كورونا.. والمجتمع.. والديموقراطية

عوامل التغيير في العالم بعد انحسار الوباء

أمين الغفاري

أصبح علينا أن نستعد الى عالم ما بعد كورونا، فقد بدأت عجلة المحاذير تهدأ، واصبح هناك نظر واستعداد لفتح قنوات للحركة في المجتمعات من جديد، مقابل عدة اجراءات وقائية، وحتما كان لابد من تخفيف الاجراءات وفك الكثير من القيود، فلا يمكن احتجاز شعوب العالم لفترات طويلة، ولا يمكن لمسؤول ان يسمح باسترخاء المجتمع، فالعمل والانتاج والحركة فضلا عن انها قاموس الحياة، فانها أيضا ضمان لبقاء الدول على امتداد مصالحها وأمنها.وقد تعايشنا بالفعل فترة، أصبح فيها شعار (خليك بالبيت) نشيدا عالميا تهتف به وسائل الاعلام ابتداء من مناشدات المسؤولين على مستوياتهم المختلفة الى شاشات التلفزيون وبرامجها المعدة للتوعية والترشيد الى الاعلانات المنتشرة عبر وسائل المواصلات المتعددة الى أن أصبحنا نشعر بالفعل أننا في مهرجان عالمي عماده التحذير واليقظة من عدو شديد الخطورة والتدمير فهو اضافة الى كونه قاتل ومدمر فهو كذلك غير مرئي ولا منظور، كان علينا ان نعرف ونتأكد بأن هذا المهرجان لن ينفض الا بظهور الدواء الناجع الشافي الذي سيجهز على ذلك الفيروس ويقضي عليه قضاءا مبرما. لكن خلال الاستعداد للعودة الطبيعية للحياة تبرز نظرية انسانية تقول (ان تدهور الاقتصاد ومات فاننا نستطيع أن نحييه مرة أخرى بالعمل والانتاج، ولكن ان مات الانسان فاننا لا نستطيع ولا نملك أن نحييه) وهو قول انساني للغاية وايضا حكيم، ولكننا مع ذلك نرى نظرية أخرى تبرز وتقول (ان تفشى المرض، وارتفعت معدلاته فسوف تقضي على المبادرات وعلى جهود العباقرة في بناء صرح الانتاج سواء من المخططين أو من المنتجين العمال فكيف يمكن ان تعود أيضا عجلة الحياة ؟). ازاء تلك النظريات المتضاربة والاقوال الحكيمة الرشيدة، وتنوعها وتعددها علينا أن نضع في الاعتبار كذلك حسابات أخرى تجبرنا – مع الاستعداد والاجتهاد المتواصل لصناعة العلاج الحاسم – ان نتعايش أيضا مع هذا الوباء مع كل الاحترازات الواجبة، لكي تعود عجلة الحياة الى الدوران، فكم تعطلت

الرئيس الأمريكي ترامب
لن تبقى الولايات المتحدة الامريكية على قمة السلم العالمي

من المصالح وكم توقف من الانتاج، وكم تعطلت الكثير من الايادي عن العمل، وكم تعطلت معها سبل الحياة ، بالأضافة الى ان البقاء في البيوت، والحياة في اطار الاسرة تحت سقف واحد، بعيدا عن الأجواء المفتوحة، يمكن ايضا ان يساهم في انتشار المرض، وليس بالضرورة أن يساهم في حماية الأسر.المهرجان سواء ارتفعت حدته أو انخفضت بفعل طول الزمن، وتراخي عنصر الحذر وتلمس الأمان ، لابد ان كل تلك الأعتبارات كانت وراء خطوة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في اعلان خطوته الاخيرة التي حددها في خطوط عريضة من أجل تخفيف حدة البقاء وراء جدران المنازل، واعطاء المواطنين جرعة من التحرر في اطار الظروف الراهنة كانت تلك الكلمة عبر شاشات التلفزيون ترسم الملامح الرئيسية لخارطة فتح الطرق من جديد، فالتحفظات واردة، ولكن ارادة الحياة بالحركة والعمل أيضا واردة. قال جونسون يوم الأحد 10 مايو الماضي إن الهدف من تخفيف الإغلاق الوطنى الذي دام قرابة شهرين هو إيقاظ الاقتصاد بحذر مع الوضع في التقدير أنه وفق آليات  »العلم والبيانات والصحة العامة«.

