الرحلة نحو المجرَّة

نعيم تلحوق

لم يعد خيالي يسعفني لأعيد صياغة أفكاري، كل الذين عرفتهم كانوا أصواتاً، رصاصاً خلّبياً، خارج نطاق أهدافي… لقد علمتني الحياة أن أدرس عاهاتي لأبصر سلامتي، لا شيء يستحق أن تكون واقفاً على أملك… معظم الذين توسّمت بهم خيراً خذلوني، خابوا معي، وخبت بهم… وسألت لماذا عليّ أن أحنق طالما الهواء الذي نتنفّسه واحداً… فأنا الخائب الأكبر الذي خيَّب نفسه وما استطاع أن يستردّ ثقته بالمحيط… هل هو إحساس  »فرويدي« يرسم كرهك لنفسك والأشياء المحيطة من حولك، أن أنه اللاوعي الجمعي الذي استقصده  »يونغ« ليحقق نجوميته من خلال استصداره قرار إعفاء نفسه من ذمّة البشرية والخلق؟؟

أسئلة كثيرة حامت حول رأسي المشتبه بها، اذا كانت محجراً تحتوي على حساءٍ للعثِّ والبراغيث، أم إنها احتمال خصّها الكون بطاقةٍ تعيد الرونق الى البياض… كنت أحسُّها فجلةً أو بطيخةً تحتوي على سماد ملبّد منذ آلاف السنين والقرون، ولا أعرف كيف تجمّدت منذ العصر الحجري ليدخل فيها كل أنواع المسامير والحديد والبرونزيات والخشب، ووقفت مسمَّراً على كم جمجمة تحقق غرض إيقاعها لتخرج من كونها بطيخة لتصبح صندوقاً أسوداً، يتشكَّل بها كل أهداف الكون ونزوعاته ونتوءاته، وأسبابه الموجبة؟!

حين دعيت أحد الأصدقاء المخضرمين الى مناظرة إذاعية في برنامجي  »أوراق ثقافية« رجوته أن لا يكثر من الكلام، أن يعطيني زبدة أقواله بعبارة على سؤال كنت أطرحه دائماً على كل المثقفين الذين عملوا على أنفسهم واشتغلت بهم الحياة، مدشِّناً القول بعبارة هل بإمكانك أن تنسى كتبك وقارئيك، ومريديك، وتعطيني جواباً وافياً: ما الجدوى من وجودك؟ لماذا أنت؟ لماذا الإنسان بكلِّه، وما المعنى من وجوده؟.

الفيلسوف الماركسي قال لي  »إسأل الله«؟؟؟!

الشاعر الوجودي فقال:  »كي أزيد حرارة الكوكب«؟!

أما المفكر العلماني فقال:  »كي أحبَّ ويكونَ لديَّ قضية«؟؟

أما الشاعر الذي استولدته مقروناً بالفلسفة فقد أضاف إليَّ بهجة ونعمة أن يكون لي أصدقاء، أسألهم ويجيبون… كلٌّ حسب سلالته وبنائيته الفكرية أو الحزبية أو القرائية… أحدهم أصرّ أن يعرف عنّي أنا، السائل، بالقول: أتسأل؟ إما أنك لا تعرف، أو أنك تريد مقاربة لنظريتك الفكرية والأدبية، قل لي بربك لماذا أنت… ما الجدوى منك؟!

 »لتمزيق الحُجب«.. أظنني أحاول أن أكون، كيف نُسمّي أنفسنا إنسانيين، ونحن لا نعرف سبباً لوجودنا، أليست تلك مغالطة بحتيّة وأكاديمية يجب أن تخرج من لا أجوبة الدين، الى علماء يجيبون عنها خارج المنتزه العلمي والفكري والأيديولوجي…

كل ذلك لا يعني أني أجبت.. فكل جواب على سؤال هو حبس لإرادة العقل… من منتهى الغباء أن نصنّف أنفسنا أذكياء بالفعل، ربما بالقدرة، وربما بالتحايل، وربما بالصبر…

العالم رغبة إضافية لسلوكنا، نحن الذين ننهش كبد الأرض ظنّاً منّا أنها المستطاع الذي نملكه، وهي نفسها تورثنا الخيبات والآمال التي عقدناها فتجدِّد عقدها معنا، كل مئة سنة…

أسأل نفسي، هل نؤمن بالأدوار، أم بالرقعة، أم بالعلو، أو بمنهج هيراقليطس، حساب من غير حساب؟!

هل تؤمن بالتقمص؟ بالنسخ؟ بالفسخ؟ بالرسخ؟ بالحلولية بالاتحاد؟ بالمغايرة التي لا تقف عند حدّ، أي أنك أنت نفسك غيريٌّ لا تعرف حِلاًّ أو نَسَبَاً، ولا تنتبه الى جذرٍ مفقود تتطلع إليه، غداً قبل البارحة؟!!

أسئلة مضارعة لا تحتمل خطوة الأمس!!!

