الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، المُلهمة الحزينة..

نسرين الرجب ـ لبنان

الرابعة فجرا حيث الأطفال نيام، ويفصل عن موعد استيقاظهما ساعتين، تُحضّر الأم المُحبة والحزينة جدًا طعام الفطور، قطعتيْ خبز مع الجبن، وكوبيْ حليب لطفليها الهاجعيْن في طمأنينة لا أثر لها في قلبها المُحترق، تذهب إلى غرفتها تتناول أقراصًا منوّمة.. تتّجه نحو المطبخ تبلّل مناشف قطنيّة بالماء تغلق الباب جيدًا تسد منافذه بالقطع المبللة، تحكم إغلاقه وتذهب إلى الموت بقدمين من سحاب مُثقل بالمطر، تُدخل رأسها الراكد بعد إعصاف وإعصار في عمق الفرن.. وترقد باستسلام.

ولدت سيلفيا بلاث في 27 تشرين الأول 1932، في بوسطن. كان لديها شقيق يصغرها، توفي والدها  »أوتو بلاث« في العام 1940 فأورثها موته كآبة لا تنتهي، درست في كلية في نورثهامبتون ماساشوستس 1950، قبلت في صف التخرج في سميث كوليج 1954، درست في جامعة سميث وجامعة نيونهام في كامبردج قبل أن تشتهر كشاعرة وكاتبة محترفة. عملت أستاذة في أكثر من جامعة في أميركا وبريطانيا، لقّبها النقاد بــ »إيزيس الأميركية«، نشرت عشرات القصص والرسائل والدواوين التي توجت بجوائز مرموقة. نُشرت روايتها الأولى  »الناقوس الزجاجي« قبل شهر من انتحارها، صدرت مجموعتها الشعرية  »Ariel« بعد موتها حيث قام  »تيد هيوز« بالإشراف على نشرها، وكان من أكثر كتب الشعر شهرة وقراءة في القرن العشرين.

 تزوجت من الشاعر والمسرحي البريطاني  »تيد هيوز« في 1956 وعاشوا أولاً في الولايات المتحدة قبل أن ينتقلا إلى بريطانيا، أنجبت: فريدا ونيكولاس. عانت من الاكتئاب السريري. كانت حياتها والتي ظهرت في كتاب  »اليوميات« تتأرجح بين السعادة واللاسعادة، انتحرت في العام 1963.

 تغطي اليوميات المرحلة الممتدة من 1950 حتى العام 1962، وهي مخطوطات مكتوبة باليد ومطبوعة،  »نصوص لم تكن أبدًا مقصودة للنشر« كما ورد في التمهيد لصفحات الكتاب، لذا نجد فيها الكثير من الألغاز والإشارات، تتحول من الحقيقي إلى ملاحظات منفصلة ورسائل وتمارين في الكتابة، حُفّظت المادة في سميث كوليج 1981 الجامعة التي درست فيها بلاث من العام 1950 حتى العام 1955، ودرّست فيها في السنة الدراسية 1957-1958.

 الطبعة العربية ترجمة عباس المفرجي، العام 2017، عن دار المدى، فيها نصوص منتخبة من السنوات 1950- 1962 عرضت فيها كل جوانب حياة بلاث كتاباتها قراءاتها حياتها وأفكارها حول الأسلوب واللغة، طموحها الأدبي، المصاعب الشخصية وكآبتها المُعيقة.

الطموح والغيرة

منذ بدء مسيرتها واصلت  »سيلفيا« السعي لتكون شاعرة مُجدّة ومعروفة، تنتظر بلهفة قبول نشر قصائدها وآراء النقاد فيما تكتبه، في بداياتها قوبلت بالرفض في كثير من المرّات، وصرّحت في يومياتها بمشاعر الغيرة والحقد من نجاح الآخرين حتى لو كانوا أصدقاء، كونها لم تكن قد نالت بعد المجد الذي كانت تشعر بالاستحقاق تجاهه:  »أجل أنا أريد ثناء العالم، المال والحب، وغاضبة على كل من يتفوق علي، خصوصا إذا كان واحدا من معارفي أو كان له تجربة مماثلة لتجربتي«.