أوضح كذلك أنه يمكن أن يُعاد فتح المدارس والمتاجر بشكل تدريجي في حزيران/يونيو، في حين أن النشاط التجاري في مجال الضيافة مثل الفنادق والمطاعم، ربما يكون في الاعتبار أنه سيعاد فتحها قبل تموز/يوليو على أقرب تقدير.

وأستمر قائلا إنه اعتبارا من يوم الأربعاء، يمكن أن يبدأ السكان في قضاء المزيد من الوقت خارج منازلهم، بما في

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
امهر اللاعبين على ساحة الشرق الاوسط

ذلك أخذ حمام شمس في الحدائق المحلية، والسفر بالسيارات، وممارسة الرياضة في الأماكن المكشوفة مع أفراد من نفس الأسرة.

وقال جونسون، إن بلاده ستطلق نظاما للإنذار والتنبيه من خمس مستويات يصنف التهديد الحالي الذي يشكله فيروس كورونا المستجد.

وأضاف جونسون إن المستوى الخامس هو  »الأكثر خطورة«، والمستوى الأول يعني أن مرض كوفيد19-  »لم يعد موجودا« في البلاد.

وأشار إلى أن بريطانيا تمر حاليا بالمستوى الرابع من نظام الإنذار خلال فترة الإغلاق ويمكنها أن تنتقل تدريجيا إلى المستوى الثالث، ما يعني أنه من الممكن إعادة فتح قطاعات من الحياة العامة.

وشدد جونسون على أنه سيتم تحديد المستوى بشكل أساسي من خلال معدل الإصابات والعدد الإجمالي لحالات الإصابة بالفيروس.

وأستطرد جونسون أن مستوى الإنذار سيخبرنا بمدى شدة وصرامة تدابير التباعد الاجتماعي الواجب تطبيقها، فكلما انخفض المستوى قل عدد الإجراءات، وكلما ارتفع المستوى،  »كلما كان علينا أن نكون أكثر صرامة«.

هل اصبحت الحرية هي الشهيد الأول لكورونا ؟

تخوض المجتمعات حروبها عادة بحثا عن حريتها، فالاستقلال وسحره يكمن في مدى الحرية التي تكتنفه، ولذلك فان التدابير الاحترازية التي تفرضها الحكومات احيانا، سواء في فترات الحروب الميدانية ضد عدو خارجي، أو في زمن المواجهة مع أخطار داخلية، منها على سبيل المثال أثارة الفتنة الطائفية أو المذهبية أو العرقية في صفوف الشعب أو شن عمليات ارهابية لأثارة الخوف والفزع لدي المجتمع مثلا أو حدوث أوبئة كمثال آخر للأخطار الداخلية، فان هذه التدابير تأخذ في حسبانها أنها مع ضرورتها، بل وحتميتها لابد أن تكون في اضيق الحدود، ولفترات يتم الاجتهاد في ان لا تطول مدتها.هنا تبرز أصوات بعض الكتاب والسياسيين لتقول ان الحرية لابد أن تكون دائما مصانة وتحت كل الظروف، وانها تمثل حياة الانسان، ولذلك فان فرض القيود على حركة المواطنين أو تحديد ساعات خروجهم ودخولهم أمر يتناقض تماما مع حرية الانسان وانه مع كل التقدير لتلك القيود وظروف سن أو فرض اجراءاتها فانها لا يمكن ان تشرع او تقنن على حساب الحرية.فلا يمكن التسليم بأن تصبح الحرية هي الشهيد الأول لكورونا

المجتمع.. والديموقراطية وكورونا

قد يختلف المواطنون، بل من المؤكد وبالضرورة أنهم لابد لهم ان يختلفوا حول النظم والعقائد السياسية بحكم الانتماءات الفكرية او الايدولوجية، أو بحكم المصالح الخاصة، ومدى حرية رأس المال في النظم السياسية وأساليب

رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون
خطاب يفتح الطريق امام خطة جديدة تتوازى مع المرحلة

الحكم وادارة الدولة، ومصالح الأكثرية العظمى من المواطنين، ولكن في القضايا العظمى التي تتعرض لها الدولة، وتهدد أمن البلاد أو أمن المواطنين وأبرزها في حياة الشعوب (الحروب)، وكذلك (الأوبئه)، لابد ان تكون الكلمة الفصل في الخطاب الوطني للحاكم او للحكومة عموما. ويمكن الرجوع بعد ذلك في النتائج التي تترتب على تلك التدابير أو الأجراءات للبرلمان أو لصوت الشعب المباشر في الاستفتاء العام.

هناك قول مشهور لأحد زعماء حزب العمال البريطاني الراحلين (توني بن) أبان الغزو الأمريكي البريطاني للعراق، وكان مناهضا لهذا الغزو أنه قال (ما دامت الحرب قد بدأت، فانني امتنع تماما عن أي اتصالات مع الجانب الآخر للحرب) هنا يبرز معنى الألتزام لدي المواطن قبل السياسي. وفي مصر بعد العدوان الاسرائيلي عام 1967 فيما يعرف بنكسة 1967، وبداية حرب الأستنزاف أن صرح الزعيم الراحل جمال عبدالناصر تصريحه الشهير (لا صوت يعلو فوق صوت المعركه). للأسف أصبح هذا الشعار بعد رحيل الزعيم محل تفكهة وتندر ان لم يكن سخرية، من القوى المضادة أبان حكم الرئيس الراحل أنور السادات، وبعض الكتاب من انصار كامب ديفيد والأنفتاح السداح مداح).بقولهم ان عبدالناصر قصد بذلك ان لا احد يتكلم حتى نحرر فلسطين !

خلاصة القول أنه ليست هناك حرية مطلقة، وأن الحرية وأمن المواطن هي المعيار الأساسي والوحيد لمدى سلامة القرار وصوابه لأمن الوطن واستقراره. والأوبئة هي نوع من انواع الحروب، وتكلفة المرض يتحملها المريض بنسب مختلفة مع مسؤولية الدولة، ولكن الوباء تناط مسؤوليته بالدرجة الأولى على الدولة، وفي حالة كورونا باعتبارها وباءا عالميا تتضاعف مسؤولية المجتمع، والدولة هي التجسيد المباشر لمعنى أو لتعبير المجتمع، وقراراتها ملزمة، فهي الأب المسؤول عن عائلته وهي كل المواطنين.

الحرية.. قضية أزلية

لابد من التسليم، أن مفهوم الحرية وأبعاده ليس مفهوما آنيا، ولكنه مفهوم ظهر على السطح منذ ان ظهر المجتمع السياسي، وكانت البداية حين ظهرت الحاجة الى وجود الحاكم، الذي يحمي الضعيف من القوي، ويحمي المجتمع بأسره من الفتن الداخلية أوالغارات الخارجية، وغزوالمجتمعات من خصومها، وحين استدعت الظروف والرغبة في الأمن الشخصي، والأمن العام، جرى الاتفاق خلال ما يسمى (العقد الاجتماعي). وفحوى هذا العقد أن يتنازل المحكوم عن بعض حقوقة في (الحرية) للحاكم، حتى يمكن ان يقوم بصلاحيات الحكم وفرض الطاعة الواجبة لأحكامه. هنا ظهر (المجتمع السياسي) بظهور فكرة الحاكم والمحكوم، وبدأت ايضا حركة الصراع بينهما، وحين تتسع صلاحيات الحاكم يظهر الحاكم (الديكتاتور)، وحين تتسع صلاحيات المحكوم يظهر المجتمع (الديموقراطي).لكن ما هو الحال حين تظهر أزمة تستوجب أجراءات خاصة وطارئة، هنا اجتهد المشرعون في ابتداع نصوص خاصة يستند اليها الحاكم في تقييد الحركة العامة للمواطنين وفي مقدمتها (اعلان حالة الطوارئ، ثم تستجد مع تطور الحياة والمجتمعات قضايا ومشاكل جديدة قد تكون أكثر تعقيدا مما خلص إليه المشرعون في مراحل سابقة، والأكثرها بروزا في مرحلتنا الحالية ظهور هذا الوباء العالمي كورونا، وهو عالمي بفعل تطور صور المواصلات وتنوع وتعدد الطائرات وظهور المجتمعات المفتوحة والنشاط السياحي المتعدد الاشكال، وحركة الاستثمار العالمية، بحيث أصبح العالم (قرية صغيرة) ولذلك لن يكون هناك وباءا قطريا، فالحركة والتنقل ستكون كفيلة بنشر المرض، تماما كما ينتشر الخبر، ويمكننا ان نقول بل وان نصرخ (وداعا للمجتمعات المغلقه).

