ليبيا.. صراع الكبار!

موقف مفاجئ لواشنطن يخلط الأوراق وروسيا تسعى لحضور ينافس بقية أطراف الأزمة

محمد قواص (*)

لا شك أن المراقب استنتج بسهولة انقلاب المواقف الدولية والإقليمية حول الشأن الليبي بما يفسر الهمة الدبلوماسية النشطة التي شهدتها القاهرة وموسكو وأنقرة. وفيما تتقدم القوات التابعة لحكومة الوفاق في طرابلس برئاسة فايز السراج لاستعادة المناطق التي تقدمت فيها قبل ذلك قوات الجيش الوطني الليبي التابعة للمشير خليفة حفتر، فإن ما قلب وقد يكمل في قلب الموازين هو استفاقة الولايات المتحدة المفاجئة على الشأن الليبي في رد استراتيجي عالي المستوى ضد محاولات روسيا للتمركز في ليبيا على نحو يهدد الأمن الاستراتيجي لأوروبا والحلف الأطلسي ومصالح الولايات المتحدة مباشرة.

واشنطن أهملت ليبيا

لم تكن الولايات المتحدة معنية مباشرة في الجهد العسكري الذي انخرط فيه الحلف الأطلسي، لا سيما فرنسا

حرب بالوكالة تقودها عواصم كبرى

وبريطانيا، ضد القوات التابعة للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في مارس 2011، لكنها وفرت لحلفائها البيئة السياسية واللوجيستية التي تسهل مهاماتهم العسكرية. وقد تجسد عدم الاهتمام الأميركي بالشأن الليبي وإيكال أمر هذا البلد لحلفائها الأوروبيين في قرار انسحابها السريع من ليبيا عقب مقتل سفيرها هناك وثلاثة موظفين آخرين في هجوم شنه مسلحون إسلاميون على مقر القنصلية الأميركية في مدينة بنغازي في سبتمبر 2013.

وإذا ما كان قرار الانكفاء عن ليبيا قد صدر عن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، فإن الرئيس الحالي دونالد ترامب، وعلى الرغم مما عرف عنه من انتهاج لسياسات معاكسة للمواقف التي اتخذها سلفه، إلا أنه، وبحكم تمسكه بسياسة سحب بلاده من حروب الآخرين في العالم وفق وعوده الانتخابية، لم يبد هو الآخر أي اهتمام لافت بالشأن الليبي، وبقي موقف واشنطن وسطي متواصل مع كافة أطراف الصراع في هذا البلد.

وعلى الرغم من علاقة واشنطن الرسمية بحكومة الوفاق المعترف بها دوليا، إلا أنها حافظت على تواصل مع المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني.

وكان مكتب الإعلام التابع للقيادة العامة للقوات المسلحة الليبية قد أعلن في أواخر يناير الماضي عن اجتماع تم بين حفتر وسفير الولايات المتحدة الأميركية لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، تم خلاله  »بحث التطورات الأخيرة في الأزمة الليبية خاصة بعد عقد مؤتمر برلين (عقد في 19 يناير). وأتى الاجتماع ضمن سلسلة لقاءات جمعت الطرفين، أهمها ذلك في التاسع من نفس الشهر، في العاصمة الإيطالية روما، وحضره إلى جانب السفير نورلاند كل من نائب مستشار الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فيكتوريا كوتس، ونائب مساعد وزير الخارجية للشؤون

بوتين يعمل على تأكيد حضور روسيا في مستقبل ليبيا

المغاربية والمصرية هنري ووستر.

انقلاب في الموقف الأميركي

تغير موقف الولايات المتحدة على نحو كبير بعد أن استنتجت وزارة الدفاع ومؤسسات العسكر والأمن الأميركية أن الحراك العسكري الروسي يتطور باتجاه يخل بثوابت الأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة، وأن تفاصيل الصراع الليبي الهامشية بالنسبة لواشنطن تصبح أمرا جللا حين تصبح ليبيا بلدا مرشحا للتمدد الروسي في شمال أفريقيا والبحر المتوسط.

وقد كثف البنتاغون والحلف الأطلسي لا سيما القيادة الأفريقية (أفريكوم) من المواقف التي يُشتم منها رفض لتمركز روسيا على أبوابِ أوروبا بما يشكله الأمرُ من خطر استراتيجي على المنظومة الغربية برمتها.

وقالت القيادة في بيان لها في 26 من مايو، إن طائرات روسية وصلت من قاعدة جوية في روسيا، بعد عبورها سوريا وإعادة طلائها لتمويه أصلها الروسي.

واعتبر الجنرال في الجيش الأميركي، ستيفن تاونسند، أن  »روسيا تحاول قلب الميزان لصالحها في ليبيا، مثلما رأيتهم يفعلون في سوريا، إنهم يوسعون وجودهم العسكري في إفريقيا باستخدام مجموعات المرتزقة المدعومة من الحكومة (فاغنر)«. وأشار إلى أن روسيا نفت لفترة طويلة تورطها في الصراع الليبي المستمر، لكن الآن لا يمكن إنكار ذلك.

ويظهر تحرك المؤسسات الأميركية أن مسألة الأمن الاستراتيجي الأميركي في شمال أفريقيا هو خط أحمر أميركي لدى الحزبين الجمهوري والديمقراطي تم التأكيد عليها في مؤتمر مالطة الذي عقد في 3_4 ديسمبر 1989 ما بين الرئيسين ميخائيل كوربتشوف ودونالد ريغان.

