الهرمية الدولية في عالم يتحول ويتغيير

ا.د. مازن الرمضاني*

منذ انتشار جائحة كورونا والآراء التي تناولت مستقبلات الهرمية الدولية الراهنة متعددة ومتباينة. ويمكن تشخيص اتجاهين متناقضين ينطلق كل منهما من افتراض محدد: الأول يقول بالتغيير الجذري لهذه الهرمية. أما الثاني فيذهب إلى العكس مؤكدا استمراريتها.

ونرى أن كلا الإتجاهين كان مستعجلا. فمضامينهما تستوي وتلك الآراء التي اعتادت بعد كل حدت هزالعالم، كالحروب العالمية و/أو التحولات الدولية الكبرى و/أو افول دور دولة عظمى أو كبرى و/أو أزمة اقتصادية عالمية… الخ، اعتادت على القول وبما يفيد أن الواقع الدولي سيتغير جراء مخرجات هذا الحدث. ولنتذكر مثلا قول رئيس الإدارة الأمريكية السابق جورج بوش الاب بعد انتهاء الحرب الباردة والذي أفاد أن عالم ما بعد هذه الحرب سيكون مختلفا جذريا عن الذي كان قبله وإنه سيكون أمريكيا. والمرء يتساءل: هل العالم أضحى حقا أمريكيا؟

ولا جدال في أن كل تغييرمهم يفضي إلى مخرجات تؤدي إلى إحلال واقع جديد. بيد أن هذا الجديد لا يستطيع إلغاء كافة خصائص الواقع السابق عليه. فإضافة إلى أن التغيير يحتاج إلى زمان قد يكون طويلا حتى تتباور مخرجاته يفضي قانون الأستمرارية كأحد قوانين الحياة الممتدة عبر الزمان إلى الحد من التغيير الشامل. فالتغيير الذي نجم عن الأحداث الكبرى عبر الزمان لم يحل مثلا دون تكرار الصراعات والحروب التي شهدتها المرحلة السابقة على التغيير. والشىء ذاته ينسحب على مخرجات جائحة كورونا. إن هذه الجائحة ستؤدي إلى احداث تغيير على صعٌد عدة ولا شك في ذلك. ومع ذلك علينا أن لا نتوقع إنها ستؤدي إلى تغيير العالم جذريا وبضمنه تغيير الهرمية الدولية. فماذا يُقصد بها، وكيف يحتمل أن تكون؟

ابتداءٌ تجدر الإشارة إلى أن السياسات الخارجية للدول وبكافة مستوياتها تتأثر بمجموعتين متفاعلتين من المتغيرات: داخلية وخارجية. وبالقدر الذي يتعلق بالمتغيرات الخارجية. فهذه وعلى الرغم من تعدد وتنوع الاجتهادات العلمية ذات العلاقة بمضامينها إلا إنها مع ذلك تنبع من واقع إطار شامل يتجسد في ما جرت العادة على تسميته بالنظام الدولي.

ويعبر النظام الدولي عن فكرة التفاعل السلوكي بين مجموعة اللاعبين الدوليين أي الدول القومية وسواها. وبدورها تقوم هذه الفكرة على ركيزتين متفاعلتين: الأولى وتفيد بإرتباط هولاء اللاعبين مع بعض بمجموعة انماط سلوكية شبه متكررة. اما الثانية فهي أن حصيلة هذه الانماط السلوكية هي التي تجعل النظام الدولي يتميز عن اللاعبيين الدوليين (بمعنى نظمه الفرعية) بسمات خاصة بههي: ديناميته وخصوصية هياكله ونوعية عملياته السياسية ناهيك عن طبيعة تأثيره.

وانطلاقا من أن كل دولة تُعد جزءٌ من نظام دولي أشمل تنطوي الهرمية الدولية السائدة في زمان محدد على تأثير يكاد يكون حاسما في نوعية التفاعلات الدولية ومخرجاتها. وغني عن القول أن الدول تتفاعل مع بعضها البعض وهي متأثرة بكمية قدراتها الموضوعية والذاتية ونوعية توظيفها لها وبالإتجاه الذي يجعل من تأثيرها السياسي بمثابة الإنعكاس لهما. ولان الدول تتباين موضوعيا في قدراتها فإنها تتوزع بالتالي على مستويات متعددة ومختلفة. وكما هو الحال مع جل المجتمعات الداخلية يتسم النظام الدولي هو الآخر بالهرمية الدولية. وبها نقصد التوزيع العمودي للقدرة والنفوذ بين الدول الأكثر تأثيرا في زمان محدد. وعلى وفق رأي سائد تقترن الهرمية الدولية بثلاثة مستويات أساسية:

الأول ويتسم بالتوزيع المتفاوت وشبه المطلق بين الدول في تأثيرها ونفوذها. وبموجبه تستحوذ أقلية من الدول على نحوٍ يساوي 75 من مصادر التأثير الدولي. أما بقية هذه المصادر أي 25 فهي من نصيب كافة الدول الأخرى.

