أعراض كورونا على الطيران المدني

هبوط اضطراري.. ومطبات على طول الرحلة إلى 2023

عمر مخفي

بحلول منتصف أيار/مايو، طالعنا أكبر اقتصادين في العالم – الولايات المتحدة والصين – بمؤشرين مشجعين عن عودة الحياة تدريجيا إلى قطاع الطيران المدني، أحد أكبر أنشطة الاقتصاد الخاسرة في زمن كورونا. فقد أعلنت بيكين أن عدد رحلات الطيران المدني تعافى بنسبة 60 في المئة مقارنة بمستوى ما قبل الجائحة مسجلا 8900 رحلة كمعدل يومي. وفي الولايات المتحدة، ارتفعت نسبة الطلب على السفر جوا بـ124 في المئة خلال شهر واحد من 94 ألف إلى أكثر من 210 ألف مسافر.

والواقع أن هذه الأرقام تحمل جرعة من التفاؤل الخادع. لأن المعطيات الصينية لا تتحدث عن حجم الطلب على الرحلات المسيرة، بينما لا توضح نظيرتها الأمريكية الهوة الشاسعة بين الطلب الحالي والطلب العادي الذي يناهز في المعدل 70 مليون مسافر شهريا. أما الصورة الحقيقية فهي قاتمة دون أدنى شك، ويرسم بعضا من معالمها حجم

إجراءات الوقاية وقواعد التباعد الاجتماعي ستصبح مظهرا طبيعيا في المطارات

الخسائر المسجلة والمتوقعة، وعدد الشركات التي تعلن إفلاسها بشكل يكاد يكون يوميا.

إعادة هيكلة في الأفق

في المنطقة العربية، يتراوح الوضع بين الشلل التام في حركة نقل الركاب، وإعادة التشغيل الخجول للطائرات المتسمرة فوق أرضية المطارات منذ منتصف مارس على الأقل. وضع قاتم كما هو الشأن في مناطق العالم الأخرى، لكن شبح الإفلاس يظل بعيدا عنه نسبيا. والسبب يرجع لكون أغلب شركات الطيران في ملكية الحكومات كليا أو جزئيا. ما يعني أن الدول ستتدخل لحماية أجنحة ناقلاتها الوطنية من مقص كورونا المتربص بها. لكن هذا التدخل لن يكون يسيرا على الحكومات والناقلات معا. فالأولى تواجه استحقاقات غير مسبوقة بسبب الوضع الذي أنتجه الوباء: تراجع في الإيرادات يقابله ارتفاع في سقف انتظارات قطاعات الاقتصاد المتضررة وشرائح المجتمع الهشة. وبين هذا وذاك ستضطر الحكومات لترتيب الأولويات وترشيد أوجه الصرف بما في ذلك صرف الحزم المرصودة لدعم الاقتصاد.

أما شركات الطيران، فهي تدرك من الآن أن الدعم الحكومي لن يكون دون كلفة، بل بشروط قد تكون قاسية من قبيل خفض اليد العاملة، أو مراجعة كتلة الأجور، وترشيد النفقات، وتأجيل أو إعادة جدولة الاستثمارات. بصيغة أخرى، فإن ثمن الدعم سيكون إعادة هيكلة من نوع ما ضمن جداول زمنية لا تتجاوز نهاية العام الحالي.

الوظائف.. عصب الحرب

استرجاع ثقة المسافرين من خلال ضمان سلامتهم الجسدية، حجر الزاوية في إقلاع قطاع الطيران من جديد

بيد أن الحماية من الإفلاس ليست المحرك الأول للدعم الحكومي لقطاع الطيران. بل إن العامل الوازن بالنسبة لكثير من الدول سيكون الحفاظ على الوظائف والحؤول دون إغراق سوق الشغل بملايين العاطلين وما قد ينتج عن ذلك من ضغوط اجتماعية وسياسية. ويقدر الاتّحاد الدولي للنقل الجوي  »إياتا« عدد الوظائف المهددة بـ 1.2 مليون وظيفة، أي ما يعادل نصف مناصب الشغل التي يوفرها القطاع. ويرتفع هذا العدد إلى نحو 1.8 مليون وظيفة مهددة إذا ما وسعنا دائرة التقديرات إلى فرص العمل غير المباشرة التي يوفرها الطيران في القطاعات المرتبطة به. ورغم أن دول الخليج العربية تستحوذ على 40 في المئة من حجم الوظائف المهددة، إلا أنها تواجه ضغوطا أقل مقارنة مع بقية الدول العربية بالنظر إلى طغيان العمالة المهاجرة على القطاع، ومرونة سوق الشغل التي تجعل عمليات التسريح أقل إيلاما للمشغلين، فضلا عن الاحتياطيات المالية المريحة التي تسهل عليها عملية التدخل. وعلى العكس من ذلك، يحصد المغرب أسوأ التقديرات على الإطلاق بالنسبة للوظائف التي قد تعصف بها الجائحة في قطاع الطيران (نصف مليون تقريبا) متبوعا بمصر (280 ألف)، فالجزائر (170 ألف)، وتونس (93 ألف) والأردن (34 ألف). وتشترك هذه الدول في كون السواد الأعظم للوظائف المهددة مشغولة من قبل مواطنيها. وإذا أخذنا بعين الاعتبار محدودية الموارد المالية لهذه الدول، وتعقيدات قوانين العمل فيها، ونشاط اتحاداتها النقابية، فإن الوضع يبدو أشبه ببرميل بارود يتوجب نزع فتيله عاجلا وليس آجلا.