لا شيء يجعلني أكثر حماسة من الحركة، اللحظة التي تلد في داخلي يقظة جديدة… كأنني طائر قرّر أن يغطّ على شفة الموج، ثم عاود الطيران في لحظة خاطفة.. فاستدرك وقع اللحظة على الماء، راح يرتشفها في خياله، قبل الوصال.. هكذا هي الأفكار… تعاند التعبير، والتعبير قرار ذهني لا وظيفي… لأنه اذا كان وظيفياً دخلت عليه الأهواء والغرائز وغاب العقل عنه… لهذا يحسن بنا أن نكمل ديمقراطيتنا التعبيرية على أنها وصفة لإنقاذ الذات من العيوب، أما الديمقراطية التمثيلية، فتدخل فيها عناصر الإغواء والعواطف والأهواء…

صاحبي الناقد التشكيلي والمسرحي صرّح لي حين لكمته بصراخي وهو ينظر بعينيه الفاجرتين على ابنه الثامنة عشر وهو فوق سن الثمانين – قبل موته بقليل-  »عِش اللحظة لا الحياة«، لا تفكر كثيراً، اكتب عنك في الكتابة عن الآخرين، لا شيء يفهم أحد سوى أن تعيش،  »عِش العيش« لا الحياة… لماذا تتعب نفسك في البحث عن معناك؟؟

صعقني الخبر كأنه إشارة لي أن أشرّع اللاشيء فأجعله شيئاً أو أن أقع في تكرار الوهم، أو الاستيقاظ صباحاً على كابوس أو حلم لا أدرك معناه… لكني تأكدت معه أن الحلم مكان، واللحظة زمان، وكلاهما وهمٌ مستطاع، فلماذا أصرُّ على وجودي طالما الحياة تسدّد لي فواتير لعبتها بلا تعب… كيف تمارس الحب في خيالك مع أحدٍ لا تعرفه، فقط لمجرد أنك بنيت صورة عنه في حلمك أو كابوسك، كأنك تدخل المعركة بلا سلاح أو ذخيرة؟

تبدّى لي أن أكثر من مخلوق فضائي يرسمون صورة الكوكب الجديد، نحن جينات لم تكتمل بعد، لقربها من علامات المحو… كل شيء فيها قابل أن ينتهي بخللٍ بسيط في ميزان الكون، الثبات وهمٌ، والدوائر لعبة كونية تقتضي الاعتراف بأن ما جعل الكون يدور لا يخطئ… ومن رسم هذا الجمال الذي لم ندرك كنهه بعد، هو تسليم قدري لا معرفي، بأن الكرة الأرضية منذ بليارات السنين، لن تتحول الى طابة ماء، يحرسها نيوتن ونيتشه وآينشتاين ولا أديسون وستيفنيرغ وزوكربرغ…

أخبرني صديقي عن حراس الكوكب،  »الأنوناكي«، الذين وظفوا قدراتهم في خلق مساحة جديدة للمسافات، وتعديل الجينات اللولبية كي تطأ فكرة العقل البشري… فهو مخلوق طوله أكثر من مئة متر، ويتمتع بصلابة بناء الأهرامات، وبعلبك، والحدائق المعلّقة وسور الصين العظيم… هو أكثر من  »خوفو » و »أيزيس« و »ايزوريس«، هؤلاء هم أصحاب الأرض، وقد عدَّلوا جيناتنا من لُدنهم، لنصبح أكثر ملاءمة ومواءمة مع قدرتنا على التخيّل البسيط، ولنتدرّج في حقل المعرفة كي نصبح طاقة كاملة، فنصير ضوءًا يقترب من ضوء الشمس، فنحيل المسافات الأرضية الى ضوئية، ونبدأ بمحادثة الله…

ذكر لي صديق آخر، أنه الإسراء والمعراج في لغة محمد… وآخر المسيح في اختفائه بسنٍ مبكرة، وقيامته بعد صلبه، وكيف صار نوراً عظيماً… وسألت السومريين كيف اكتشفوا الصحون الطائرة منذ أكثر من سبعة آلاف عام، وكيف كان يبدو الوصال الكوني ولماذا تصدر النجوم أصواتاً، وتطرق على بدن الفضاء كقلب آدم منذ أقنع حواء بتفاحة الخطيئة؟!

هل شارك الله في جريمة لا ذنب لآدم فيها؟ هل الله، الأنثى، أغوى حاله فسمّى ذلك نَفْسَاً خطّاءة ليجعل من الفضاء مدى لخياله، وحقلاً لتجاربه التي لم يستطع آدمي تخيّلها حتى اللحظة؟ هل انفجر أو انفلق أو انفلج من ضبابٍ وغبار وأنزيمات عدمية احتلَّت كثافتها ببعضها فجاء الطيف، الذي هو… فكان هو ما هو؟؟!

صديقي  »الأنوناكي« أخبرني أن الله موصول بعرشٍ لن تعرفه إلاّ اذا أعلن هو فيه عن نفسه، فهو الذات العليا التي ليس قبلها ولا بعدها أحد أو أثر؟! وأنه أكثر من عدد فلا هو فرد ولا أحد… إنه هو… كما هو.. لا يحدّه حدّ ولا يسعه مدّ… فالْعب يا صديقي على حجم مجرّتك ولا تبتعد… فكل ما فيك هو فيك، لن يكون لك وقت ولا زمن لتستطلع، فعِشْ حرمتك ولا تتجاوز الحدود، الزمن هو الله، وأنت مرهونٌ بالخطيئة!؟!

العدد 105/حزيران 2020