القبطان البري وتغيير المسارات

بيروت – ليندا نصار

يعدّ الشاعر عبد الرحيم الخصّار من الشعراء المغاربة المنشغلين بالشعر والمشتغلين على القصيدة لتحقيق الدهشة والالتفات إلى الشعر الحديث خصوصا، فهو يستثمر المفردات من خلال تحريرها من معناها المعجميّ لتحلّق في فضاء الرّمزيّ فتحمل أبعادا مستقاة من العوالم الدّاخليّة وهنا يبدأ تحقيق الوظيفة الجماليّة للكتابة.

بعد دواوينه: أخيرا وصل الشتاء 2004 – أنظر وأكتفي بالنظر 2007- نيران صديقة 2009- بيت بعيد 2013- عودة آدم، صدر للشاعر ديوان القبطان البري عن منشورات المتوسط إيطاليا 2020

تتبدّى في ديوانه خصوصية الكتابة الإبداعية فالشاعر عبد الرحيم الخصار يمتلك تقنيّات الكتابة الشعرية وهو القارئ الذي يترك ثقافته لأن تتسلّل إلى معانيه بعد أن تمتزج بخيال يوسّع أبعاد القصيدة، ويظهر ذلك من خلال توظيف هذه الثقافة في خدمة نصوصه كما ظهر في عدّة أماكن من الديوان سنأتي لاحقا على ذكرها. هذا  »القبطان البري« بات يشكّل إضافة في عالم الشعر، بل إنّه عبارة عن مزيج من الموسيقى التي رافقت القصائد والتي تدلّ على أنّ الشاعر

عبد الرحيم الخصار

عبد الرحيم الخصار ذوّاق يستقي المفردة يطوّعها في سياق الجملة الشعرية تماما كما العازف الذي يختار النوتة المناسبة ويضيفها إلى الجملة الموسيقيّة فيحلو الإصغاء.

قبل الولوج في قصائد الديوان نبدأ بالعنوان الذي يشكّل نافذة تسهّل للقارئ الإطلالة على النصوص التي تنفتح دلالاتها على الحياة وهي تتشكّل من علاقة مزدوجة بين العالمين العلويّ والسفليّ، إنّها الإقامة في المسافة الفاصلة والمشتركة بين هذين العالمين، فالشاعر يستمدّ موسيقاه الخاصّة من الأعلى ليشكّل منها قصائده والموسيقى التي نتحدّث عنها هي الألحان والإيقاعات التي تسيّر هذا الكون.

عنوان الديوان  »القبطان البرّيّ« يحمل في ثناياه نوعا من التعارض بين عالمين، فكيف يمكن للقبطان الآتي من العالم العلويّ أن يحقق ويتمم رسالته في العالم السّفلي فبعد أن كان يقود الطائرة في الفضاء أو السفينة في البحر ويتحدّى الصعوبات والمطبّات والأمواج بنجاح، انتقل إلى البرّ وصار قائده وبات يجد صعوبة في تغيير المسار وخلْق عالم جديد من الصور التي قطفها من العالم العلويّ محاولا بذلك إسقاطها على العالم البرّيّ وهذه الرسالة لن تتحقق إلا من خلال الشعر. إنّه القائد الذي يتحكّم ببوصلة الاتّجاهات ويخلق مسارا جديدا للحياة بل للقصيدة. ففي مقاربتنا لهذا العنوان، نستطيع أن نلاحظ بأنّه يشكّل خيطا جامعا لكل القصائد إنّه العنوان الذي يقود القصائد كما يقود القبطان الركاب في سفينة العالم.

للشاعر رؤية فنية خاصّة فهو الذي يعرف طريقة القبض على اللحظات وتتبّع خصوصيّتها وإضافة رؤياه الخاصّة ليخرج من خلال هذه الأمور مجتمعة بقصيدة تشبه اللحظة التي استوحاها منها.

قد يكون هذا القبطان الشاعر الذي يقود أفكاره في نصوصه إلى حيث يشاء أو إلى حيث تشاء روحه لكن الحياة كانت تخذله أحيانا فهو الذي قدّم لها الفرح والموسيقى فوجدها تقدّم له الألم والحزن والوحدة وهو انطلاقا من هذه الاختبارات التي ولّدت في نفسه حالات من الوحدة والعزلة، يعترف بكل جرأة ويواجه نفسه والآخر عبر تكرار ضمير المتكلّم (أنا) والتعبير عن هذه الأنا الممزّقة الحزينة بصدق عميق وتواضع كبير حيث يقول في إحدى قصائده:

أنا قشّةُ تِبنٍ في ممر قصيّ /تدوسها قدمٌ وتتألم/ أثرُ جندبٍ يعود متخفيا من ليلةِ حبّ / برميلُ خمرٍ مُعتّقٍ في/جوف سفينة غارقة/ حفنةُ تراب في قبضة عاشقٍ مخذول/مفتاحٌ يرتعش في يد رجل سكران/أنا رسالةٌ قديمة/تعبر المحيطَ في زجاجة/ولا تصل/ أنا العشب الذي ينمو دائما على الحافة/ قوقعةُ الحلزون حين يهرم الحلزونُ ويموت والأثرُ الذي يتركه طريدٌ في مفازة/هو أثري./أنا كلُّ هؤلاء/وأنا لا أحد.