هي المحبّة الغيورة آلمت الغيرة قلبها المتقلّب، ووقفت قبالة تمثال الفقد تذرف الذين هجروها:  »طوال حياتي أنا مهجورة عاطفيًا من الذين أحببتهم أكثر من غيرهم: أبي يموت ويتركني، أمي بطريقة أو بأخرى غير موجودة…«. تتحول علاقة الحب الجامح بـ »تيد هيوز« إلى عصف من الشك والغيرة والخيبة المتكررة:  »تد إلى هذا الحد، هو حضور ذكوري، هو بديل عن والدي.. أمثلة عن عدم إخلاصه مع النساء ترجع صدى خوفي عن علاقة أبي مع أمي…«،  »كان يعرف كم أحبه وبماذ أشعر حينئذ ومع ذلك لم يحضر…«

وجدت الحركات النسوية في موت بلاث برهانها على عنجهية الذكورة، وحمّلت الزوج تبعات موتها جراء خياناته المتكررة، وضعفه أمام ساعات غضبها وشكوكها المرعبة التي جعلته زوجا هاربا، إلى أن خرج عن صمته بعد سنوات طويلة، تجاه هذه القضية المحيّرة فكتب birthday letters في العام 1998، قبل أسابيع من وفاته، ضمّنه قصائد تصف علاقته مع سيلفيا.

دوامة سوداء سحيقة

عايشت سيلفيا في حيواتها وحشًا ضاريًا -هو الاكتئاب السريري، أشد أنواع الاكتئاب حدّة والذي تمّ تشخصيها به عدّة مرات-، يأخذها في دوامة سوداء سحيقة، يشاركها في يومياتها، يجثم على قلبها ويذكّرها بوصمة الفقد الأبدية (فقدان والدها وهي في التاسعة)، لذا فهي تصب نقمتها لاحقًا على أمها، وتصرّح لطبيبتها النفسية بأنها تكرهها وتشفق عليها في آن، تكره النموذج الأمومي الذي كانته، تلومها على كونها تزوجت والدها وهي أكبر منه سنًّا:  »تزوجت بعصبيّة ما قبل سنوات الثلاثينيات رجلا أكبر بالعمر من أمّها نفسها، وكانت له زوجة في الغرب… أصبح مريضا في اللحظة التي قال فيها القس يمكنهما تقبيل بعض… وجدت أنه كان وحشيًا لم تستطع أن تحبه، ..تزوجت من رجل لم تكن تحبه. كان الأطفال خلاصها. وضعتهم في المقام الأوّل قيدت نفسها«. تذكر  »سيليفا« بغضب ممزوج بنثريّة ساردة كيف تلقّت خبر وفاة والدها:  »جاءت ذات ليلة إلى المنزل باكية..أيقظتني قائلة إن بابا رحل، هذا يعني مات.. لكننا الثلاثة سنبقى معا.. ونحيا حياة بهيجة لنأخذ ثأرنا منه«، لم تكن ترى في هذه الأم البائسة سوى نموذجًا لربما خشيَت أن تصيره يوما: ( رجلا وامرأة في كرة حلوة، كانت تقتّر، ارتدت المعطف نفسه، أعطت طفليها عالم الفرح البريء الذي لم تنله أبدًا.. كان لها عالم رديء).

 ورأت في هاجس الانتحار نوعا من التعبير عن افتقاد الحب الأمومي، عن ذلك الفراغ الهائل الغائر في أعماق روحها.  »أعتقد أنني كنت دائما أحس أنها امتداد لنفسها، أنه عندما ارتكب انتحارا أو أحاول ذلك فهو مُخزٍ لها، تهمة موجهة لها:..اتهامها أن حبّها كان ناقصًا..«.

لم يكن الموت غريبا عن  »سيلفيا« فكانت تكرّر مشتقاته (القتل، الانتحار، الموت) كلّما أتعبتها المحاولة مع هذا العالم.  »أريد قتل نفسي، الهرب من المسؤولية، الزحف عائدة بذل إلى الرحم«. تساؤلات قلقة، ومخاوف ثقيلة:  »سوف لن أدع نفسي تمرض…، أو تلجأ كما الطفل للانتحاب على كتف أحد آخر..«. يؤلمها أن تعرف كم أن هذا العالم مرائي ولا ينفع معه من يشعر كثيرا:  »الأقنعة هي وجه اليوم.. وأقل ما يمكنني فعله هو تشجيع الوهم بأني مرحة ومرتاحة البال غير جوفاء وغير خائفة«. وتُدرك أنّ  »لا أحد هنا لديه الوقت ليسبر نفسي، ليساعدني على فهمها..«.

