الكاظمي الخيط الواهن لإنقاذ العراق

د. ماجد السامرائي

لم تكن الشهور الخمسة التي أعقبت إجبار انتفاضة الشباب رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة شبيهة بما سبقها من تقاليد الصفقات الداخلية وتعقيدات التوافقات الإيرانية الاميركية بعد انتخابات لم تصل نسبة المشاركة الشعبية فيها 20. فما حصل خلال عام 2019 ومطلع 2020 فيه الكثير مما يقال ويحلل في ملف العراق الشائك منذ احتلاله على يد الأمريكان عام 2003. الحدث الأبرز كان انتفاضة شباب العراق في أكتوبر عام 2019 ضد سياسات النظام القائم حيث غيّرت هذه الانتفاضة السلمية المعادلات وفرضت معادلة القوة الجماهيرية، مما وضع الأحزاب الحاكمة التي أغرقت البلاد بالفوضى والفساد أمام مأزق استمرارها بذات السياسات. ولهذا كشفت الشهور الخمسة قبل الموافقة على مصطفى الكاظمي كرئيس للوزراء بتاريخ السابع من مايو عن تراجع في حمى الصراع على مكاسب الوزارات التي تحولت إستثناء في العراق الى خزائن مفتوحة للنهب وسرقة المال العام وليست مؤسسلات خدمة عامة للمواطنين كما هو جار في العالم.

أزمات مركبة وضاغطة أبرزها تدهور الاقتصاد

وصول الكاظمي لرئاسة الوزارة العراقية جرى حوله حديث مبكر مرتبط بالفوارق الهائلة ما بين الشعارات والوعود والتطبيق الفعلي، ذلك يحصل في ظل ظروف مستجدة ذات مخاطر كبيرة على الكيان العراقي بسبب ما كشفه وباء كورونا من ترهل وانحلال في هياكل النظم الحكومية وعجز مخيف في الاقتصاد العراقي بعد الهبوط الكبير في أسعار النفط العالمية، حيث سجلت واردات العراق من النفط لشهر أبريل (1. 4) مليار دولار أي أقل من ثلث مبلغ الأربعة مليارات ونصف التي تحتاجها الحكومة شهرياً لدفع رواتب الموظفين في القطاع العام، والأسوأ هو قيام رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي بتعيين نصف مليون شخص من أجل ترضيات سياسية. حيث يتوقع إنخفاظ الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9. 7  حيث تتضاعف معدلات الفقر حسب توقعات البنك الدولي بما يجعله أسوأ السنوات منذ عام 2003. وقد تقوم السلطات بطباعة العملة لدفع الرواتب، الأمر الذي سيجبر المصرف المركزي على استخدام احتياطاته الأجنبية البالغة 60 مليار دولار لدعم سعر صرف الدينار في مقابل الدولار. مما يضع على رئيس الوزراء الجديد مسؤولية المباشرة بفرض سياسة تقشفية باقتطاع المخصصات الكبيرة التي شكلت ثلثي ميزانية أل 36 مليار للرواتب في عام 2019 وهي مخصصات كمالية كمكافأت وامتيازات كالسيارات والمنازل والحمايات الأسطورية للمسؤولين في الأحزاب والحكومة.

مهمة حلول الوضع الداخلي شاقة

لم يأت الكاظمي على رأس إنقلاب عسكري أو سياسي حتى يمكن توقع إجراءات ثورية من قبله لتغيير بنية النظام السياسي القائم والذي أنتج كل هذه الكوارث التي شهدها العراق، فهو إبن المؤسسة السياسية القائمة، لكنه قد يتمكن إذا ما امتلك الإرادة والشجاعة على إحداث تغيير تدريجي وفق برنامج واثق ومدعوم من جماهير الانتفاضة التي أطلقت في اليوم الأول لتعيينه بيانات سلبية ضده وضد النظام القائم وهذا ما سيعقد الحالة، وقد يدفعه الى إتخاذ تدابير تدفعه إليها القوى المعادية للعراقيين من وكلاء إيران لن تكون بصالحه. مع ذلك فهو أمام إلتزام وطني فرضه على نفسه بإجراء حساب ومحاكمات جدّية ضد قتلة العراقيين في الحراك الشعبي منذ شهر أكتوبر العام الماضي وسط دعوات شعبية بضرورة محاكمة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي المسؤول الأول عن حماية المواطنين، ووجود الكثير من الوثائق والبيانات التي أكدت صدور أوامر القتل من مكتبه.