تدابير مستعجلة

ولاحتواء الوضع الكارثي لقطاع الطيران ومنع وصول ارتداداته لبقية مفاصل الاقتصاد، سيكون على الدول توفير السيولة والدعم المالي للناقلات. فتراجع المداخيل لم يعف الشركات  من أعبائها المالية وفي مقدمتها كتلة الأجور، ودفعات الدائنين والمؤجرين (كلفة توسيع الأسطول) الذين يرفضون لحد الآن تأجيل الأقساط، ومستحقات موفري الخدمات، إلخ. ويقدر  »إياتا« أن مديونية شركات الطيران في العالم ستصل إلى 555 مليار دولار بنهاية العام، مشيرا إلى أن الحكومات تعهدت بضخ 123 مليار دولار في موازنة الشركات. ولم تتجاوز تعهدات حكومات المنطقة لدعم ناقلاتها 800 مليون دولار، وهو ما يمثل 1 فقط من حجم مبيعات التذاكر لعام 2019 (مقابل تعهدات تمثل 25 في أمريكا الشمالية، و15 في أوروبا).

وسيكون على اتحادات النقل الجوي العربي الاتفاق على سلسلة إجراءات تساهم في خفض النفقات التشغيلية لشركات الطيران مثل مراجعة رسوم المطارات، ورسوم استعمال المجال الجوي، وخفض الضرائب على تذاكر الركاب والخدمات والوقود، وتأجيل دفع المستحقات الواجبة لخزينة الدولة أو لمؤسسات إدارة المطارات وغيرها من التكاليف.

وإذا كانت هذه التدابير ضرورية ومستعجلة لمنع انهيار القطاع، فإنها لا شك غير كافية لعودة المياه إلى مجاريها. ويبقى حجر الزاوية في عملية التعافي من الجائحة هو إعادة الثقة للمسافرين. وسيكون على الحكومات أن تضم جهودها لشركات النقل الجوي وقطاع السياحة من أجل اجتراح الصيغ الكفيلة بفتح الشهية للتحليق مجددا، والإنفاق على العطل والأسفار في سياق اقتصادي متأزم. ولا يقل هذا التحدي عن ذلك الذي شهده العالم في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. فالسلامة الجسدية للركاب عادت إلى الواجهة من باب فيروس كوفيد-19 وليس التهديدات الإرهابية. وهذا يعني ضرورة الاستثمار في وسائل المراقبة والتعقيم والكشف السريع، ووضع استراتيجيات منسقة بين مختلف المتدخلين في قطاعات الأمن والسفر والصحة. ولكن من دون مغالاة في اللجوء إلى إجراءات الحجر الصحي التي تثير قلق غالبية المسافرين وقد تثنيهم عن خططهم للسفر إذا كانت تنطوي على فترة حجر صحي من عدة أيام.

إلى ذلك، يجب حل معضلة التباعد الاجتماعي داخل الطائرات والحد من تأثيرها على نسبة شغل المقاعد وبالتالي على كلفة التذاكر. ففي سياق اقتصادي مأزوم، لن يكون ارتفاع الأسعار لتغطية كلفة المقاعد الفارغة عامل جذب للمسافرين مهما بدا ذلك مغريا ومنطقيا لشركات الطيران.

موعد الهبوط الآمن

في الخلاصة، يتعلق الأمر بخلطة متوازنة من الإجراءات لإعطاء زخم جديد للطيران المدني حتى وإن كانت النتائج

أسطول »طيران الإمارات«، أكبر ناقلة عربية والرابعة عالميا، لم يغادر أرضية مطار دبي لأسابيع

غير مضمونة. فالمشهد تتداخل فيه عوامل عدة والتأثير النهائي للجائحة لن يعرف إلا بالتغلب المبرم على الفيروس من خلال لقاح فعال. في انتظار ذلك، يبقى السيناريو  »المتشائل«، أي ذلك المبني على انحسار تدريجي للوباء وفتح على مراحل لسوق السفر، هو أن تعود الأمور إلى نصابها في 2023.

وتشير تقديرات  »إياتا« أن حجم الخسائر المتوقعة في المنطقة العربية قد يصل هذا العام إلى 24 مليار دولار بالمقارنة مع السنة الماضية، مع انخفاض في حركة المسافرين جواً بنسبة 51 في المئة إلى نحو 117 مليون مسافر. وقد تبلغ الخسائر غير المباشرة في القطاعات المرتبطة بقطاع الطيران نحو 66 مليار دولار، أي بأكثر من النصف من حجمها خلال سنة 2019.

وحتى في ظل استمرار التعافي التدريجي من الجائحة، واستبعاد موجة ثانية من الوباء، فإن إيرادات شركات الطيران لن تعود إلى مستويات 2019 إلا بعد 2025. وهو ما يعني بلغة أهل الطيران أن الأحزمة ستظل مربوطة وأضواء الطوارئ منارة لسنوات قادمة

العدد 105/حزيران 2020