لبنان:  »الزعماء« مدعوون إلى وقف تقاذف  »كرة النار« الطائفية

طريق الإنقاذ طويل ومقومات الصمود معدومة

بيروت – غسان الحبال

قدر لبنان أن ينحر بعامل تميزه كبلد تعايش وعيش مشترك بين مختلف طوائفه ومذاهبه، وهو العامل الذي طالما تغنى به على مر التاريخ، ليتحول هذا الوطن الصغير تدريجيا، وعلى مدى سنوات الحرب الأهلية وحتى اليوم، إلى  »كرة« نار طائفية يلعب بها زعماء الطوائف السياسيين الذين ورثوا  »أمجادهم« عن آبائهم وجدودهم.

نعم، لبنان الوطن ينحر اليوم تحت عنوان 50  من اللبنانيين  »يتدحرجون« إلى ما تحت خط الفقر.

البنك الدولي: الإصلاحات أولا

متأخرا أدرك لبنان أنه أصبح في مواجهة الحائط المسدود، فرضخ مرغما لطلب المساعدة من صندوق النقد الدولي في محاولة للوقوف على رجليه، ولكن وجد نفسه في المقابل أن لا أموال من دون خطة إصلاحات واقعية، فضلا عن أن الهدف الأهم من الإصلاحات اليوم هو استعادة ثقة اللبنانيين بدولتهم واقتصادهم أولاً، كمدخل لاستعادة ثقة المجتمع الدولي بعد أن فقدت الدولة اللبنانية صدقيتها على مدى عقود بسبب غياب مفهوم الدولة وسيادتها وحدها على أرضها، وتاليا استشراء الفساد والعجز السياسي والمالي والاقتصادي.

وللانطلاق بعملية الإصلاح، يفترض معالجة مكامن الخلل الأساسية، من بسط سلطة الدولة الى معالجة الفساد وإهدار المال العام المنظم، والذي تقدر كلفته 5 مليارات دولار سنويًّا، ويتسبب في إهدار ما نسبته تقريبًا 45 من مداخيل

عون دياب: لملمة الوضع الداخلي

الدولة و27 من الموازنة و10 من الناتج المحلي الإجمالي ناهيك عن الخسائر غير المباشرة. وبديهي ان يكون ذلك من شروط صندوق النقد الاصلاحية لمد يد العون إلى لبنان، وقبله تحقيق توصيات مؤتمر سيدر وخطة ماكنزي، وباريس 3.

وفي لقاء لـ »الحصاد« معه يشرح الرئيس التنفيذي لشركة  »سي. أس. آر. ليبانون« الاستشارية المتخصصة في  »المسؤولية الاجتماعية للشركات« خالد القصار أن أبرز الإصلاحات الواجب القيام بها هي:

ـ إعادة هيكلة القطاع العام ووقف التوظيف العشوائي واعتماد معايير الكفاءة والنزاهة في التعيينات الإدارية بعيدا من المحاصصة والزبائنية، واللجوء إلى ذوي الخبرات لصوغ السياسات المالية والنقدية، كما وإعادة النظر في هيكلية الرواتب وفي نظام التقاعد اللذين يمتصان جزءًا أساسيًّا من الإيرادات.

ـ خفض الإنفاق العام وتشديد الرقابة على الإدارات الرسمية.

ـ إصلاح قطاع الكهرباء جذريا بعيدا عن المحاصصة السياسية.

ـ تعزيز عمل الهيئات الرقابية كالتفتيش المركزي وديوان المحاسبة.

ـ تحسين الجباية لتصبح عادلة في كافة المناطق وغير خاضعة لسلطات سياسية محلية.

ـ وضع آلية قانونية وقضائية لاسترداد الأموال المنهوبة.

ـ عدم التدخل السياسي في عمل القضاء ونزاهته.

القصار: إيجابيات دونها سلبيات

وهنا يؤكد القصار على  »من إيجابيات اللجوء إلى تمويل وغطاء صندوق النقد الدولي، هو  »الرقابة الاقتصادية« اللصيقة (واستطرادا السياسية غير المباشرة)  للتأكد من أن الحكومة تنفذ البرنامج الاقتصادي الذي سيجري الاتفاق عليه، فالضغط الذي سيمارسه الصندوق على الحكومة للإيفاء بالتزاماتها هو الأمر الذي نحتاجه أكثر من أي أمر آخر بحيث أن ثقة اللبنانيين بقدرة الدولة على تنفيذ ما ترسمه على الورق معدومة نهائيا«.

