بريطانيا.. الجائحة والبريكست

ارتباك تاريخي في مواجهة كورونا وعلامات استفهام حول مغادرة أوروبا

محمد قواص (*)

تجربة قاسية تمر بها بريطانيا لم تكن تتوقعها الطبقة الحاكمة في لندن التي كانت تمني النفس بخروج كامل ونهائي من الاتحاد الأوروبي في نهاية هذا العام. ومات بات واضحا أن جائحة كورونا هزّت أركان القيادة البريطانية التي كشفت عن عجز خطير من قبل دولة كبرى كانت تتفاخر بقدرتها على الاستغناء عن  »النادي الأوروبي« والعودة بالبلاد إلى عظمتها حين كانت  »أمبراطورية لا تغيب عنها الشمس«. لكن المرض الذي انتشر وأصاب ولي العهد ورئيس الحكومة وعدد من وزرائه أزاح الشمس عن طموحات لندن.

البداية.. الاستفتاء

وجّه استفتاء عام 2016 في بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي صفعة ترفض شكل أوروبا السياسي، كما ترفض واقع العولمة التي رجحت مصالح المدن المزدهرة على حساب مصالح المجتمعات الريفية الفقيرة. واعتمد تيار واسع في العالم، تعزز بانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة في العام نفسه، على نجاح التجربة البريطانية في الدفع بالعالم أجمع نحو قطيعة مع العولمة التي رانت هذا العالم منذ عقود، كما دعّمت حججا الداعين إلى تفكيك التجمعات الدولية المعولمة والعودة إلى قواعد الدولة الوطنية والانكفاء وراء حدودها.

واستند التعويل على بريطانيا في هذا المسعى على كونها دولة نووية كبرى، وأن جنوحها، من خلال الاستفتاء الشعبي (الشرعي) نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يشكل تهديدا وجوديا للاتحاد نفسه، ويؤسس لسابقة لضرب

بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني

هاجمه المرض، لا سلطة نحمي، ولانفوذ يتصدى، ولكن النظام الصحي وكفاءته هو الذي يتكفل

فقه العولمة المتأسس على نظرية تقول بأنه من الصعب التوفيق بين الازدهار الاقتصادي والسيادة الديمقراطية.

غير أن السنوات التي تلت الاستفتاء البريطاني كشفت عن قدرة  »النادي الأوروبي«، رغم ضربة البريكسيت الموجعة، على الصمود ومواجهة السابقة البريطانية بحنكة، وسلطت الضوء على أسئلة داهمة داخل بريطانيا حول مستقبل ووحدة واستقرار وطبيعة الدولة التي تطمح بريطانيا أن تكونها. وقد جاء تحدي جائحة كورونا ليرفع التحدي إلى مستويات قاسية صدّعت سمعة بريطانيا من حيث ادعاءها القدرة على المقاومة وحدها ودون أوروبا لتحقيق طموحات كانت عضويتها في الاتحاد الأوروبي تمنعها عنها.

استندت العديد من الحجج بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى سوء فهم – ربما متعمد – للعولمة نفسها. قاد بوريس جونسون، منذ ما قبل تبوئه سدة رئاسة الحكومة في بلاده، توجها يبشّر بالقدرة على أن يكون مستقبل بريطانيا أكثر انفتاحا على العالم، لا سيما أن موقف الرئيس ترامب كان مغريا في التلويح بعلاقات اقتصادية أميركية بريطانية قد تساهم في التخفيف من وقع خسارة لندن للسوق الأوروبي في حال تعذر إبرام اتفاقها مع الاتحاد الأوروبي. بيد أن بريطانيا واجهت خلال السنوات الأخيرة واقعا معقدا وصعبا حوَّل  »حلم« البريكسيت إلى معضلة بنيوية لراهن ومستقبل المملكة المتحدة.

بريطانيا وأوروبا: انتهازية!