هذه الوحدة التي تكرّرت مرارا في نصوص القبطان البري غيّرت مسار الديوان لتغلب النبرة الحزينة على معظم قصائده.

تدخل السردية على القصائد لتسير جنبا إلى جنب مع شعريّة الديوان كما في قصيدة  »الساعاتي« حيث كتب:

  »برغيّ في اليد، نوابضُ ودبابيسُ من فولاذ، وعقربان لحياةٍ لم تعد المياه تجري فيها. يسيل الزمن في ميناء الساعة بلا مفكّات، وينسحقُ العمرُ بين الدواليبِ المسنّنة. ينزل الشتاءُ غزيرا خارج الدُّكَّان، وتسقطُ قطرةٌ من السَّقفِ على الحاجِبِ الأشيبِ المقوّس، حاجبِ العين التي رأت كلّ شيء، ثم نَسِيته.  »

ثمة تواصل بين الصورة والصوت وذلك عندما يأخذنا إلى عالم يعبر فيه عن ذكرياته الماضية وحالات نفسه. فالقصائد تتوغّل في الوحدة وتتقاطع مع ألحان الأغنيات المعبّرة عن الأسى، هنا يتبدّى إيقاع الحنين غير المباشر الذي تخفف حدته لحظة الكتابة إذ يقول في مكان من الديوان:

أكتب كي أبيدَ الضبابَ الكثيفَ في غرفتي/وأطردَ العُقبانَ والعناكبَ من راحةِ اليد/كي أُهيلَ الترابَ على حياةٍ مَضتْ/وأعيدَ الفرحَ القديمَ إلى مائدة العائلة.

يستحضر الشاعر الثقافة الغربية فتتلاقى بعض نصوصه مثلا  مع أغنية ل B.B King عنوانها The sky is crying

وقد أراد الشاعر للقارئ أن يكتسب معرفة وثقافة وعبّر عن انفتاحه الذي أضاف نكهة مميّزة لقصائده ومنها ذكر

غلاف القبطان البري

أسماء شوارع أو شخصيّات أو أغانٍ…

(شارع رامبّارت في نيوأولينز حيث ظهر الجاز منتصف القرن التاسع عشر.

 »Midnight Sun« أغنية لسارة فون.)

لا ننسى أنّ للمرأة حضورا لافتا في الديوان إذ خصّص لها الشاعر عدّة قصائد تكاد تطغى على تفكيره إنها المرأة التي تدخل في روحه وتؤثّر في حالته النّفسيّة إنّها سبب الفرح الذي ظنّه حاضرا في حياته ذات يوم بل هي الحياة بنفسها، يكتب الشاعر في إحدى القصائد:

حين كنت أحبكِ/كانت أسماكُ العالمِ تسبح في يدي.

وفي مكان آخر يقول:

 أعيدي الحياةَ إلى هذه اليد/فقد صارتْ طَرَفا من الطّاولة/أعيدي الحياةَ إلى هذه العين/فقد صارت غمامةَ صيف/أعيدي الحياةَ إلى هذه الأقدام/فقد صارت جبالَ جليد.

هذا القبطان الذي أقبل ليدير الاتجاهات في البر وجد نفسه مخذولا من الحياة إنه في حياة لا حياة فيها فما الفرق بين الميت والحي؟

سأعود غدا يا أصدقائي الموتى/أنا أيضا أُقيمُ في قبرٍ آخرَ/لا يَبعدُ كثيرا عن هذه المقبرة.

تمهَّلْ أيها الموت قليلا/إذا أخذتني اليوم إلى مغاراتِكَ التي لا ضوءَ فيها/فمن سيصحو غدا/ليحيّي أشجار الأكالبتوس الشائخة؟/من سيربّتُ على الأغصانِ/ويُرهِفُ السَّمعَ /لِيُصغيَ إلى أنينِ جذورها؟/أنا حارسُ هذه الغابةِ أيّها الموت/والفأسُ التي في يدي/لا لِتُدْميَ جذعَ شجرة/بل لتفتكَ بفؤوس الحطّابين.

بالرغم من كلّ ما يحدث، تبقى النبرة الحزينة التي لا تبدّدها إلا  الموسيقى التي تعلو فوق كل حزن وهذا المزاج الموسيقي  يشرّع القصائد على الحياة برغم كل الكدمات.

 يبقى من الحقّ أن نقول لقد استطاع الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصّار من خلال  ديوانه  »القبطان البرّيّ« أن يعبّر بصدق وشفافيّة وجرأة عن الذات الشاعرة التي تحمل رسالة كان لا بدّ له من تحقيقها مهما بلغ الحزن من درجات. وقد نأى الشاعر عن التفاصيل واكتفى بعبارات مكثّفة تؤدّي المعنى المطلوب إذ حملت مفرداته الشحنات الدلالية التي أغنت النصوص في هذا الديوان.

العدد 105/حزيران 2020