عقدة نقص قديمة

لطالما خشيت الوحدة كما تقول في أكثر من مكان من يومياتها، اضطرارها للحاق بالأشخاص الذين تود أن تكون معهم،  »أتذكر يوم مشت معي نانسي كولوسون وفتاة أخرى إلى المنزل..كانتا دائما تبتعدان مقهقهتين حين أبدأ برواية حكاية. لم أكن أفهم. متحيرّة لاهثة كنت أركض وراءهما. وبعدئذ علمت أنهما قصدتا الابتعاد عني كي لا تسمعا ثرثرتي.. المطوّلة البليدة«. آلمتها هذه المعرفة حتى قالت:  » سأتوقف عن كوني كلبًا صغيرًا نبّاحًا يقفز على الجميع في جهد مسعور كي يجذبهم.« كانت في أعماقها تحتاج للتواجد لتكون محط اهتمام وانتباه، فيما بعد، تخطت عقدها بما وسعت:  » أريد بيأس أن يجدني الجميع لطيفة. رغم أني الآن يمكن أن أوصف بالانبساطية فما زال هناك آثار رجعية من عقدة نقص قديمة خاصة بي..«

ربما تكمن مأساة سيلفيا أنها عرفت أكثر مما يجب عليها معرفته، كانت امرأة قارئة مُجِدّة، وذكرت في يومياتها الكثير من المعارف الأدبية والاهتمام بعالم الكتب والكُتّاب، وشغفها بالعلم والتعلّم:  »هناك الكثير جدا من المعرفة التي يجب التسلح بها قبل اقتحام ميدان المعركة.. يجب أن أقوم بغالونات من القراءة عن علم النفس، الفلسفة، اللغة الإنكليزية« واعية جدًا لكل ما يحدث في لاوعيها، ولكنها مندفعة بأكثر مما يمكن لوعيها من ضبطه.

  راكمت الغيرة القاهرة حزنها وذبولها، عندما اكتشفت بحدس الأنثى خيانة زوجها. كانت تحبه بشدّة. وفي قصيدة  »دادي« شبّهت قسوة والدها وزوجها عليها كقسوة النازيين على اليهود«. خوف متأصل من أن تُترك وحيدة،  » تركهم لي، إجباري على أن أبقى وحيدة؟«

عانت من هذه الوحدة التعِسة:  »كنت وحيدة أكثر مما لو كنت وحدي«. وقد سبرت منشأها:  »الوحدة.. إنها تنشأ عن الجوهر الغامض للذات، مثل كمرض دم، ينتشر في أنحاء الجسم بحيث لا يستطيع المرء أن يحدّد المنشأ، موضع العدوى.«

تشاؤمية هي لدرجة قولها أنها كانت تخشى تجربة السعادة لما قد يتبع ذلك من ألم:  »في اللحظة التي تجرئين فيها أن تكوني سعيدة يضربك القدر ضربة قوية..«

انتحرت سيلفيا في واقعة تشبه صورة شعريّة مستعارة من الظلمة والعدميّة البائسة، تُرجمت صدمة وفاتها في اهتمام كثيف وجهه الكُتاب والنُقاد والمُخرجين أيضًا، نحو نتاجها الشعري والأدبي، وحياتها الشائكة، ليبنوا على أنقاض وجعها آثارهم الكتابية والفنيّة، ولم تزل حتى اليوم مُلهمة باكتئابها وبتلك النظرة الحائرة والجامدة وقدرتها التعبيريّة الهائلة (شعرًا ونثرًا) التي فاضت بكل مكنونات الذات الصاخبة.

 في مقطع من قصيدة لابنتها  »فريدا« بعد سنوات من نضجها، تقول:

  »أمي/ إنهم يقتلونها مرة أخرى/ هي قالت إنها فعلت ذلك/ مرة كل عشر سنوات/ لكنهم يفعلون ذلك سنويا، أو أسبوعيا/ حتى بعضهم يفعل ذلك يوميا/ يحملون موتها فوق رؤوسهم/ يتدربون عليه.«

العدد 106/تموز 2020