هناك ملفان داخليان يصعب على رئيس الوزراء عدم التعامل معهما بشكل سريع هما (الانتخابات المبكرة وحصر السلاح بيد الدولة)

الانتخابات المبكرة

من بين الشعارات والمطالب الشعبية إجراء انتخابات مبكرة في العراق تقود الى تغيير جذري في بنية الأحزاب الحاكمة، وكانت المطالبات تتضمن تغيير قانون الانتخابات ومفوضيتها، وفق برنامج متواصل يقود الى حل البرلمان الحالي. لكن القوى السياسية الحالية التفت على مشروع قانون الانتخابات وأعدت صيغة مشوّهة تبيح إجراء انتخابات مبكرة للأحزاب الحالية امكانية العودة مجدداً الى مسرح السلطة.

رغم ذلك فما زالت وثيقة مشروع القانون داخل أدراج البرلمان. ولكي لا يكون وعد الكاظمي بإجراء انتخابات مبكرة خلال مدة عام مجرد وعد نظري هناك إجراءات عملية تتعلق بالاستعدادات التاكنيكية لا بد من البدء بها، وإلا سيمر العام من دون تنفيذ هذا الإجراء المهم وتتحول حكومة الكاظمي الى حكومة تكملة مدتها الطبيعية لانتخابات عام 2022. ومن يقرأ المنهاج الوزاري للكاظمي رغم عمومياته يلاحظ فيه الاستجابة للزمنين الانتخابيين المبكر والعادي. وهذا الملف هو واحد من المفاتيح الرئيسية التي ستكشف استجابة الكاظمي لنداءات الانتفاضة الشعبية.

حصر السلاح بيد الدولة

قصة حصر السلاح بيد الدولة تكمن أهميتها بعد أن تحولت المليشيات المرتبطة بإيران الى قوى مرعبة لأمن المواطنين العراقيين، والى أجهزة ضغط على السياسيين في السلطة، خطورة تلك المليشيات تأتي من ارتباطات ولاءاتها الخارجية بإيران. ولم يعد المواطن العراقي صاغياً الى شعارات رؤساء الحكومات السابقين بينهم حيدر العبادي وعادل عبد المهدي الداعية الى حصر السلاح بيد الدولة، بل وصل الحال بتلك المليشيات ومثالها كتائب حزب الله العراقي الى تهديد رئيس الجمهورية برهم صالح بمصير خطر إن ذهب والتقى بالرئيس الأمريكي ترامب خلال اجتماعات منتدى دافس أواخر العام الماضي، كما أطلقت تلك الكتائب تهديدات مشابهة لرئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي باتهامه التورط في مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد في الثالث من يناير الماضي. لكن القوى الشيعية الممثلة لتلك المليشيات (كتلة هادي العامري) تراجعت وبررت تلك التهديدات بخلافات عابرة بعد موافقتها على تكليف الكاظمي في واحدة من أبشع المهازل السياسية التي تجري في العراق.

الكاظمي يبدو جاداً في مشروع حصر السلاح بيد الدولة من خلال تأكيداته الاعلامية بعد التكليف، لكن هذا الملف لا يحتاج الى دعاية بقدر احتياجه الى إجراءات سريعة لإنقاذ أمن المواطنين العراقيين مما هم فيه من مخاطر.

النفوذ الخارجي وسيادة العراق

 احتلالان شرسان تعرض لهما العراق، الأمريكي الذي خرج رسمياً عام 2011 والإيراني الذي ما زال جاثماً مستبيحاً العراق ليس على الطريقة التقليدية في احتلال الجيوش التي تنتهي بخروجها وإنما عبر عشرات المليشيات المسلحة التي أصبحت لأغلبها الحصانات الرسمية وبعضها الأكثر تطرفاً يتبجح بعدم خضوعهم لمرجعيات الحكومة التي تمدهم بالرواتب والسلاح وهم يعتزون ويؤكدون انتماءهم لوليهم في طهران. وهذه هي المشكلة العميقة التي تواجه شعب العراق وكذلك أي رئيس وزراء يعتقد إنه قادر على ترجمة شعار سيادة العراق.

المشكلة والعقدة الرئيسية في سلطة الحكم في العراق هي ولاء أحزابها الشيعية المذهبي لطهران المحكومة بعقيدة وثورة ولي الفقيه وزعيم جمهورية العنف والتوسع والفوضى في العراق والمنطقة والتي لا تؤمن بالحدود بين الدول، فدستور دولة إيران يرى ضرورة دعم  »المستضعفين« في العالم، ولا بد للدولة الأم في طهران أن توفر جميع مستلزمات وعناصر القوة والسلاح لبناء مرتكزات الإمبراطورية الإيرانية الجديدة في المنطقة والعالم الإسلامي.

