سلوكيات الحجر المنزليّ، من منظور نفسيّ

حوار مع الدكتور أحمد رضوان نصرالله

نسرين الرجب. لبنان

الإنسان كوحدة متكاملة يؤثر بعضه في بعضه، كما في الحديث الشريف:  »… مثَل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسّهر والحمى«، فما يحدث من تغيُّرات وأعراض جسديّة وسلوكيّة تكون في الكثير من الأحيان نتيجة عوامل نفسيّة انفعاليّة، وكذلك بعض أمراض النفس تكون نتيجة عدم تأقلم الجسد مع محيطه.

وفي زمن الأزمات يعيش الفرد في لبنان والعالم ككُل، واقعا وتجربة لم يشهدها جهازه النفسي من قبل، فقد أسهم انتشار فيروس كوفيد 19، أو كورونا، في تشكيل حالة زمنيّة خاصة، اتّخذت من الحجر المنزلي رمزيّتها، تزامن ذلك مع أزمة اقتصادية مستفحلة. عايش اللبنانيون -وما زالوا- على مدى أشهر هذا الخطر المزدوج، وامتثلوا بمعظمهم وبنسب متفاوتة لقوانين الحجر، وللسلوكيات التي فرضها (التعقيم، الإقبال بكثافة على شراء الكفوف والكمامات الطبية، التباعد الاجتماعي، العزل والإنعزال..).

التغيّرات النفسيّة والسلوكيّة التي مهّد لها الوباء عميقة وممتدة الأثر، فهي تطال الإنسان في علاقته مع ذاته ومع الآخر

الدكتور احمد نصرالله
استاذ محاضر قسم علم النفس في الجامعة اللبنانية

أيضا، للحديث عن ذلك كان لـ »الحصاد« هذا الحوار مع الدكتور أحمد رضوان نصرالله، وهو أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية، ورئيس قسم علم النفس سابقا، له العديد من المؤلفات والأبحاث المنشورة في مجلات محكمة محلية وعالمية.

الحجر هو سلوك فطريّ وليس بجديد

 تحدّث الدكتور نصرالله، عن أهميّة الحجر المنزلي، مدلا على حقيقة الأزمة التي يعايشها العالم أجمع، وترمي بثقلها على النفس الإنسانية:  »الأزمة التي يعيشها العالم نتيجة تفشي فيروس كورونا على نطاق واسع وبشكل سريع في مختلف دول العالم، وقيام معظم دول العالم بفرض حظر التجوّل، وإلزام المواطنين بالحجر المنزلي، في إطار إجراءات صارمة لغاية الحد من انتشار هذا الوباء، وبالطبع هذا ليس أمرا سهلا، أو موضوعا يستهان به، بل إنّه ظرف استثائي، وغير مسبوق أو مألوف، لعامة الناس، لذلك من الطبيعي أن يترك هذا الوضع آثارا نفسيّة وجسدية وسلوكية لدينا. فلم يجد المتخصصون في مجال علم النفس وحتى في المجالات الأخرى ذات الصلة بموضوع جائحة كورونا طريقة أنجع وأنجح من الحجر المنزلي للحد من انتشار كورونا المستجد، وهذا دفع أغلب دول العالم إلى فرضه بشكل رسمي وسن عقوبات ماديّة وغير ماديّة قد تصل إلى حدّ السجن لإلزام المواطنين بالتقيّد به، وعلى الرغم من أن الحجر هو سلوك فطري وليس بجديد، فعبر التاريخ لجأ إليه الإنسان، لانبثاقه من الرغبة في الإنعزال، أو الوحدة بعيدا عن الآخرين، أو بعيدا عن مصادر الخطر، وغالبا ما يحصل عند استشعار الخطر الشديد، أو الضيق، إلا أنّ فطرة هذا السلوك لا تكفي، فلا بدّ من لجوء السلطات لفرض الإلتزام به بقوة القانون«.

