مئة عام من العزلة بين الأمس واليوم

بيروت من ليندا نصار

يمثّل الأديب والروائي غابرييل غارسيا ماركيز الملقّب بـ  »غابو » رمزًا من رموز الأدب الحديث العالميّ وعلمًا من أعلامه وهو من الذين طبعوا زمانهم بحروف لا تمّحى، واستمرّت حكاياته حتى يومنا هذا وهي تتناسق وتتماشى مع كلّ زمان ومكان لأنّها تصوّر الواقع الاجتماعيّ والتّاريخ السياسيّ بأسلوب يتأرجح بين الواقع والخيال. وقد شكّل المكان المتخيّل في الرواية، أي القرية النائية التي اختارها الكاتب، مسرحًا تمتثل فيه الشخصيات لإرادة تتحكّم فيها وتسير بحسب ما تقتضيه مجريات الأحداث.

لا يختلف ماركيز عن الشّعراء والكتّاب بوصفهم خلّاقين مبتكرين يتحكّم بهم مزاج إبداعيّ، فيجدون أنفسهم في ميل إلى الإقامة في المسافة الفاصلة بين العزلة والمجتمع، وقد أثّرت الطّفولة التي عاشها كاتبنا في كولومبيا بمزاجه

صورة ماركيز

الكتابيّ، كما يقول في أحد حواراته، وجعلته يكتب مشاهد رواية  »مئة عام من العزلة«.

وفي مرور خاطف على سيرة حياة الكاتب:

ولد غابرييل غارسيا ماركيز في شهر مارس 1927 في منطقة أراكاتاكا في كولومبيا وقضى حياته في المكسيك وتوفّي في أبريل 2014  وماركيز هو روائيّ وصحافيّ وناشر كما أنّه ناشط سياسيّ كولومبيّ له عدّة أعمال موزّعة بين روايات وقصص ومقالات وأعمال أخرى.

بالانتقال إلى عالم الكتابة، إنّ من يقرأ الرواية الشهيرة  »مئة عام من العزلة« لماركيز وسط ما يتخبّط به العالم من جائحة كورونا والدعوة إلى الحجر الصّحّيّ والعزلة القسرية التي أحدقت بالبشرية، يجد نفسه أمام واقع شبه قريب مما عاشه النّاس منعزلين آنذاك في  »الكاريبي« أو أميركا اللاتينيّة. فعندما كتب غارسيا رواية  »مئة عام من العزلة«، وبرغم ما احتوته الرواية من أفعال نبوّة وتبصّر وسحر، لم يكن يتوقّع أن نتشارك معه هذا العنوان فكلمة  »عزلة« بحدّ ذاتها جعلتنا نمسك خيطًا لعشرة أجيال من عائلة  »بوينديا« كي نتابع المسار ونفهم تسلسل الأحداث، أمّا الفارق اللافت فهو أننا أمام عزلة قسرية فرضها وباء عالميّ. وفي تفاصيل أحداث الرواية شذرات حياة في قرية بعيدة وقد استمرت حتى السلالة الأخيرة من هذه العائلة.

تميّز غارسيا ماركيز بقوّة الخيال وامتلاك تقنيّات السّرد الرّوائيّ إذ استطاع محاكاة الواقع والسّير به في طريق رسمتها مخيّلته ليخرج بقصص اتّخذت حيّزًا مهمًّا بين الآداب العالميّة وجاءت روايته الشّهيرة، والتي لم يتوقّع لها أن تصل إلى ما آلت عليه الأمور في ما بعد بحسب ما قاله لزوجته يومها، ونال جائزة نوبل العالميّة في الأدب عام

غلاف مئة عام من العزلة

1982، ما توّج أعماله الإبداعيّة ونقله إلى مرحلة جديدة من حياته.

يكتب غارسيا هذه الكلمات التي اشتهرت فيها روايته معتبرًا أنّ ما حدث كان مقدرًا لمدينة المرايا (أو السراب) وهو أن تذروها الرياح، وتُنفى من ذاكرة البشر، في اللحظة التي ينتهي فيها أوريليانو بوينديا من حل رموز الرقاق، وأن كل ما هو مكتوب فيها لا يمكن أن يتكرر، منذ الأزل إلى الأبد، لأن السلالات المحكومة بمئة عام من العزلة، ليست لها فرصة أخرى على الأرض.

كتب ماركيز روايته بقلم يمتلك تقنيّات السّرد الروائي الذي يبرز تمكّنه من رواية الأحداث الواقعية السحرية الغرائبية وجعلها تتطوّر وتتعاقب مع الزّمان باتّجاه تصاعديّ وصولا إلى مئة عام تنتهي مع انتهاء آخر جيل، حيث تتمّثّل تصرّفات الشّخصيّات بانفعالاتها وعواطفها في فضاءات الرّواية ما يفتح المجال للقارئ بتحليلها ورصد تحوّلاتها والتّغيّرات الّتي تطرأ على حياة شخصيّاتها عبر الزّمان.