إما المستوى الثاني فهو يقترن بالتوزيع المتوازن للموارد والتأثير. وتبعا له تتوزع مصادر التأثير مناصفة وبما يساوي 50 لكل من أقلية تلك الدول المؤثرة وبقية الدول الأخرى مجتمعة.

ويتجسد المستوى الثالث في التوزيع المتساوي في التأثير ولكن غير المتكافئ في الموارد. وبموجبه تأخذ هرمية التأثير في النظام الدولي شكل شبه منحرف. فعلى الرغم من تزايد اعداد الدول المتوسطة والصغيرة والصغرى إلا أن اقلية من الدول العظمى والكبرى القديمة والجديدة تبقى مسيطرة على نحو 75 من مصادر التأثير الدولي.

وفي ضوء هذا التوزيع نتساءل: أي من هذه المستويات يقترن به الواقع السياسي الدولي الراهن؟ تؤكد آراء عدة أن التوزيع المتفاوت وشبة المطلق في الموارد والتأثير بين الدول المعاصرة هو الغالب. بل أن عالم الاجتماع والرياضيات ومؤسس دراسات السلام والصراع النرويجي، يوهان فنست غالتونك ذهب قائلا:  »إن السياسة الدولية استمرت تتسم بطبيعتها الإقطاعية«. ونحن نميل علميا إلى مضامين مثل هذه الآراء. فاتساقا مع تجزئة العالم موضوعيا إلى دول مؤثرة سياسيا وأخرى قليلة أو عديمة التأثيرالسياسي تتمتع الدول الأساسية: العظمى والكبرى والسائرة في طريق النمو بتأثير سياسي دولي فاعل إضافة إلى احتكارها لنسبة عالية من التفاعلات الدولية فيما بينها ومرد هذا التأثير قدراتها النوعية على الفعل الدولي الهادف والمؤثر.

وعلى الرغم من هذا الواقع يشهد العالم ومنذ زمان، تحولا تدريجيا ولكن ملموسا في مفهوم الدولة المؤثرة. فمع أن هذه الدولة كانت هي تلك التي جمعت، أو اضحت تجمع بين القوة الاقتصادية والعسكرية في أن واحد كعناصر أساسية لتأثيرها إلا أن هذا المفهوم لم يعد يقتصر على مثل الدولة وإنما أمتد ليشمل أيضا تلك الدول التي صارت تتمتع بقدرات اقتصادية و/أو معرفية و/أو مالية مهمة وهي القدرات التي جعلتها تتمتع بتأثير دولي لا يمكن نكرانه. وهذا التأثير ينسحب على تلك الدول المتعارف على تسميتها بالدول السائرة في طريق النمو كالصين والهند واليابان والمانيا والبرازيل وافريقيا الجنوبية مثلا. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدول هي أيضا تلك التي تحرص على تنمية قدراتها العسكرية وفاعليتها إدراكا منها لأهمية دور هذه القدرات في ضمان أمنها القومي. ولنتذكر مثلا أن الصين بعد أن كانت ذات قوة عسكرية محدودة التأثير أضحت اليوم ثالث قوة عسكرية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الروسي.

وللتأثير الذي تتمتع به قلة من الدول في السياسة الدولية نتساءل أيضا ما هو نوعية هذا التأثير؟ تفيد ظاهرة التمايز الهرمي بين الدول بحالة مركبة. فبينما تحرص تلك الدول المؤثرة على ديمومة امتيازاتها ومثال ذلك تكرار الرفض لتوسيع دائرة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ليشمل ثمة دول سائرة في طريق النمو كالمانيا واليابان والهند تسعى الدول الأخرى السائرة في طريق النمو وسواها إلى تغيير هذا الواقع لصالحها. ولهذا يعبرالتقاطع بين السياسات الخارجية للدول الساعية للتغيير وتلك الساعية دون حلوله عن نتيجته المنطقية أي الصراع.

