دراما رمضان: دراما شحيحة

عبيدو باشا

لم يكف المنتجون عن تحسس خسائرهم في هذا الموسم الرمضاني. إنشغلوا بأمور الوباء، حيث سارت النقابات الفنية على طلب منع التصوير الإحترازي، بعد أن لم تمارس تمارين السير منذ أزمنة بعيدة. بدا المنتجون متألمين من الجراح، حين بدت النقابات الفنية بدينة، قصيرة القامة، إذ إجتمعت على مطلب واحد بعد عقود من الخلافات والإختلافات. وقف تصوير المسلسلات تحت طائلة الخوف من إنتقال العدوى خلال التصوير، من زميل إلى زميل أو زميلة إلى زميل أو زميل إلى زميلة. لوكيشن التصوير ضايق، خانق، لا يسمح لإجراءات السلامة بالتحقق. هكذا :لم توفر شركات الإنتاج خدماتها المتنوعة الإعتيادية في شهر رمضان. إذ إبتليت بتضامن الجهات الأمنية مع النقابات الفنية. ثم أن بعض الفنانين لم يتظاهر بعدم الإكتراث في ظاهرة فريدة، حين لم يكترثوا فعلاً لا بأوقات التصوير المحددة (أوردر) ولا بأي أمر آخر يتعلق بها. طلوا وجوههم بمساحيق اللامبالاة. أو بالأحرى : لم يقصدوا المساحات المحجوزة للتصوير بمختلف المناطق اللبنانية. لم يقصدوها خوفاً من الأضرار، بعدأن وقفوا أمام مرآة البلاد العريضة وهم يؤكدون لأنفسهم أن الأمر اليوم ليس أمر خدوش سطحية. الأمر اليوم : الأمر أمر حياة أو موت. راحوا يراقبون العالم بقلق وهم يتسقطون أحوال العالم من خلال النوافذ المفتوحة، نصف فتحة لكل نافدة.

ظن المنتجون أنها مرحلة ضباب كثيف، لا أكثر. وأن الضباب هذا سوف يزول بالقريب العاجل. إلا أن الإنتاج الدرامي الخاص بشهر رمضان، إنتهى إلى مستقبله المحتوم : تعطيل تصوير ثلثي أعداد الدرامات الملحوظة على أجندة رمضان. إنتهى الأمر إلى إنتهاء أحوال معظم المنتجين إلى تشنج الفكين، من الحنق. ولو أن الأمر لم يبدل من

سيرين عبد النور وأحمد فهمي في كواليس  »خليكون سهرانين بالبيت

الأحوال شيئاً. نصف عدد الدرامات أو الثلث بالأحرى، ثلث العضلات من جسد الدراما في جسد رمضان. هكذا اختلجت معظم الدرامات بالموت أمام أنظار المنتجين.

أُجل تصوير  »الهيبة« في جزئه الرابع مع تيم حسن وفريق عمل يجعل الطرقات المقفرة غير مقفرة. كما أجل  » 20/20« مع نادين نسيب نجيم وقصي خولي، ثنائي رمضان الماضي مع 5، 30. ثم أن فريق  »عروس بيروت« ركن ديكوراته في مدينة إسطنبول التركية بعد تفشي الوباء، ولم يجد ممثلوه وممثلاته اللبنانيون واللبنانيات مقاعدهم على طائرة العودة إلى بيروت إلا بعد أن عاشوا في عتمة طالعة من مدافن قتلى كورونا، على مدى شهر ونصف الشهر. عودتهم نجاة، عودتهم حياة بعد أن تهددت الحياة بالحياة الجديدة. لاهم سوى النجاة عند الجميع. لم تغمز الكثير من الدرامات رمضان كما هو مقرر. غمزت بعض الدرامات رمضان من خلف الزجاج المغبش للوباء، حيث لم يفسد الوباء حياتها، حين إنتهى تصويرها قبل أن تبدأ إشتعالات الوباء في لبنان والعالم.

لم ترفع بعض الدرامات أقدامها عن دواسات البنزين وهي تسير بسرعة كبيرة إلى مآلاتها. لم تطفأ مصابيح الدراما اللبنانية والعربية كلها. غامر البعض بالقفز فوق جرف الوباء. هكذا : فاز المشاهدون بالفرار من فراغ رمضان من الدرامات. إلا أن القفز فوق عتبة المتابعة لم يؤكد سوى أن الموسم الرمضاني إنقسم بضربة فأس إلى قسمين. وأن الموسم موسم بارد، بعكس المواسم الماضية. حيث لم يسع المشاهد العربي أن تمهله الدرامات فرصة مشاهدتها كلها، من كثرتها ومن كثرة ما ترك في مخزن الدراما من درامات لم تجد لها أصحابها الظروف المناسبة لعرضها. عروض درامات باسمائها الكبرى وعنوانيها المثيرة بالأوقات ذاتها في مدى تنافسي مدمر.