ومن موقعه، نسأل القصار عن مساهمة أو دور يمكن للقطاع الخاص ان يقدمه في سبيل تسريع إنجاز هذه الإصلاحات، وعن مدى الحاجة لهذا الدور، فيجيب:

 »يرزح القطاع الخاص تحت ضغوط اقتصادية هائلة فاقمتها أزمة وباء كورونا. ومن شأن ذلك أن يحد من قدرته على لعب دور فاعل في تنشيط الاقتصاد اللبناني في المرحلة المقبلة على أقل تقدير رغم امتلاكه لديناميات مرنة تسمح له بالانتعاش على المدى الطويل، إذ بات يواجه الإفلاس في ظل دخول لبنان مرحلة ركود قد تطول لتلامس الكساد. ومن أبرز المؤشرات على ذلك، تلقي وزارة العمل بعيد انطلاق ثورة 17 تشرين 2019 عشرات طلبات الشركات للصرف الجماعي لموظفيها (انخفض عدد موظفي القطاع الخاص من 950 ألفاً في تشرين الأول 2019 إلى 700 ألف حالياً). ويتوقع أن يطال الافلاس أكثر من 25 من شركات القطاع الخاص بمعظمها شركات صغيرة ومتوسطة«.

ويأخذ القصار هنا على الخطة الاقتصادية للحكومة  »إحدى نقاط الضعف كونها تفتقر الى جدول زمني واضح للتنفيذ (الذي سيظهر مع البرنامج المرتقب للصندوق) وهو ما يفقدها جزء مهم من مصداقيتها ويعزز مضمونها الإنشائي الذي لا يهدف إلا الى استرضاء صندوق النقد الدولي عوضا عن مساعدة اللبنانيّين، لا سيما الأكثر فقرا وهشاشة بينهم، للخروج من الأزمة بأقل خسائر ممكنة«، إلا أنه يستطرد قائلا:  »لكن هناك فرصة للبنان للاستفادة من موارده البشرية والاعتماد على الإنتاج الوطني وتشجيع الصناعات الوطنية بدل الاستيراد من الخارج الذي تبلغ فاتورته السنوية 20 مليار دولار«.

خارج إطار الخطط الإصلاحية والوضع الاقتصادي المنهار، التي تحدث عنها القصار بإسهاب، يحاول العهد اليوم مدعوما بحكومة الرئيس حسان دياب، ومع إشرافه على آخر سنتين من ولايته، لملمة الأوضاع السياسية الداخلية في محاولة لتبييض صفقة فريق عمله لا تتجاهل طرح إسم الوزير جبران باسيل كمرشح أساسي لرئاسة الجمهورية، وفي الوقت نفسه لا تتجاهل، ولو إيماء، دورا رئيسيا في ذلك للنواب. وهنا يطرح السؤال نفسه بقوة عن دور الطبقة السياسية اللبنانية عموما، بين موال ومعارض، في دعم تحقيق الإصلاحات المطلوبة؟

أي دور للطبقة السياسية؟

لا يمكن للبنانيين بجميع أطيافهم أن ينسوا أو يتناسوا ان الطبقة السياسية الحالية متهمة بالفساد الذي أصبح متجذرا

»كرة النار الطائفية« تكاد تحرق الجميع

فيها، وعلى مدى عقود كانت تجدد نفسها وإن بوجوه مختلفة، فهي عطلت الديمقراطية ومؤسسات الرقابة والمحاسبة، وهي لن تتمكن الآن من استرجاع ثقة الشارع من دون انتخابات نيابية مبكرة.

الحل في هذه المرحلة هو في اللجوء الى انتخابات نيابية مبكرة ينتج سلطة سياسية جديدة وقضاء عادلا يساعدان على استعادة اللبنانيين ثقتهم بوطنهم وبحوزتهم، ويدعمان الاستقرار النقدي والتوازن المالي الذي يعتبر عاملا أساس في مسيرة الإصلاح والحصول على الدعم الخارجي.