الإعتدال بعيدا عن الاستهتار أو الإكثار

أشار الدكتور نصرالله، إلى وجوب الاعتدال أثناء اللجوء لأساليب الوقاية، فلا إفراط ولا تفريط،فـ »الأصح هو ما ينسجم مع معايير الصحة النفسيّة والجسدية، المطلوب الاعتدال بعيدا عن الاستهتار أو الإكثار من تلك الإجراءات (أدوات التعقيم وما شابه) وبعيدا أيضا، عن التعالي والاستكبار. فالمبالغة بمختلف مضامينها لا تمكّن من بلوغ الهدف المنشود بل تجعلنا عرضة للمخاطر. فالاستهتار قد يساوي الإصابة بالمرض. أو قد يكون طريقا نحو الإصابة به. وكذلك الاهتمام الزائد قد يساوي أو يكون طريقا نحو المزيد من الوَساوِس والاضطرابات. يمكننا القول لا داعي للهلع الخطير ولكن لا داعي للدلع أيضا في هذا المجال«.

 وعلى الرغم من النتائج السلبية التي تنمّ عنها خرق مرحلة الحجر الصحي والتمرّد على القوانين، إلا أنّ هناك من لا يأبه بالمخاوف، يعّلل الدكتور نصرالله، ذلك:  »الكثيرون لا يحترمون إرشادات الوقاية، التي شددت عليها منظمة الصحة العالمية، والحكومات المحلية، ويصرون على خرق قوانين الحجر والتجوّل في الشوارع، لأسباب لن تكون بالتأكيد أكثر أهمية من بقائهم على قيد الحياة«، يضيف:  »يبدو أن ما يفعله البشر دائما، عندما يواجهون مرضا جديدا هو البحث عن أوجه الشبه بينه وبين ما سبق أن عاشوه من حروب ونكبات، وقد ربطت دراسة نشرتها مجلة psychology today الأميركية، بين القلق والسلوك الاندفاعي، الذي يواجه به الإنسان الضبابيّة وعدم اليقين بحيث يبدو التهديد بعيدا افتراضيا، فالبشر بشكل عام أكثر استجابة عندما يكون هناك دليل فوري على النتيجة، ولكن بسبب وجود فترة حضانة طويلة لهذا المرض، ولأنّ الكثيرين لا تظهر عليهم الأعراض في البداية، فإن التجاوب يكون مترددا، أو متأخرا«.

إنسان ما بعد هذه الجائحة حتما سيكون مختلفا

 يربط الدكتور نصرالله، بين الصحة النفسية والجسديّة عند الفرد والمجتمع الإنساني بشكل عام، فيؤكد أنّ:  »الصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية، وخاصة أنّ أهم أعراض التأثير النفسي للفيروس تتلخص بتولّد العديد من المخاوف الداخلية، الممزوجة بالقلق والهلع فهناك تخوّف من الإصابة بالمرض وانتقال العدوى، بل وأصبحنا نخاف من فقدان أحد أفراد العائلة، أو الأحباء والمقربين«.

 إلا أّن الخوف من المرض في لبنان ليس الهاجس الوحيد الذي يعيشه الناس، فـهناك  »تصاعد مخاوف مستقبلية عند الكثيرين تتعلق بوظائفهم وتأمين لقمة عيشهم… وهذا يصيب المجتمعات على مستوى الأفراد والوعي الجمعي تقريبا بمشاكل وسلوكيات وانفعالات متنوعة ومتعددة«.

لا يتنبأ الدكتور نصرالله، بحال الإنسان ما بعد الكورونا، لأن الأبحاث حوله وعليه لا تزال على قدم وساق، ولكنّه لا ينفي أن التغيّرات التي ستطرأ ستكون فارقة، فيقول:  »لا يوجد إمكانية لدينا لإطلاق أحكام نهائية على ما يجري في ظلّ كورونا وما بعد كورونا لأننا لا نزال نتعامل مع وباء يحمل الكثير من المضامين المجهولة حتى منظمة الصحة العالميّة والخبراء يتعلّمون يوميّا أشياء جديدة وأحيانا متناقضة عن هذا الفيروس. الصورة تتغيّر بشكل متسارع في لبنان وكذلك في العالم، والإنسان في لبنان بغض النظر عن جنسيّته لديه اضطراب القلق ولو بِنسب متفاوتة وربما يحتاج الناس هنا، يحتاجون إلى المزيد من الرأفة والتفهّم، من قبل المعنيين والمسؤولين نتيجة الكم الهائل من الخوف من المجهول الصحي والمعيشي والاجتماعي وحتى السياسي وربما الأمني، وحتما إنسان ما قبل كورونا في لبنان، وأيضا في كل مكان، لن يكون هو نفسه فيما بعد، لناحية القناعات ولناحية حتى الأولويات وحتى في ما يتعلق بالبنيَة النفسيّة والذهنيّة. إنسان ما بعد هذه الجائحة حتما سيكون مختلفا من نواحي متعددة ومتنوعة وليس في لبنان فقط بل في العالم على ما أعتقد«.