وينطوي الواقع الاقتصادي والسياسي للنظام الدولي المعاصر على متغيرات أساسية تدفع إلى ديمومة الصراع الدولي ضمنا أو صراحة. ويكفي أن نتذكر حالة العلاقة الأمريكية- الصينية التي تعبر حاليا عن صراع كامن قد يتحول إلى صراع علني عندما يشتد تناقض المصالح بين الدولتين. ومع أن الإتجاه نحو ديمومة التعاون الدولي قد يفضي إلى الحد من تصاعد الصراعات إلى مرحلة المواجهة المباشرة بيد أنه لا يلغي الصراع. فالصراع على المصالح خاصية أساسية من خصائص السياسة بين الدول وهو الذي يحول دون أن يكون العالم خاليا من القلق الأمني ومن ثم عدم الثقة الناجمة عنه وهو الأمر الذي يجعله أحد السمات الجوهرية للنظام الدولي. فالصراع الدولي سيبقى ظاهرة ممتدة في الزمان والمكان وبالمخرجات الناجمة عنه على الاستقرار والأمن الدوليين.

وتأخذ الهرمية اشكالا متعددة جرت العادة على تسميته كل منها بالقطبية. وبالقطبية يُقصد التقسيم العمودي للقوة والتأثير بين القوى الأساسية داخل النظام الدولي. وفي ضوء التجربة التاريخية لهذا النظام تكون القطبية أما أحادية أو ثنائية، أو متعددة.

يُقصد بالقطبية الأحادية سيطرة قوة رئيسية واحدة على جانب مهم من التفاعلات الدولية. وعلى خلاف ما كان عليه الحال بعد عام 1648وهو تاريخ تشكيل النظام الدولي لم يشهد هذا النظام حتى انهيار الاتحاد السوفيتي في 26 كانون الأول/ديسمبر1991 قطبية أحادية. وعلى العكس عاش التاريخ الدولي حالة القطبية الثنائية، وذلك منذ دول المدن اليونانية (اثينا مقابل اسبارطة) في قديم الزمان مرورا بفترة ما قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بقليل (دول المحور مقابل دول الحلفاء) وصولا إلى مرحلة الحرب الباردة (المعسكر الغربي مقابل المعسكر الشرقي).

 وبالقطبية الثنائية يُقصد ذلك النظام الدولي الذي يتسم بتقاسم النفوذ والتأثير العالمي بين قوتين مختلفتين فكريا واستراتيجيا. وتشير التجربة التاريخية أن هذا التقسيم للنفوذ يتخذ في العموم إطارا بنيويا يتجسد في قيادة أحدى هاتين القوتين لمعسكر دولي مناهض للآخر كما هو الحال مثلا مع واقع الحرب الباردة. وتجدر الإشارة إلى أن القطبية الثنائية تكون من نوعين: صارمة أو مفككة. وكلاهما يختلف عن الآخر في ثمة سمات.

 ففي حالة القطبية الثنائية الصارمة تتحكم قواعد اللعبة الصفرية (بمعنى الربح الذي تحققه ثمة قوة لذاتها يعني خسارة مطلقة بالنسبة للقوة الأخرى) في علاقتهما المتبادلة وكذلك مع الدول الأخرى. وكمثال تعبر مرحلة اشتداد حدة الحرب الباردة خلال أعوام 1947- 1962عن خصائص هذا النوع من القطبية الثنائية. إما في حالة القطبية الثنائية المفككة فالعلاقة بين اطرافها تستوي ومضمون اللعبة غير الصفرية (بمعنى أن الربح الذي تحققه ثمة قوة لا يعني خسارة مطلقة بالنسبة للقوةالأخرى). وتقدم العلاقة الأمريكية- السوفيتية بعد أزمة كوبا عام 1962 مثال على هذا النوع الآخر من القطبية الثنائية.

والقطبية قد تكون كذلك متعددة القوى. فهي قد تكون محددة بخمسة قوى أو قد تتسع لتشمل اعدادا أكثر. وفي كلتا هاتين الحالتين تشترك هذه القوى في خاصية أساسية قوامها تمتعها بقدرات تأثير متماثلة نسبيا. وقد عرف النظام الدولي التقليدي هذا النمط من القطبية مرارا. ومثالها المرحلة الدولية الممتدة حتى ما قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بقليل.

وفي ضوء اشكال القطبية الدولية اعلاه نتساءل: ما تأثيرها في السياسات الخارجية للدول؟

وبغض النظر عن القطبية الأحادية التي تتسم بالخضوع المطلق للقوة المهيمنة من قبل الدول الأخرى وانسياق المنظمة الدولية وراء سياسات هذه القوة تنطوي القطبية الثنائية ولا سيما الصارمة على تأثير حاسم في حركة الدول المنتمية للمعسكر الذي تقوده هذه القوة أو تلك. كما أن الحركة المستقلة بالنسبة الدول الأخرى تتميز بصعوبتها النسبية. وتفيد التجربة التاريخية أن القوى المهيمنة تعاملت مع سواها انطلاقا من سياسة: من ليس معي فهو ضدي. وتنطوي هذه السياسة على التهديد بايقاع العقاب على الدولة التي تذهب إلى دعم القوة المناهظة أو تبنى سياسة خارجية مستقلة. ولنتذكر كيفية تعاملت الدولتان العظمييان انذاك مع دول حركة عدم الانحياز.