ولا ريب أن مقاربة بريطانيا للمشروع الأوروبي شابتها انتهازية لا لبس فيها. كانت البلاد تعاني من أزمة اقتصادية في ستينيات القرن الماضي مقارنة بجيرانها الأوروبيين، ورأت في الانضمام للمشروع الأوروبي الفتي ملاذا ينقذها من ضائقتها. وقف الرئيس الفرنسي شارل ديغول ندا ضد انضمام بريطانيا مشككا في أوروبيتها آخذا عليها ميولها الأطلسية صوب الولايات المتحدة. ولم تستطع بريطانيا أن تلتحق بالنادي الأوروبي (عام 1973) إلا بعد سنوات مغادرة ديغول الرئاسة والسياسة في بلاده.

انتقلت بريطانيا من واقع الضائقة إلى واقع البحبوحة الاقتصادية مستفيدة من عضويتها الأوروبية. بيد أن تيارا أيديولوجيا تضخم في بريطانيا وانتقل من هوامش الشعبوية إلى متن السياسة من خلال حزب عريق كحزب المحافظين. بدا أن بريطانيا التي أتخمتها العلاقة مع أوروبا باتت تمتلك ترف الاستغناء عن الاتحاد الأوروبي.

وقد عملت العلاقات الوثيقة مع أوروبا على تعزيز الاقتصاد البريطاني. ففي عام 1992 وقعت المملكة المتحدة معاهدة ماستريخت التي عجلت التكامل الاقتصادي الأوروبي من خلال تسليم المزيد من السلطات إلى بروكسل، بما في ذلك توسيع التعاون في مجال العدالة الجنائية والسياسة الخارجية، ووضع الأساس لإنشاء اليورو. في ذلك الوقت، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني ما يقرب من خمس نظيره في فرنسا. بعد خمسة وعشرين عاما، تقدمت بريطانيا قدما على نحو لافت.

ظاهرة جونسون

غير أن ما تحقق في بريطانيا على المستوى الكلي لم يجد له مرآة متكافئة داخل كافة نواحي البلد. ازدهرت لندن كما المدن الرئيسية الأخرى، لكن لم ينسحب ذلك على المناطق الصناعية والبلدات الساحلية المتعبة. بقيت مداخل الأسر البريطانية أقل بكثير عن مستواها قبل الأزمة المالية لعام 2008. واستفاد أصحاب المنازل في المناطق المرغوبة من ازدهار طويل الأمد على حساب تفاوت مع بقية المناطق. فخلال عام 2010، مثلا، ارتفعت أسعار المنازل في لندن مرتين عن مستوياتها في بقية أنحاء بريطانيا.

والمفارقة أن الداعين للخروج من الاتحاد الأوروبي نهلوا  »تسونامي« من الأصوات من مناطق التخلف التنموي، ما جعل مدنا ومقاطعات محسوبة على اليسار تسقط طوعا في أحضان اليمين، بحيث بات بوريس جونسون، زعيم حزب المحافظين، يرأس ائتلافا يجمع سكان المدن والضواحي المحافظة تقليديا، الأكبر سنا والأكثر ثراء، مع مناطق ومدن عمالية لطالما كانت من الإرث التقليدي لحزب العمال.

ويُعد الحفاظ على هذه الخلطة المرتجلة أحد التحديات السياسية الأصعب التي يواجهها جونسون، ناهيك عن أنه سيكون صعبا إيجاد أجوبة على الأسئلة التي طرحها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتي كشفت بسرعة اخفاق النموذج الاقتصادي البريطاني في إظهار مواجهة متميزة لوباء كورونا عن نموذج أوروبا التي اختارت بريطانيا مغادرتها.

الافتراء على العولمة

ومن المهم الإشارة إلى خطأ شائع يميل إلى تصوير العولمة على أنها عملية موحدة تخضع جميع الدول بموجبها إلى قواعد واحدة. بيد أنه في الحقيقة، فإن كل دولة تتعولم بطريقتها الخاصة، حيث تقوم الصناعات ذات المزايا التنافسية بالبروز على المسرح العالمي. وقد ساعدت هذه العملية بريطانيا على أن تصبح ثاني أكبر مصدر للخدمات في العالم خلف الولايات المتحدة. وبرز في هذا السياق مركز لندن كمركز مالي أوروبي وعالمي. كما ازدهرت أيضا الشركات البريطانية في مجال الخدمات التجارية، مثل الاستشارات الإعلانية والإدارية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والأعمال. وتذكر شركة الاستشارات الدولية  »ماكينزي«، أن صادرات الخدمات البريطانية باتت تساوي ضعف ما تضاهيه صادرات البلاد من السلع.