لتنفيذ هذه الأهداف لوجستياً أسس الحرس الثوري منذ السنوات الأولى للثورة كأداة للتوسع وإشاعة الفوضى وبناء مرتكزات وكلائه في لبنان وسوريا والعراق خاصة تمهيداً لقيام مثل هذا النموذج في هذه البلدان وبواجهات حزبية محلية وإعطاء النظام الإيراني وصفة المرجع الأعلى للمقاومة الإسلامية، وكان  »داعش« اللعبة القذرة التي قدمتها بعض الأوساط الاستخبارية الأمريكية في كل من سوريا والعراق لتبييض صفحة النظام الإيراني بأنه يحارب الإرهاب.

كان التحدّي الأخطر الذي واجهه نفوذ إيران للعراق هو ثورة أكتوبر 2019 التي لم تتوقف عند حدود فضح الترابط والتحالف الخفي بين قوى التطرف الديني والمذهبي على الضفتين السنية  »داعش« والشيعية  »المليشيات الموالية لطهران« فكلاهما استهدف وحدة العراقيين وهويتهم الاجتماعية والثقافية. وإن إسقاط منظومة حكم الأحزاب الفاسدة والموالية لطهران هو البداية الحقيقية لاستعادة سيادة العراق وقيام نظام سياسي مدني مستقل.

الكاظمي بدا مدركاً ما عليه فعله  »سيادة العراق خط أحمر، السلاح كل السلاح من اختصاص الدولة، العراق لن يكون ساحة لتصفية الحسابات، الانفتاح الجاد على المحيطين العربي والإسلامي ضمن المصالح المشتركة، والجدية في إنهاء مظاهر الوجود الأجنبي غير المبرر« هذه عباراته قبل تسنمه السلطة«.

مخاطرالنفوذ الإيراني

ملف النفوذ الإيراني في العراق رغم آثاره الاقتصادية والاجتماعية على العراقيين لكن له علاقة بالمشاكل القائمة ما بين واشنطن وطهران والتي أصبح العراق ساحتها بسبب عدم وجود حكومة عراقية تتمتع بقرار سيادي واضح. العراق في وضع حرج ويحتاج الى رئيس وزراء غير تابع لأجندات خارجية ليتمكن من الموازنة بين الطرفين الإيراني والأمريكي. العراق بحاجة الى واشنطن في مجالات عدة إقتصادية وأمنية، والبلد وصل الى مراحل متقدمة في تبعيته لطهران التي ما زالت تعتبره حديقتها الخلفية. وقصة التداخل الأمريكي الإيراني في سياسات دول عديدة في المنطقة كسوريا ولبنان واليمن يضع ملف الاستقلالية أمام امتحان كبير، لا يتوقع لمصطفى الكاظمي أن يديره بالسرعة المطلوبة. المشكلة إن طهران تعتقد إن مشروعها التوسعي يعتمد على بقائها في العراق وتحقيق المردودات الأمنية والاقتصادية والسياسية عالية المستوى التي تحققت خلال سبعة عشر عاماً، أمام سياسة الرئيس الأمريكي ترامب الذي جعل من عقوباته الاقتصادية على طهران وما تبعها من مطاردات لزعامات ميليشياوية سياسة داخل العراق لا يبدو إنه سيتراجع عنها خصوصاً بعد هجمات المليشيات على المراكز العسكرية والديبلوماسية الأمريكية في هذا البلد. ويبدو إن شهر يونيو المقبل سيشهد مفاوضات بين واشنطن وبغداد حول مستقبل التواجد الأمريكي الشامل في العراق والاتفاقيات التي أبرمت بين البلدين في السنوات السابقة. وقبل تسنمه المنصب قال الكاظمي حول العلاقة مع واشنطن  »سيكون لدينا حوار جادّ مع الولايات المتحدة بشأن تنظيم وجودها في العراق، والأهم ما يجب أن أتعامل معه بحزم هو أن لا يكون العراق ساحة لتصفية الحسابات«، وسط تحليلات لمراقبين يجدون إن مرحلة من المهادنة والتعايش الأمريكي الإيراني يمكن أن تحصل في الأيام المقبلة في العراق في ضوء مجيئ مصطفى الكاظمي لرئاسة حكومة العراق.

صدقية شعارات وتعهدات الكاظمي ستتوضح في الأسابيع الأولى من عهده الذي تتقاذفه الأمواج والأزمات المستجدة خاصة بعد وباء كورونا وظروفه القاسية وتداعياته على الوضع الاقتصادي المتدهور، لكن السياسات ستكون مكشوفة حين ترتبط بالواقع، ومن بينها مدى قدرته على استعادة سيادة العراق التي يجمع عليها كل العراقيين، ودخوله في برنامج المرحلة الانتقالية وفي مقدمتها وضع المسؤولين عن قتل وجرح أكثر من 23 الف شاب تحت حكم القضاء العادل والشروع بإجراءات الانتخابات المبكرة.

العدد 105/حزيران 2020