في روايته عبّر الكاتب عن الإنسان بكلّ ما يحبطه أو يفرحه بل بكلّ تقلّباته وأفكاره، فمثّلت روايته هذا الواقع الذي قد ينطبق على أيّ إنسان عايش العزلة أو الوحدة. وقد عبر ببراعة الانتقال من الواقع إلى الخيال والعكس.

يكتب ماركيز عن الحياة والإنسان بعمق نابع من رؤيته الفنّيّة وقدرته على بثّ الأحداث المألوفة في قالب من العمل السّرديّ الذي يعالج قضايا هذا الإنسان بتفكيك واقعه وإعادة صياغته بأسلوب جماليّ ممتزج بالحقيقة أو بالخيال الذي يرتدي عباءة الحقيقة، حيث الخرافة والسحر ينطلقان بمجرد مرور الغجر الذين يزورون القرية ويغيّرون أجواء الأحداث من فترة إلى أخرى.

عام 2019 تمّ الإعلان عن الموافقة إلى تحويل هذه الرواية المدهشة إلى مسلسل تلفزيزني لتصبح بذلك بين يديّ الجميع وذلك لما حقّقته من أهمّيّة على المستوى الإبداعيّ العالميّ.

في سؤال للكاتب عبر أحد ملاحق جريدة المدى من كتابة: بيتر ستون وترجمة: أحمد فاضل، كان جواب غارسيا:

 »هل كنت تتوقع كل هذا النجاح غير العادي الذي أصاب روايتك  »مائة عام من العزلة«؟

– كنت أعرف أنها ستكون الرواية التي سترضي القراء أكثر من أي رواية صدرت لي، وعندما قال لي ناشرها بالإسبانية أنه ذاهب لطباعة ثمانية آلاف نسخة منها صدمت لأن كتبي الأخرى بيع منها فقط سبعمائة نسخة فسألته لماذا لا يكون العدد أقل مما قلته، قال أنه مقتنع بجودتها ويتوقع منها أن تباع ثمانية آلاف نسخة خلال الفترة المحصورة بين أيار وكانون الأول، لكنها في الواقع بيعت جميعها خلال أسبوع واحد في بوينس آيرس.

 »مئة عام من العزلة« أو مئة عام من الحكايات الساحرة الغريبة التي اتصلت مباشرة بشخصيّة غارسيا ماركيز وأثّرت فيه خصوصًا عزلة الكاريبي ونمّت الخيال الذي جعله يبتكر حياة وموت شخصيّاته فيخترع لها عزلة وحياة تكاد لا تخلو في كلّ تفاصيلها من اللحظات الجماليّة الإبداعيّة.

مئة عام من العزلة اكتشاف عالم بعيد ومحاولة للنّظر من الدّاخل إلى الخارج بقلم خلّاق وأسلوب شيّق وممتع، كلّله غارسيّا ماركيز بهديّة من مسيرته الأدبيّة هي هذا الخطاب الذي سمّي خطاب الوداع أو رسالة الوداع والتي اشتهرت عالميًّا بعد وفاته، هنا بعض من مقتطفاته:

 » لو وهبني الله حياة أطول لكان من المحتمل ألا أقول كل ما أفكر فيه، لكنني بالقطع كنت سأفكر في كل ما أقوله.

كنت سأقيّم الأشياء ليس وفقاً لقيمتها المادية، بل وفقاً لما تنطوي عليه من معان.

 لو أن الله أهداني بعض الوقت لأعيشه كنت سأرتدي البسيط من الثياب، كنت سأتمدد في الشمس تاركاً جسدي مكشوفاً بل وروحي أيضاً.

 يا إلهي… لو أن لي قليلاً من الوقت لكنت كتبت بعضاً مني على الجليد وانتظرت شروق الشمس

 كنت سأرسم على النجوم قصيدة  »بنيدتي« وأحلام  »فان كوخ« كنت سأنشد أغنية من أغاني  »سرات« أهديها للقمر، لرويت الزهر بدمعي، كي أشعر بألم أشواكه، وبقبلات أوراقه القرمزية.

 يا إلهي… إذا كان مقدراً لي أن أعيش وقتاً أطول، لما تركت يوماً واحد يمر من دون أن أقول للناس أنني أحبهم، أحبهم جميعاً، لما تركت رجلاً واحداً أو امرأة إلا وأقنعته أنه المفضل عندي، كنت عشت عاشقاً للحب.

 كنت سأثبت لكل البشر أنهم مخطئون لو ظنوا أنهم يتوقفون عن الحب عندما يتقدمون في السن، في حين أنهم في الحقيقة لا يتقدمون في السن إلا عندما يتوقفون عن الحب.

 كنت سأمنح الطفل الصغير أجنحة وأتركه يتعلم وحده الطيران كنت سأجعل المسنين يدركون أن تقدم العمر ليس هو الذي يجعلنا نموت بل : الموت الحقيقي هو النسيان«.

العدد 106/تموز 2020