وساعدت العولمة بعض الشركات المصنعة البريطانية على التعافي من  »صدمات تاتشر«. ففيما انخفض نصيب التصنيع في المملكة المتحدة من حوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من عُشره حاليا، فإن الصناعات المتقدمة انتعشت خلال التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لا سيما في مجالات مثل صناعة السيارات، بحيث قامت شركات مثل هوندا ونيسان ببناء مصانع ضخمة لتصدير السيارات إلى أوروبا. وحققت قطع غيار الطائرات والمستحضرات الصيدلانية أداء جيدا أيضا، بحيث أصبحت بريطانيا قاعدة يمكن للمستثمرين الدوليين من خلالها الوصول إلى السوق الموحدة دون الاحتكاك بالاتحاد الأوروبي.

خيارات لندن

يدرك بوريس جونسون مقدار ما حملته العولمة الأوروبية من ثراء لبلاده. ولئن تأمن له خروج بلاده القانوني من الاتحاد الأوروبي، فقد بات يبحث عن صيغة تكون فيها بريطانيا  »متحررة« من قيود أوروبا ومحتفظة بمميزاتها. ويَعِد جونسون البريطانيين بأنه سيحافظ على المؤشرات الجيدة لاقتصاد بلادهم من خلال اتفاق جديد مع الاتحاد الأوروبي قد يكون شبيها بذلك المبرم بين أوروبا وكندا. ويعتبر جونسون أن اتفاقا كهذا سيؤكد اختلاف بلاده عن الاتحاد من حيث سيادة بريطانيا على قواعدها ومعاييرها في مجالات العمل والبيئة.

وفيما راج جدل بريطاني حول الاختيار بين العلاقة التجارية  »الناعمة« أو  »الصعبة« مع الاتحاد الأوروبي، فإن  »الخيار الكندي« يعد خيارا صعبا، ذلك أن الاتفاق مع كندا استغرق 7 أعوام، فيما ما زال جونسون وفريقه يبشرون بإمكانياته قبل نهاية العام. ولا يعتبر الاتفاق وفق النموذج مع كندا واعدا بالنسبة لبريطانيا، ذلك أن المعهد الوطني للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية ومقره لندن، يرى أن  »الخيار الكندي« سيجعل الاقتصاد البريطاني أصغر بنسبة 3. 5 في المائة خلال عقد من الزمن، وهو انخفاض يبلغ 90 مليار دولار، أو حوالي 1100 دولار للفرد سنويا إلى الأبد.

ويرى الباحث الاقتصادي مارتن ساندبو:  »إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (…) من شأنه أن يفاقم الخصائص الاستقطابية للنموذج الاقتصادي الحالي في المملكة المتحدة ويزيد من حدة التوترات الاجتماعية التي نشأت عنها«. وعلى سبيل المثال فإن الأمر سيسبب ضررا كبيرا لشركات مصنعة تعتمد على سلاسل التوريد الأوروبية، مثل نيسان أو جاكوار لاند روفر، والتي تعتمد على إرسال الأجزاء والأدوات المصغرة ذهابا وإيابا عبر حدود أوروبا. وبحسب ماكينزي، فإن السلع الوسيطة التي يتم تداولها مع أوروبا وحدها تشكل الآن ما يقرب من ربع واردات وصادرات بريطانيا.