وعلى العكس تمتعت الدول المنتمية وغير المنحازة في ظل القطبية الثنائية المرنة بحرية أوسع على صعيد السياسة الخارجية. ومما ساعد على ذلك أن خصائص هذا النمط من القطبية تتيح للدول المنتمية أن تتبادل العلاقة مع القوة الأخرى المضادة وكذلك للدول غير المنحازة الارتباط بعلاقات وثيقة مع أحد القوتين أو معهما في الوقت ذاته ومن دون أن يؤدي ذلك إلى إثارة حساسية أحدهما.

وتتماهى القطبية متعددة القوى الدولية مع خصائص القطبية الثنائية في صيغتها المرنة. فتعدد هذه القوى تتيح للدول الأخرى الانتقال فيما بينها تبعا لحركة مصالحها إقترابا من تلك القوى أو ابتعادا عنها دون أن تخشى العقاب الثقيل. كما أن حالة السلام في العموم هي التي تسود بين القوى التي تشكل هذه القطبية المتعددة. ولا تلغي هذه الحالة امكانية إندلاع الصراع فيما بين بعضها إلا أن إحتمالية تصاعده إلى حروب غير محتملة. فإضافة إلى تأثيرالردع المتبادل،تحول الإعتمادية العميقة والمتبادلة دون ذلك.

وفي ضوء ما تقدم نرى أن القطبية الثنائية في صيغتها المرنة عموما أو القطبية متعددة خصوصا هي أهون الشرين بالنسبة لدول عالم الجنوب، وكذلك للامن والاستقرار الدوليين.

وفي ضوء خصائص الاشكال المختلفة للقطبية الدولية وأثارها نتساءل أي من هذه الاشكال قد يتميز بها النظام الدولي في مرحلتة الانتقالية الراهنة؟

باختصار نقول أن هذه المرحلة الانتقالية لا تتميز بأي من هذه الاشكال، بل أن بعض الآراء قالت إن العالم يعيش حالة اللاقطبية. ومع أن هذا القول ينطوي على قدر من الصحة إلا أنه لا يلغي أن الواقع الدولي الراهن يشير إلى حالة من القطبية غير معروفة على مر التاريخ الدولي: قطبية مزدوجة تجمع بين الاحادية العسكرية والتعددية الاقتصادية وسواها، ونرى أن هذه القطبية تمثل بداية التحول مستقبلا إلى نظام دولي متعدد الاقطاب وتمهد له.

 صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمد جاهدة للحيلولة دون بروز هذا النظام، لأنه سيفقدها دورها الدولي المؤثر ولكنها على الأرجح لن تنجح على المدى البعيد في أحسن الأحوال. هذا لانها لا تستطيع تجنب تبعات تأثير قانون خضعت إليه سابقا كافة القوى أو الامبراطوريات عبر الزمان هو قانون صعود وهبوط القوى العظمى. فإضافة إلى أن جسدها القومي دخل طور التآكل وهو الأمر الذي تناوله بإسهاب استاذ التاريخ البريطاني الأصل والأمريكي الجنسية بول كنيدي في كتابيه: صعود وهبوط القوى العظمى والإستعداد للقرن الحادي والعشرين تواصل أيضا القوى الدولية البازغة صعودها الحثيث نحو قمة الهرم الدولي ولعل ابرزها هي الصين. فهذه الدولة الأسيوية تخطط إلى ان تكون في عام 2030 بمثابة القوة الاقتصادية العظمى، وفي عام 2050 إلى أن تكون هي القوة العظمى في العالم. إن النموالمتسارع لقدراتها يشير إنها سائرة نحو ما تصبو اليه.

إن جائحة كورونا قد ترفد التراجع الدولي للولايات المتحدة الأمريكية، وتؤخر الصعود الدولي للصين بعنصر مضاف إلا إنها لن تفضي بهما، وسواهما إلى قاعدة الهرم الدولي. وبالمقابل لن تؤدي هذه الجائحة إلى الارتقاء بثمة دول اخرى متوسطة أو ضئيلة التأثير إلى قمة الهرم السياسي الدولي لانها استطاعت الحد أو احتواء فيروس كورونا لهذا السبب أو ذاك. فنوعية قدرة هذه الدولة أو تلك على الفعل الهادف والمؤثر وكفاءة توظيفها هي التي تحدد مكانتها وتأثيرها في النظام الدولي.

*إستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات

العدد 105/حزيران 2020