن الحلم بهذا الاستقلال التام، يجعلني أرفض لقب  »دولة الرئيس«، وغيره من ألقاب الفخامة والسعادة والمعالي، التي ولدت في نظام طائفي عنصري إقطاعي، أرفضه، وترفضه كل نفس حرة أبية، لا بل أذهب في هذا الرفض إلى حد القول إن أي مسؤول في هذا النظام مشارك في صنعه، وأي مواطن يدلي بصوته مشارك في صنعه، وأي مرشح فيه مشارك أيضاً في صنعه، بما في ذلك الذين ترشحوا فيه عن المجتمع المدني، أو من فاز منهم عن المجتمع المدني.

سيد دياب: أصبت عصفوراً حين طالبت حاكم المصرف المركزي بفتح الملفات لمعرفة من نهب المال، ومن حوله بعد ثورة 17 تشرين. طلبك هذا شرعي ضروري ما في ذلك شك، وحلم كل مواطن مغبون، لكن كان بمقدورك أن تصيب عصافير عدة وبطلقة واحدة، لو أنك وعدت الشعب، في تلك اللحظة ذاتها، بأنك ستفتح الملفات الباقية المتصلة بالكهرباء، والجمارك، والمرفأ والتهريب، والأملاك البحرية وغيرها من الملفات الشائكة التي صنعتها أيد آثمة، وأن  »يد الحديد« التي قلت إنك ستضرب بها الذين خالفوا القوانين، ونهبوا المال العام، ستطال الفاسدين كلهم من دون استثناء، سواء كانوا من حلف 8 آذار، أو من حلف 14 آذار، أو من  »حزب الله« نفسه، لأنه ليس من العدل في شيء، أن يُزج لص في السجن ويُترك آخر يسرح ويمرح. لوقلت ذلك يا دكتور لأرضيت الشعب كله، ووفرت على نفسك عناء الرد على أعدائك، وعلى من اتهمك بأنك حاقد تثأر، وأنك تأتمر بأوامر من خلف الستار، ولما احتجت أن تسمع كلاماً من نوع  »ما هكذا تورد الإبل يا حسان«!

أرجو أن تتقبل ما أقوله لك، لأني لست مع الذين عيًروك، وقالوا إنك  »لا شي«، وإنك ضد  »السنية السياسية« وغيرها من توصيفات تُشين قائلها ولا تُشينك، ولا يتفوه بها إلا صاحب منفعة، وساع محموم إلى السلطة، ويأنس إليها ويرددها البسطاء من عامة الشعب، الذين استكانوا للخوف وألفوا التبعية، واعتادوا العيش في ظل الزعيم بدلا من العيش في ظل الوطن، وهؤلاء هم، ويا للأسف الشديد، الذخيرة الحية التي تكفل للزعيم دوام ملكه، وحكمه الجائر على الناس.

 ما هم، في بلد تحكمه العصابات أنت فعلا  »لا شيء« يا سيد دياب، وأي مواطن عادي شريف مثقف نظيف وحكيم هو  »لا شيء« أيضاً. هذا التوصيف ثناء عليك ومديح فلا تأبه به، ومديح أيضاً، الاتهام الآخر بأنك ضد  »السنية السياسية«، لأنه إذا صح، فمعناه أنك لست طائفياً، وأنك سياسي مثالي همه الشأن العام، لا شأن فئة معينة من المجتمع. إن القول بأنك ضد  »السنية السياسية« لا يستقيم في أي حال، ويرتد على قائله، أما القول بأنك  »لا شيء«، فيستقيم في حال كنت في السياسة مُسيراُ، لا مُخيراً، وتأتمر بأوامر من هم في غرف مغلقة، وتعمل لمصلحة حزب معين، أو فئة معينة، على حساب المصلحة العامة.