وسيشكل الأمر كارثة للصناعات الثقيلة أساسا. فيمكن لشركة Apple شحن إلكترونيات خفيفة الوزن من المصانع في الصين، ولكن في الصناعات الثقيلة مثل السيارات والطيران، يميل الإنتاج إلى أن يكون إقليميا، على سبيل المثال في أمريكا الشمالية أو شرق آسيا، وليس عالميا. وعليه سيكون عسيرا أن تستبدل شركات التصنيع الصناعي البريطانية عقودها المفقودة مع فرنسا وألمانيا بأخرى مع تايلند وكوريا الشمالية مثلا.

وسيؤثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على التجارة في الخدمات أيضا، أو على الأقل تلك التي تنهل نجاعة وجودها من علاقاتها مع أوروبا. وعليه ستفقد مدينة لندن ما يسمى بحقوق  »جواز السفر« التي تسمح للبنوك ببيع الخدمات في السوق الموحدة دون الحاجة إلى المزيد التراخيص. فالمراكز المالية العالمية تنمو من خلال خدمة الأسواق الإقليمية أساسا، مثلما تفعل نيويورك بالنسبة للولايات المتحدة أو هونج كونغ للصين، لذلك ستعاني لندن لأنها

لم تملك بريطانيا إمكانات تجعلها أفضل من  أوروبا

تنأى بنفسها عن قاعدتها الأوروبية حيث تحول البنوك والسمسرة الأقسام إلى فرانكفورت أو دبلن.

ومع ذلك، من المرجح أن تكون الخدمات أكثر مرونة من التصنيع. فلا تزال التجارة في الخدمات تنمو بقوة حول العالم، على النقيض من تبادل السلع،. وإذا ما تمكنت بريطانيا من التوقيع على صفقات تجارية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي مع دول مثل الولايات المتحدة واليابان، فمن المرجح أن تبحث عن ظروف مواتية لصناعات الخدمات. كما أن تجارة الخدمات أقل عرضة لمشاكل المسافات، مما يعني أن البنوك أو المستشارين البريطانيين أقدر من الشركات المصنعة على استبدال العقود الأوروبية مع أخرى في مكان آخر من العالم، على سبيل المثال في آسيا.

المكابرة أيضا وأيضا

إن موقف بريطانيا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس بائسا. فلم تتحقق توقعات تحدثت عن أن المملكة المتحدة ستغرق في الركود (حتى لو تسبب الوباء في حدوث ذلك على أي حال). وحري التذكير أن معدل نمو بريطانيا كان أعلى بكثير من ألمانيا وفرنسا خلال السنوات الأخيرة، وعليه فمن المرجح أن تظل المملكة المتحدة واحدة من أكبر 10 اقتصادات في العالم وأكثرها تنافسية لعدة عقود.

والظاهر أن بريطانيا قد تستفيد من مأزق العولمة نفسها والذي كشف عن نفسه بمناسبة جائحة كورونا. يتحدث الاقتصادي في جامعة هارفارد داني رودريك عن  »المأزق السياسي« للعولمة، والذي لا يتماشى فيه التكامل العالمي العميق مع كل من السيادة الوطنية والمساءلة الديمقراطية. ويقترح أن تختار الأمم أمرين من هذه الأشياء الثلاثة. فقد قررت بريطانيا وضع قواعدها الخاصة وإدارة مؤسساتها الخاصة ولكن على حساب التخلي عن الفوائد الاقتصادية التي تجلبها العولمة المفرطة في كثير من الأحيان.

وفق ذاك يدور جدل أيديولوجي ما زال خجولا في بريطانيا يتلمس معالم مستقبل البلد ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، فيما العالم يجادل في استشراف عالم ما بعد جائحة كورونا. فما زال بوريس جونسون يرى أن بريطانيا يمكن أن تصبح أكثر انفتاحا اقتصاديا وأكثر سيطرة على مصيرها، فيما يرى أنصار خروج بريطانيا الأكثر حذرا أن مغادرة الاتحاد الأوروبي قد تخلق بريطانيا جديدة تنمو ببطء أكثر ولكنها أكثر ديمقراطية وأكثر مساواة.

ولا ريب أن تجربة التعامل مع فيروس كورونا أربكت أجندة المفاوضات البريطانية الأوروبية، وهي قد تمعن في رفع مستويات التوتر في علاقات الطرفين وسط ميل لندن والأوروبيين إلى التمسك بالثوابت في مبادئ العناويين الأساسية لهذه العلاقة.