قطع الشكّ باليقين

أضاف الحجر عبئا إضافيا على حياة الناس، وراكم عليهم الهموم، تزامن ذلك مع العبء الاقتصادي الذي يرزح تحته البلد، فيرى أنّه:  »كلما زادت مدّة الحجر الصحي زادت معه الاضطرابات النفسيّة، وكانت أكثر شدّة في أثرها، وفي لبنان ما زاد الطين بله، أن أزمة كورونا كانت مسبوقة بأزمة اقتصادية خانقة تزداد سوءا يوما بعد يوم، نتيجة الارتفاع الهائل في الأسعار وجشع التجار والانهيار السريع للعملة الوطنية. وهذا ينجم عنه الكثير من الاضطرابات النفسية حاليا ومستقبليا، فربما أدى وسيؤدي إلى ارتفاع منسوب الجريمة، والأمراض النفسية على اختلاف أنواعها مسبوقة ومصحوبة بالصدمات النفسية من مختلف (القياسات) والارتدادات. السبيل إلى الخروج ليس سهلا نحن بحاجة جميعا مسؤولين ومواطنين أن نقطع الشكّ باليقين، فنحن مهددون في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا إذا لم نلتق لنرتقي في انتمائنا الإنساني أولا وثانيا وثالثا، ومن ثم في انتمائنا الوطني«. ويعتقد الدكتور أنّ:  »أي خطة للخروج من أزمتنا الحالية إذا لم تكن مبنيّة على أسس الرحمة والعدالة الإنسانية، لن يكتب لها النجاح«.

العنف الأسري موجود سابقا ويزداد حاليا

ومن التأثيرات المُصاحبة للحجر المنزلي على الناس، التبليغات والمنشورات المتزايدة عن حالات العنف الأسري غير المستجدة، هذا ما دفع الجمعيات النسائية والحقوقية للالتفات لخطورة الوضع وحساسيته، فقاموا بتكثيف حملات التوعية عبر منصات التواصل الاجتماعي واستحداث الخط الساخن ليكون بإمكان المُعنَّفَة التبليغ عن ما تتعرض له، مما يُنبئ بوجود أزمة مجتمعية ونفسية مستجدة يولدها اجتماع وانفراد الإنسان بالإنسان، وعن ذلك يتحدث الدكتور:  »بدأت تداعيات الحجر المنزلي تنعكس سلبا على العائلات في لبنان مع تزايد حالات العنف وهذا الواقع يظهر في بلدان أخرى وفق ما أعلنت الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية. ويأخذ العنف الأسري شكليْن: شكل معنوي وشكل جسدي، ويبدو العزل المنزلي وما يصاحبه من اضطرابات نفسيّة ومشاكل مالية وحالة من عدم اليقين، أشبه بكابوس لا يريد أن ينتهي، وفوق ذلك كله يعيش ـ البعض ـ بشكل عام في بيوت صغيرة مع شخص يصبّ عليه غضبه وانفعاله بسبب قلّة الموارد. قد يكون هناك بعض المبالغة في وسائل الإعلام المختلفة. لكن لا أعتقد أنه محاولة لتسويغ العنف. فالعنف الأسري موجود سابقا ويزداد حاليا وربما لن ينتهي في المستقبل«.