تابعت بعض الدرامات طريقها إلى رمضان، على أمل أن تلتحم الأقسام المجزؤة بالعام المقبل، برمضان المقبل. تقف الدرامات على علوات مختلفة. بعضها دراما هراء. كسر. أمور سر، إخراج مروان بركات، أمور شاقة. لا حياة، لاعبارة، لا روح. برج بابل. ثرثرة بلا كلام وممثلون يقفون أمام مراياهم لا أمام كاميرات التصوير. لا منهج ولا نسق. رجال يرتدون بزات فاخرة، ما لايتناسب مع قماش حضورهم الخفيف. نساء  »فول ميك آب« وهن نائمات أو مستيقظات بعيداً من وعي معنى حضور المرأة عند الصباح، بقصات شعر تزيد من أوزانهن لا جمالهن. برنامج كحقيبة اليد على الظهر. بعضها دراما هواء وبعضها درامات تدنو مباشرة أو تدريجياً إلى الجودة، نحو الجلوس في مقعد البحار على سفينة الدراما.  »بالقلب« لطارق سويد (إخراج جوليان معلوف). دراما لم يضغط سويد زراً لإخراجها من فرن أو ثلاجة. سدد الرجل دين الكتابة، ثم كتب. دراما ماكرة زاوجت بين الواقعية والوجودية والرومانسية. احتاج الأمر إلى الصدق، احتاج الأمر إلى المهارة. الساحر (إخراج عامر فهد، بطولة عابد فهد)، العودة (بطولة دانييلا رحمة ونيكولا معوض)، أولاد آدم (إخراج الليث حجو، بطولة دانييلا رحمة وماغي بو غصن وطلال الجردي)، الإختبار (بطولة أمير كرارة)، فلانتينو (بطولة عادل إمام)، إم هارون (بطولة حياة الفهد)، مخرج 7 (بطولة ناصر القصيبي)، كريب الحقيقة مع رامز جلال، حراملك مع فترين كامل من النجوم العرب (جمال سليمان، أحمد الأحمد، قيس الشيخ نجيب…)… مسلسلات من لبنان ومصر وسوريا والكويت والسعودية. كل دراما سلطعون يحاول الخروج من المجلى، قبل أن يوضع في وعاء السلق(هناك نجمات استبدلن حضورهن ببرامج تقديم وألعاب وتسلية. سيرين عبد النور شاركت المقدم المصري المعروف أحمد فهمي بتقديم  »خليكم سهرانين بالبيت« على شبكة MBC. وردة جديدة بحقل عبد النور، بعد التمثيل والغناء). أسفار وجراح وقرص هواء وتكرار وسقوط وشكوك وخيانات وانطباعات ومغامرات وغموض وهرج ومرج. كل الأمور بالمسلسلات. بعضها رفض الكلفة مع القضايا المصيرية المحسومة بالعالم العربي، كالصراع العربي الإسرائيلي أو ما تبقى من هذا الصراع كإم هارون. كلام على فلسطين بإعلان  »دولة إسرائيل« وسط حضور مكثف لليهود بالكويت كما جاء بالدراما.

لم تترك بعض الأقنية مشاعر الود ترتفع بينها وبين الدرامات، إذ أعلنت أن خيارها الإستراتيجي في الدراما التركية المدبلجة. هذا هو الشيء الأيسر حجماً بالحضور في برمجة محطتين بارزتين : محطة الجديد (نيو تي في) ومحطة المر (MTV) الحضور الأيسر بالأزمة الإقتصادية الطاحنة، أزمة صنعت حياة أخرى بدل الحياة الساردة في لبنان. سرحت القناة الأولى جزءاً من موظفيها. وهكذا فعلت الأخرى. إلا أنهما بإعلانهما خيارهما المشترك، إنما أطلقتا صرخة مدوية مشحونة بالرعب المتأتئ. صرخة عدم القدرة على إنتاج درامات، حين أن الإنتاج وحده يقدر على تحريك عتلات السرعة، بحيث لا نفقد القدرة على المساهمة في صناعة الضرورة. الإستمرار بالمساهمة بصناعة الضرورة. لأن الدراما صناعة لا تخضع لحسن الحظ وحده. إنتاج مثبت: إبعاد الكثير من المبدعين والفنانين والفنيين والتقنيين من الآثار العميقة للأزمة الإقتصادية. إبعادهم عن حركات الطرد العنيفة من مساحة الدراما الملساء إلى البطالة. مئات العائلات بالمجهول، بعيداً من الإمساك بذراع الدراما العريضة.