وعلى المدى الطويل، فإن هناك العديد من الطرق التي يمكن أن يصبح بها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي صفقة جيدة. فقد يزدهر الاتحاد الأوروبي كمؤسسة خلال العقد القادم، لكن إن لم يحدث ذلك فإن قرار بريطانيا الخروج قد يصبح بالصدفة جيداً، ذلك أن بريطانيا تمتلك مساحة اقتصادية وسياسية تتيح لها القدرة على اكتشاف سبل جديدة للازدهار، على منوال ما حققته كوريا الجنوبية وسنغافورة. فالبلد يملك أن يصبح رائدا في أنواع الصناعات التي ستدعم النمو العالمي في المستقبل، من الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي إلى التعليم عبر الإنترنت.

ولا يجب التقليل من مخاطر الإدعاء بامتلاك ترياق ضد العولمة وفق طموحات لندن، ذلك أن تجربة العالم مع جائحة كورونا، وعلى الرغم من سياقاتها المربكة، أبرزت، وعلى عكس ما يبشر به الناعون للعولمة، حاجة العالم إلى التعدد والانفتاح والتعاون، بحيث بات يقينا أن العولمة العلمية، مثالا، هي السبيل الوحيد لمكافحة خطر يهدد البشرية جمعاء.

والخاصة أنه على الرغم من ارتباك الاتحاد الأوروبي في اجتراح طرق متقدمة للحفاظ على التعاون والتضامن بين

ميشال بارنيه الأوروبي المكلف بملف بريكسيت: لا اتفاق مع بريطانيا قبل نهاية العام

الدول الأعضاء، فإنه بقي قادرا على التعبير عن متانة في بنيانه وعن أنه المصدر الوحيد لتقديم العون البيني الداخلي وعلى إعادة التأكيد أن التضامن ليس فعلا خيريا بل يبقى يخضع لقواعد المصالح وعقلانيتها، فيما لم تظهر بريطانيا قدرة على التميز لوحدها سواء في مواجهة الجائحة أو كبح تداعياتها الاقتصادية.

كما أثبت تجربة جائحة كورونا أن العولمة ما زالت حاجة دولية على نحو جعل من الدعوات الانكفائية السابقة خجولة، بما في ذلك في الولايات المتحدة وإيطاليا، وأسكت الشوفينية البريطانية التي واكبت حملات البريكسيت، بعد أن أصيبت بريطانيا بنكسة كبرى جراء تفاقم إصابتها بفيروس كورونا الذي طال العائلة المالكة والحكومة (لاسيما رئيسها)، ما عطّل أي وجاهة تروج لنموذج بريطاني رائد ومتميز ما فوق أوروبي.

وعززت الأشهر الماضية حالة عدم اليقين في بريطانيا في مقاربتها المقبلة للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، خصوصا أن منطق الأشياء بات يملي استحالة إبرام اتفاق قبل نهاية العام وهراء ذهاب حكومة جونسون إلى خيار الخروج الخشن مهما كان الثمن آخر هذا العام. كما قللت الأشهر الماضية من قوة البدائل الدولية المتاحة فورا أمام بريطانيا للاستغناء عن شراكتها مع أوروبا.

وأثبتت تجربة الخروج المبدئي لبريطانيا من أوروبا أن بريطانيا تمتلك دينامية اقتصادية مكنتها من دحض التوقعات بانهيار اقتصادي داهم. غير أن تلك الدينامية ما زالت مستفيدة من واقع أن بريطانيا لم تخرج عمليا من الاتحاد الأوروبي وبالتالي فإن القطيعة الاقتصادية الحقيقية لم تحصل بعد حتى يمكن قياس نتائجها على أداء الاقتصاد وحيويته في البلاد.