كورونا والنظام العالمي

يشبه البعض حركة الصراع العالمي في مواجهة وباء كورونا بأنها قيام (الحرب العالمية الثالثه)، فصراع بتلك الضراوة، وعلى ذلك المستوى العالمي، لا يمكن تفسيره أو هضمه بأنه مجرد وباء، وعلى ذلك فكما تشكل العالم بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط امبراطورية بحجم الامبراطورية العثمانية، وتمدد حركة الامبراطوريات الأخرى وفي المقدمة منها الامبراطورية البريطانية وكذلك الامبراطورية الفرنسية، وتشكيل (عصبة الأمم). ثم ما تمخض عن الحرب العالمية الثاني من بروز الكتلتين الغربية بزعامة الولايات المتحدة الامريكية، والشرقية بزعامة الأتحاد السوفييتي، وتشكيل الأمم المتحدو أننا بصدد عملية تغيير قادمة في النظام العالمي بعد تلك الحرب مع كورونا. وبالتالي ظهور منظمة جديدة، تتناسب مع انتهاء الحرب على كورونا أي (الحرب العالمية الثالثة).وعلى ذلك

تتسلط الأنظار كلها على الصين باعتبارها النجم البارز في مقاومة وباء كورونا سواء بغزارة ابحاثها أو انضباط حركتها، وسرعة انجازها الحازم في الخروج النسبي العالي من سطوة وباء كورونا، ذلك أيضا مع الصعود البارز لها على المستوى الاقتصادي والصناعي، والصين بالتأكيد تجربة جديرة بالأنتباه منذ زمن، فقد تخلصت من الكثير من امراضها الاجتماعية والاقتصادية، بل ونأت بنفسها عن الخوض في الكثير من الصراعات بل والاستفزازات الاستعمارية حتى تبني ذاتها بفضل زعامات وقمم سياسية عالية الطموح والأهداف مثل صن يات صن وماوتسي تونج وشواين لاي، ثم باقدامها على الانفتاح برايات حمراء، أي انها تعرف ما تريد، وبأي وسيلة تتبع، وليست اسيرة فكر منغلق، أو انفتاح غير محسوب.في نفس الوقت لا يمكن ان تكون الولايات المتحدة بتراثها الفكري التحرري، ولغتها العالمية وثقافتها التي تشكل أهم قوتها الناعمة تودع ايامها الأخيرة باعتبارها قوى عظمى. التغيير لا يعتمد على قوة اقتصاد فقط، وانما أيضا على مجالات اخرى تتعدد فيها مراكز القوة، وعلى ذلك ستظل الولايات المتحدة في مركز القوة، وان كانت بالتأكيد لن تظل هي الأوحد لعوامل كثيرة ومتعددة، ونظرة واحدة على منطقة الشرق الاوسط، سوف نجد ان روسيا عادت لكي تصبح أنشط اللاعبين، وأكثرهم تأثيرا، العالم مقبل على فترة تعدد القوى على الساحة الدولية وليس على القوة الأعظم والاوحد.

العدد 105/حزيران 2020