لن تكون المسألة بعد الآن، من جاء بك إلى كرسي الحكم، إذا وقفت وأعلنت للملأ أنك حر ومستقل، ولا تأتمر بأوامر من الداخل أو من الخارج، وتحكم بالعدل. أعداؤك ليسوا رسلاً وملائكة على أي حال، ووراء كل واحد منهم غرف مغلقة، ومعظمها خارج الحدود، وحال لبنان اليوم خير دليل على فشل سياساتهم، وهم آخر من يحق لهم رميك بالسهام، لأن منهم الإقطاعي، ومنهم الفاسد، ومنهم القاتل، ومنهم الذي لن يتردد في هدم الهيكل ليبني على أنقاضه، مقعداً له ولمن يرثه من أبناء وأحفاد. وبما أنني فتحت باب المصارحة معك على مصراعيه أقول لك يا سيد دياب، إنك ارتكبت الخطأ الكبير ساعة جئت إلى الحكم على أساس طائفي، ولو لم تكن  »سنيا« حسب الهوية، لما أتتك السلطة منقادة، لذلك قلت في بداءة هذا الخطاب إني لن أخاطبك بلقب الرئيس، وأربأ بأن أخاطب أي مسؤول لبناني بهذا اللقب، فالمناصب في الدول المدنية الراقية لا ترتكز على العرق أو الدين أو اللون، فقد كان أوباما اسود في بيت أبيض، وكان ساركوزي الذي في عروقه دماء  »يهودية« رئيسا لفرنسا  »الكاثوليكية«، كذلك هو صادق خان،  »المسلم« الباكستاني الأصل، الذي لا يزال يشغل رئيس بلدية لندن، في بلاد عمادها الروحي التاريخي كنيسة إنكلترا.

دعني أتوسع في الكلام إليك يا سيد دياب، وأرجو أن يكون صدرك رحباً، وثق بأن كلامي ليس نابعاً من شكوى أو ضغينة، وكيف يكون وأنت لست من لوردات الحروب الملطخة أياديهم بدماء الناس، ولم ترث الزعامة عن أبيك، مثل بعض من شغل هذا المنصب من قبلك، وليس لك تجربة ماضية فاشلة في الحكم يمكن أن تؤخذ عليك، لذلك آمل أن تتقبل النصائح الآتية: كن لبنانياً بالدرجة الاولى، ولا تعبأ بصراخ الطائفيين الذين لا يعبدون إلا إله المال والسلطة، ولتكن قرارتك كلها عابرة للطوائف، لأن فعل الطائفية في جسد الوطن، كفعل الكورونة القاتلة في أجساد البشر. أعرف، والجميع يعرف، أنه لولا الهوية الطائفية، لما كنت اليوم رئيساً للوزراء، لكن ما فات قد فات، وأنت اليوم مسؤول كبير في الدولة، ويمكنك إصلاح هذا الخطأ إذا امتنعت عن تحقيق احلام الطائفيين الذين يتوقعون منك أن تكون وفيا لهذه الهوية. هؤلاء وصوليون، يريدون لبنان، ضعيفا ليطرحوه للبيع في أسواق السياسة العربية والدولية، ويحققوا مصالحهم الشخصية، ومصالح من يسير في رُكبهم من الموالين والأجراء. ليكن إخلاصك للوطن، وللوطن الواحد الموحد وحده!

لا تجزع، العارفون في القرآن يفهمون الإسلام أفضل منهم بألف مرة. ليس في القرآن  »سنة« أو  »شيعة«، والإسلام بريء ممن هو  »سني« أو  »شيعي«، كما المسيحية الحق بريئة ممن هو  »كاثوليكي« أو  »أرثوذكسي« عملا بقول  »يسوع« القائل  »إن الله يريد رحمة ولا يريد ذبيحة«، لأن الإيمان الحق، هو إيمان من سكنت قلوبهم إلى الخير والرحمة، وتخلصت من أدران الأرض وتشبعت بأشواق السماء. اما الطائفيون فمثلهم مثل  »الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا« كما جاء في القرآن. لتكن الطائفية وأوضارها مثل نعليك، واخلعها كما خلع  »موسى« نعليه حين دخل الوادي المقدس. الحكم مثل الهيكل المقدس، فحاذر أن تتركه مغارة للصوص والصيارفة. عليك أن تكون وفياً لطقوسه وللرعية كلها، ولا تفرق بين أحد من الناس، وتذكر أن التاريخ لا ينصف إلا الشرفاء والعقلاء والشجعان وذوي النيات الحسنة. في الختام لم يبق عندي ما أختم به كلامي إليك إلا أمثولة أستمدها من سيرة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، حين تنامى إلى مسمعه أن أحد ولاته في الأمصار قد أفسد، فكتب إليه يقول:  »قد قل شاكروك وكثر شاكوك فأما عدلت وأما اعتزلت«، وها أنا أرفع إليك، نيابة عن لبنان المعذب الجريح، صوت الحق الذي يعلو ولا يعلى عليه، وأقول لك بصراحة ما بعدها صراحة:  »إعدل يا حسان دياب، وإذا وجدت نفسك عاجزاُ عن ذلك فاستقل… ذلك أشرف لك وللوطن«.

العدد 105/حزيران 2020