وسيفتح استحقاق ما بعد الجائحة الجدل الحقيقي حول طبيعة الدور الذي ستلعبه بريطانيا خصوصا أن أداءها خلال أزمة كورونا كان متواضعا مربكا وربما وضيعا مقارنة بطموحاتها كدولة كبرى أرادت استعادت سيادتها وقرارها وطموحاتها من خلال البريكست.

وتلقي أحداث الأسابيع الأخيرة الضوء على طبيعة علاقات الولايات المتحدة مع بريطانيا لا سيما وان  »الأنانية« التي

بريطانيا الأولى أوروبيا في عدد الوفيات: كيف حصل الانهيار؟

ظهرت في الأداء الأميركي في بادئ الأمر لم يطمئن لندن إلى إمكانية الاستسهال في الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي بالاقتراب من الولايات المتحدة كحليف عضوي متين وأكيد.

كما تطرح تحولات المجتمع السياسي البريطاني تساؤلات حول مستقبل التباين بين اليمين واليسار بعد انتقال كتل ناخبة يسارية كثيفة للتصويت لصالح بوريس جونسون وحزب المحافظين، وبعد اتخاذ حكومة جونسون لمواجهة الجائحة قرارات وتدابير اعتبرت يسارية تكاد تلامس التأميم على نحو يبعدها عن النهج اليميني لحكومة المحافظين.

السنوات التي تلت الاستفتاء البريطاني كشفت عن قدرة  »النادي الأوروبي«، رغم ضربة البريكسيت الموجعة، على الصمود ومواجهة السابقة البريطانية بحنكة، وسلطت الضوء على أسئلة داهمة داخل بريطانيا حول مستقبل ووحدة واستقرار وطبيعة الدولة التي تطمح بريطانيا أن تكونها. وقد جاء تحدي جائحة كورونا ليرفع التحدي إلى مستويات

أميركا أظهرت أنانية تردع لندن عن التعويل الكلي على واشنطن

قاسية صدّعت سمعة بريطانيا من حيث ادعاءها القدرة على المقاومة وحدها ودون أوروبا لتحقيق طموحات كانت عضويتها في الاتحاد الأوروبي تمنعها عنها.

مقاربة بريطانيا للمشروع الأوروبي شابتها انتهازية لا لبس فيها. كانت البلاد تعاني من أزمة اقتصادية في ستينيات القرن الماضي مقارنة بجيرانها الأوروبيين، ورأت في الانضمام للمشروع الأوروبي الفتي ملاذا ينقذها من ضائقتها. وقف الرئيس الفرنسي شارل ديغول نداً ضد انضمام بريطانيا مشككا في أوروبيتها آخذا عليها ميولها الأطلسية صوب الولايات المتحدة. ولم تستطع بريطانيا أن تلتحق بالنادي الأوروبي (عام 1973) إلا بعد سنوات مغادرة ديغول الرئاسة والسياسة في بلاده.

المفارقة أن الداعين للخروج من الاتحاد الأوروبي نهلوا  »تسونامي« من الأصوات من مناطق التخلف التنموي، ما جعل مدنا ومقاطعات محسوبة على اليسار تسقط طوعا في أحضان اليمين، بحيث بات بوريس جونسون، زعيم حزب المحافظين، يرأس ائتلافا يجمع سكان المدن والضواحي المحافظة تقليديا، الأكبر سنا والأكثر ثراء، مع مناطق ومدن عمالية لطالما كانت من الإرث التقليدي لحزب العمال.

ساعدت العولمة بعض الشركات المصنعة البريطانية على التعافي من  »صدمات تاتشر«. ففيما انخفض نصيب التصنيع في المملكة المتحدة من حوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من عُشره حاليا، فإن الصناعات المتقدمة انتعشت خلال التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لا سيما في مجالات مثل صناعة السيارات، بحيث قامت شركات مثل هوندا ونيسان ببناء مصانع ضخمة لتصدير السيارات إلى أوروبا. وحققت قطع غيار الطائرات والمستحضرات الصيدلانية أداء جيدا أيضا، بحيث أصبحت بريطانيا قاعدة يمكن للمستثمرين الدوليين من خلالها الوصول إلى السوق الموحدة دون الاحتكاك بالاتحاد الأوروبي.