لم تسعى بعض الأقنية اللبنانية إلا إلى المزيد من الحركات الجانبية المرتبكة، حين زادت على خيارها الإستراتيجي المعلن (المسلسل التركي) بعض مسلسلات استطاعت أن ترفع الكلفة بينها وبين المشاهدين بعد أن حققت نجاحها بأكثر من عرض على الأجندات القديمة. هكذا : جاورت المسلسلات التركية على محطة الجديد(كمثال) مسلسلات عربية جرى عرضها في السنوات السابقة. أخرج مسلسلا  »ضيعة ضايعة« و »الخربة«، كل من إطاره الخشبي، لكي يرسل في ساعات الذروة. كم هو مضجر أن تفرض القنوات التلفزيونية على المشاهدين مشاهدة مسلسلات بقوة ذئب

سيرين عبد النور وأحمد فهمي في كواليس  »خليكون سهرانين بالبيت

لمرة وأخرى وثالثة ورابعة، بحيث تخسر هذه المسلسلات أجزاء من قواها التعبيرية والجمالية / الإستيتيكية كلما وضعت فوق أوقات العرض حتى تبدو شتلات جديدة في هكتارات الزرع. وهي ليست كذلك. بدأت المسلسلات المعادة تأخذ أشكالاً تكعيبية من كثرة عرضها. فقدت أشكالها الإنسيابية من كثرة العرض. أريد لها أن تطرز ليالي الصائمين، إلا أنها لم تفعل كثيراً من إنكشاف عباراتها ونبراتها وزواياها وارتفاعاتها وانحناءاتها. تقليب لا إستبدال. استنزاف، لأن شركات الإنتاج أضحت كلها لصق الجدار، بسبب الأزمة الإقتصادية ومفاعيل الوباء على الأرض.

جرت الكثير من الأشياء الغريبة من جراء سقوط الجدران على شركات الإنتاج، كأن نشاهد سلافة معمار، واحدة من أهم الممثلات منذ بداية القرن الجديد، في الحرملك في جزئه الثاني، أن نشاهدها من خلال لقطات جمعتها دوائر الإنتاج من ما تبقى من عمليات مونتاج الجزء الأول، حيث وضعتها بالجزء الثاني (لذلك : لم تعد معمار حاضرة في حرملك بعد الحلقة السادسة). ثمة شح في شخصية الإنتاج هذا العام. ثمة أنفاس محشورة في الإنتاج الجديد. انتاج العام 2020 السيء السمعة، السيء المظهر. انتاج لم يعد يمتلك ستراته القديمة. إنتاج لم يعد يطرق على الأبواب بالقوة القديمة. إنتاج يحاول أصحابه أن يحسنوا من مظهره لا أن يجددوا هذا المظهر. ثمة برودة لها أسبابها ولها نتائجها. ضعف النصوص من النتائج هذه. نصوص تدور بين الترجمة والإقتباس والتلفيق والضعف أو المصبوغة بتلاوة الكلام لا أكثر. نص رائد بو عجرم في  »العودة« نص مترجم بدون إعلان. لأن روايته رواية قاتل تسلسلي. مِعلمٌ تقليدي بالدرامات الخاصة بالمجتمعات الصناعية، حيث لا تحضر الصناعة حضور العفو. رواية قاتل يطارد خمس فتيات، صديقات المرحلة الجامعية، لأسباب لن تعرف إلا بعد فرد أوراق العمل الكاملة. ثمة ما يؤكد الترجمة أو الإستلهام، بتعبير أخف، من التركيز على أحداث لا تعطى أهمية في المجتمعات الشرقية، مجتمعاتنا. كحفل التخرج والإحتفال بالتخرج في فندق حيث تجري مجموعة من الأحداث المبهمة، المفجعة. شيء من سينما أميركا، سينما هوليوود. أمور غير ملحة على شاشاتنا. نص أولاد آدم نص فودفيل، نص يقوم على المفارقة والتلفيق. هذا نموذج : تصدم القاضية طفلاً، يصدف أن ينقذه زوجها. يحاول أحد اللصوص رد هاتف مسروق إلى صاحبه، وإذ يفعل تجده سيدة سبق وسرقها. قاضية نزيهة لا ترتشي، تمول إقامة شقيقها في باريس بعد أن هربته إلى هناك إثر حادثة احتاجت أن يقف من جرائها تحت أقواس المحاكم. وهكذا.

نص  »الساحر« عن فيلم البيضة والحجر. نص الإختيار مليء بالكليشيهات. نص فلانتينو مكتوب حول نجومية عادل إمام. نص إم هارون فلكلوري، يريد إعادة ترتيب التاريخ من خلال الجغرافيا بروح تابعة للسياسات الدارجة بالمنطقة. نص مخرج 7 مجموعة إسكتشات. النصوص هي اللحم الغضروفي الشفاف للدراما. لاتزال الحلقة الأضعف، ما يطرح ضرورة طرح فكرة عدم الإستمرار بإفسادها بإخراج كتابها من ظنهم أن كتابة نصوصهم لا تحتاج إلا لتدوير محركاتهم فقط. ثمة شروط لأمن النجاة، لا تزال غير متوافرة. سلوك الطريق الصحيح لا على بدائه الكتاب، على تخصصهم بالكتابة أو المشاركة في ورشات كتابة درامية.

باب الدراما مشرع على مصرعيه أمام التوتر الإقتصادي والهيتشكوكيات المرضية. حالات وفاة سريرية وأخرى لفظية. الدراما هذا العام مرتبكة، الدراما هذا العام شحيحة الإضاءة. الدراما هذا العام غير مريحة على الإطلاق. دراما غير منشرحة بأوضاع بلا إنشراح.

العدد 105/حزيران 2020