ولو سلمنا جدلا اليوم بأن الشأن الاصلاحي اتخذ مجراه الطبيعي، فإن الناس الذين طالهم الفقر وأخذ التعب والإرهاق منهم مأخذه، يسألون عن الفترة المتوقعة لإنجاز هذه الإصلاحات ووضع لبنان مجددا على سكة النهوض، ويتساءلون عن المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي سوف يرزحون تحتها خلال فترة تحقيق الإصلاحات المطلوبة؟

الطريق طويل والمعاناة قاسية

ليس خفيا على أحد بأننا لا نزال في بداية الطريق، وتنفيذ أي برنامج من صندوق النقد الدولي يتطلب سنوات، وستتحكم به أيضا الظروف السياسية المحلية والإقليمية والدولية وعدم ضمان الدعم المالي الخارجي كون لبنان أصبح جزءا من الصراع في المنطقة، وفي أحسن الأحوال، قد تبدأ ملامح الانتعاش تظهر خلال فترة لا تقل عن 5 الى 10 سنوات في تقديرات متفائلة.

لكن تبقى هناك الكثير من العقبات التي يجب إزالتها من الطريق، ويقول الاقتصادي الأميركي جوزف ستيغلتز، إنّ  »الإصلاحات الاقتصادية التي يطلبها صندوق النقد كشروط ليوفر القروض، تسبّبت في كثير من الأحيان بنتائج عكسية للاقتصادات ومُدمّرة  للسكان«. وفي تجارب مماثلة في العديد من الدول التي لجأت الى تمويل صندوق النقد لدعم اقتصاداتها المنهارة كالأرجنتين واليونان، لم تظهر نتائج إيجابية لعمل الصندوق في هذه الدول، بل على العكس، استمر الصندوق في إغراقها بالديون مما فاقم من أزماتها وأطال فترة وسنوات التعافي واستعادة النمو، فالشروط التي يفرضها الصندوق كأساس لتقديمه الدعم، والتي غالبا ما تتزامن مع انخفاض حادّ في قيمة العملة، فضلاً عن خروج رؤوس الأموال الأجنبية من البلد، تتطلب أخذ إجراءات تقشفية، مثل تخفيف الدعم على الكهرباء والمياه وزيادة الضرائب، ومن شأن ذلك رفع معدل الفقر والإمعان في تدمير القدرات المالية للمواطنين.

وكان البنك الدولي توقع قبل أشهر أن أي زيادة للأسعار في لبنان تناهز 25 قد تضع أكثر من 50 من السكان تحت خط الفقر الرسمي، مما يعني أن نسبة الفقر الحقيقية تخطت بكثير نصف سكان لبنان مع تجاوز التضخم عتبة الـ 50.

من يطفئ غضب الناس؟

وقد أظهرت الاحصاءات الأخيرة ما قبل 17 تشرين وكورونا تجاوز نسبة البطالة 35 خصوصًا بين الشباب، وهذا ما ينذر باضطرابات اجتماعية وإنسانية قد تودي الى مزيد من حالات الانتحار والسرقات والعنف وتزايد نسبة الهجرة التي ستفقد لبنان موارده البشرية وشبابه القادر على النهوض بالاقتصاد مجددا على قواعد جديدة ومستدامة.

ومع إغلاق عدد كبير من المؤسسات أبوابها سيجد آلاف اللبنانيين أنفسهم مهددين بخسارة وظائفهم، فيما بعضهم خسرها بالفعل جراء تسريحهم من دون سابق إنذار، ويعمل آخرون بدوام جزئي مقابل نصف راتب. وستعاني كل القطاعات بلا استثناء، ولا سيما الخدمات والمصارف والسياحة والفنادق التي بدأ بعضها الاقفال النهائي وأبرزها فندق البريستول الشهير في بيروت، هذا بالنسبة للجانب الاقتصادي/السياحي، أما بالنسبة للجانب الاجتماعي فإن بعض المؤسسات التربوية قد اضطرت لإقفال أبوابها، فيما هددت مدارس أخرى بالإقفال نتيجة تراجع مداخيل الأهالي وبالتالي عدم قدرتها على تأمين رواتب الأساتذة.

ويبقى سؤال أخير: هل يصمد لبنان ويتجاوز محنته السياسة/الاقتصادية/الاجتماعية ويخرج سالما منها ولو استغرق الأمر سنوات طويلة؟ وإلى أي مدى ما زال اللبنانيون قادرون على الصمود؟

هذا ما سوف تجيب عنه الأيام المقبلة سواء طالت أم قصرت!

العدد 105/حزيران 2020