مناعة القطيع

المملكة المتحدة هي الدولة الأولى أوروبيا المتضررة من فيروس كورونا بعد ايطاليا والثانية في العالم الاكثر تضررا على صعيد الوفيات بعد الولايات المتحدة. انتقدت كثيرا لتأخرها في التصدي لازمة كوفيد 19، وقرار بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني انتهاج تفعيل المناعة الطبيعية لكل شخص بدل الحظر، ورفض قرار الحجر الصحي منع التجمعات كما فعل الجيران الاوروبيون لم يجلب له الا المتاعب ولو انه كان صائبا في الكثير من جوانبه، بوريس جونسون كان يتوقع ان يصل المرض الذروة مع بدايات الصيف، وهو الوقت الكافي بحسب رايه لتتجهز الحكومة والاطقم الطبية للطوارئ، وهو ما انتقدته منظمة الصحة العالمية انتقادا شديدا.

رئيس المجلس العلمي للحكومة البريطانية  »باتريك فالونس« وهو الرئيس السابق لقسم البحث والتطوير لدى عملاق المنتجات الصيدلانية  »غلاكسو سميث كلاين« كان قال أنذاك إنه من الصعب منع انتشار العدوى، ومن الصعب ايضا تحاشيها، لانه من الضروري ان نفعّل المناعة الطبيعية لكل واحد.

 الا ان مثل هذه الطريقة ممكن ان تحقق اهدافا اذا ما اصاب الفيروس ستين في المئة من الشعب البريطاني، ولما كان تعداد الشعب البريطاني 66 مليون مواطن، فان ذلك يعني اصابة 44 مليون منهم، ما يعني ايضا ان آلافا منهم سيصابون اصابات خطيرة، وعدد ا اخر مواز أو يتجاوزه يموتون، وهو نوع من التصفية الطبيعية التي بدات تنتهجها الدول الاوربية من خلال رفع الحظر التدريجي دون ان تعلن ذلك علنا.

منظمة الصحة العالمية انتقدت بشدة هذه النظرية وهذا التقييم البريطاني ما جعل رئيس الحكومة بوريس جونسون يغير من منهجه بعد أن اصيب هو نفسه بفيروس كورونا، بل ورزق بطفل خلال إقامته بالمستشفى، وهو ما رفع من شعبيته التي تهاوت لدى البريطانيين كثيرا.

 الحكومة البريطانية ارادت ان تتحدى نفسها، وقررت اجراء فحوصات على نطاق واسع حيث وضعت سقفا زمنيا وهو اجراء 100 الف فحص خلال شهر ابريل/نيسان وهو ما حصل فعلا، بل ان وزير الإسكان البريطاني  »روبرت جنريك« اعلن انه تم الحفاظ على هذه الوتيرة وقد اجري نحو 106 الاف فحص.

 لكن هذه النتائج التي اشادت بها الحكومة تعرضت لانتقادات في وسائل الاعلام بسبب ان آلافا من الفحوص التي تجري في المنازل لا تُعرف نتائجها بالضرورة، ففي البداية، اختارت الحكومة البريطانية الاقتصار على فحص الحالات الأكثر خطرا والأطقم الطبية العاملة في الخطّ الأول، رغم توصيات منظمة الصحة العالمية بتوسيع نطاق الفحوص، وهو ما حصل في مرحلة ثانية حيث تم توسيع الفحوصات لتشمل الموظفين الأكثر عرضة للإصابة، على غرار الشرطة ودور المسنين من العمال والمقيمين فيها.

رئيس الحكومة البريطاني بوريس جونسون الذي شفي من كوفيد-19، وارتفعت شعبيته بسبب ذلك قال إن المملكة المتحدة  »تجاوزت ذروة« الوباء الذي صار  »في منحى تنازليّ«، مع تراجع عدد المصابين في المستشفيات، الا ان الحكومة تحفظت على التخفيف من إجراءات العزل.

(*) كاتب سياسي لبناني

العدد 105/حزيران 2020