التنمّر ليس مزحة

ارتفعت نسبة إقبال الناس على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى صناعة مقاطع مصوّرة أصبح بمتناول أيّ كان فبركتها وتناقلها، تحتوي هذه المواد التي يفترض بها أن تُضحك وتُخفف الضغوطات النفسية على العديد من مظاهر التنمر المؤذية لبعض الأشخاص، إن كان من خلال الضحك على قابلية الأجساد للسمنة، أو مخاطر اجتماع الزوج والزوجة في البيت طوال هذه الوقت (الزوجة النكدية، والرجل المحبوس)، يؤكد الدكتور أن:  »التنمر بمختلف أشكاله هو من النتائج السلبية للحجر الصحي، فقد تضيع البوصلة أحيانا، بحيث لا ندرك متى نكون ظرفاء لطيفين وخفيفي الدم ومتى نصبح متنمّرين، لذلك ليس صعبا أن نفكر مرتين وربما أكثر قبل أن نشارك أي مادة على مواقع التواصل الاجتماعي، وربما من المفيد أن تظهر مثل هذه الأمور السلبية بكثافة حتى ندرك أهميّة تجنبها، ونفكر في القلوب التي قد نجرحها، حتى حين يكون هدفنا الوحيد أن نكون ظرفاء أو لطيفين«.

ويُشدد على أهميّة الدعم النفسي الذي هو  »إحدى المسلتزمات الأساسيّة للاهتمام بالصحة النفسية، من ناحية اتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على البنيان النفسي السويّ والقويّ، للفرد ضمن مجتمعه وهذه مسؤولية مشتركة ما بين الأسر والمجتمع بمختلف مكوناته ـ السلطة السياسية والإدارية، السلطة الثقافية والمعرفية، والسلطة الروحية والدينية ووسائل الإعلام ـ. فتقديم الاستشارات والنصائح قد يكون عاملا مساعدا على تجاوز بعض المحن المستجدة«.

الاستسلام للهلع والخوف يؤديان إلى ضعف جهاز المناعة

 يُؤكد الدكتور نصرالله، أنّ سلوكيات الناس تختلف تّجاه الأزمات اختلاف أنماط تفكيرهم، فــ »منهم من يتحدث من دون مبالاة، ومنهم من يتأثر كثيرا لدرجة الهوس في التعقيم والوصول إلى مرحلة الوسواس القهري في مسألة النظافة. طبعا الاستسلام للهلع والخوف يؤديان إلى ضعف جهاز المناعة مما يجعل الجسم مهيّأ أكثر من غيره لأن يتفشى في داخله هذا الوباء أو غيره من الأوبئة والأمراض المعدية«. يُضيف:  »لذلك يجب عدم التركيز على الأفكار السلبية وذلك يتطلب الابتعاد عن مصادر الضغط النفسي ومنها مشاهدة التلفاز خصوصا نشرات الأخبار بغزارة إذا صح التعبير، الهاتف بما يتضمنه من أخبار مفعمة بالسلبية«، ويدعو إلى:  »محاولة إيجاد الطاقة الإيجابية من خلال القيام بممارسة هواية أو نشاط يجمع أفراد الأسرة، الاستماع للموسيقى ممارسة الاسترخاء والتأمل والابتعاد عن تناول المنبهات والتدخين، اتباع نظام غذائي صحي متوازن، النوم الكافي، شرب المياه بكثرة، ممارسة الرياضة الجسدية والروحية، ذلك قد يسهم في خفض التوتر وتقوية جهاز المناعة، لمقاومة العدوى وغيرها من الأمراض«.

وفي الختام أكّد الدكتور نصرالله، على ضرورة تحلّي وسائل الإعلام بالمسؤولية والوعي في توجّهها للرأي العام:  »المطلوب أولا سواء كان المرء في وسيلة إعلامية أو موقع مسؤولية أن يكون مُقنعا، لا قامعا. من السهولة أن تقمع ولكن الأفضل أن تَقنَع أو تُقنِع، المطلوب التشجيع قبل التوبيخ والتقريع، دور الإعلام في هذه المرحلة أن يكون هادفا هادئا ومقنعا«.

الدكتور احمد نصرالله

استاذ محاضر قسم علم النفس في الجامعة اللبنانية

العدد 105/حزيران 2020