روسيا تنفي

بالمقابل تكرر موسكو نفي أي تواجد عسكري لها في ليبيا على الرغم من اتهامات صدرت عن حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج عن وجود مرتزقة روس تابعين لشركة فاغنر الروسية، وعلى الرغم مما صدر عن القيادة الأفريقية

المنظومة الغربية لن تسمح بتمركز روسيا بالفقرب من جنوب أوروبا

للحلف الأطلسي من أن موسكو أرسلت من خلال قاعدتها العسكرية في مدينة حمميم السورية 14 طائرات من طراز ميغ 29 سوخوي 24 للتمركز في قاعدة الجفرا في ليبيا. غير أن المحللين السياسيين الروس الذين تستضيفهم الفضائيات العربية يذكّرون بالعلاقة التاريخية لموسكو مع ليبيا وبحق روسيا في أن يكون لها نفوذ ومصالح في هذا البلد.

وكان بيان صادر عن حكومة الوفاق (25 مايو) قد أكد أنه تم إجلاء مئات  »المرتزقة« الروس من مدينة بني وليد الواقعة جنوب شرق العاصمة. وأشار إلى هبوط طائرة شحن عسكرية نوع أنتونوف 32 في مطار بني وليد، الواقع على بعد 170 كلم جنوب شرق العاصمة، وذلك  »لاستئناف نقل مرتزقة مجموعة فاغنر الذين فروا من محاور جنوب طرابلس إلى وجهة غير معلومة«. وقدرت حكومة الوفاق عدد المقاتلين الذين وصلوا إلى بني وليد بـ »حوالى 1500 إلى 1600 مرتزق«.

ليبيا.. خط أحمر

وعلى الرغم مما كان يمتلكه الاتحاد السوفياتي من علاقات متطورة مع  »الجماهيرية الليبية« في عهد القذافي، إلا أن الأخير، وعلى الرغم من صراعه مع الولايات المتحدة، لم يسمح برسو قطع بحرية سوفياتية في موانئ ليبيا، لإدراكه لما يشكله الأمر من اختراق للخطوط الحمر التي كانت معتمدة في حقبة الحرب الباردة.

ولئن تمتلك روسيا نفوذا متقدما في سوريا تطل من خلاله على المياه الدافئة المتوسطية، غير أن ما قبلت به الولايات المتحدة، وربما وفرت له رعاية في سوريا (التدخل الروسي في سبتمبر 2015 بدأ بعد ساعات من انتهاء اجتماع للرئيسين فلاديمير بوتين وباراك أوباما في نيويورك)، لا ينسحب على الحالة الليبية ولا يمكن للأميركيين والأوروبيين التسامح بشأنه.

وتمثل ليبيا بوابة استراتيجية من بوابات أفريقيا باتجاه أوروبا، ويسمح موقها الجيوستراتيجي بالإطلالة على أوروبا، ويشكل أي وجود عسكري روسي على الشواطئ الليبية خطراً على أمن جنوب أوروبا وتهديدا للتواجد الأميركي في أوروبا، لا سيما في إيطاليا حيث تبعد الشواطئ الليبية مسافة عشرات الكيلومترات عن القواعد الأميركية في إيطاليا.

لماذا استفاقت واشنطن على الشأن الليبي؟

وهذا الأمر سيكون عامل موحد للموقف الأوروبي الأميركي حول مقاربة الحالة الليبية، وقد بمثل فرصة للحل في ليبيا تعتمد على مخرجات مؤتمر برلين وقرارات الأمم المتحدة، في ظل توافق إقليمي دولي على التمسك بوحدة البلد.

وتؤكد دروس التاريخ العسكري أهمية ليبيا. فبعد أن دخل الجنرال البريطاني برنارد مونتغمري طرابلس في يناير 1943 مكنه الأمر من السيطرة على مونت كاسينو في إيطاليا لاحقا (مايو 1944). كما أنه عندما أراد أدولف هتلر أن يقطع قناة السويس والتمدد نحو الخليج أنزل الجنرال إرفين رومل في طرابلس (فبراير 1941).

النفط والغاز

وإضافة إلى أهمية ليبيا الجيوستراتيجية وأهميتها بالنسبة لأمن أوروبا، فإن البلاد تمتلك مخزونا هائلا من النفط والغاز. وأظهرت بيانات منظمة الدول المنتجة للنفط  »أوبك« أن ليبيا تحتل المرتبة الخامسة عربيا باحتياطي يبلغ حوالي 48.36 مليار برميل. ويبلغ احتياطي ليبيا من الغاز حوالي 54.6 ترليون قدم مكعبة، يضعها في المرتبة 21 عالميا من احتياطات الغاز. وعلى هذا لا يمكن للمنظومة الغربية بالمعنى السياسي والاقتصادي، وللحلف الأطلسي بالمعنى الأمني والعسكري السماح بالتساهل بأمر الحضور الروسي في هذا البلد.

والواضح أن رأي الأطراف الليبية سيكون هامشيا في تقرير مصير ليبيا وسيخضع للقواعد والشروط التي يمليها صراع الكبار، كما أن أجندات الأطراف الإقليمية المنخرطة في الشأن الليبي ستفقد رحابة هوامشها لتتحول إلى جزء من مسار الصراع الجدي الذي ما زال منخفض المستوى بين روسيا والولايات المتحدة حول الموقف في ليبيا.

ماذا تريد موسكو؟

يعتبر التواجد العسكري الروسي في ليبيا مناورة استراتيجية تمارسها موسكو للرد على الضغوط الغربية التي تمارس ضد روسيا والتي تمثلت مؤخرا بالمناورات العسكرية التي يقوم بها الحلف الأطلسي في لحر بارنتس بالقرب من روسيا، والتي أدانها الكولونيل سيرغي رودسكوي من هيئة الأركان العامة الروسية واعتبرها مستفزة لبلاده. وقد يكون سيناريو التدخل العسكري الروسي في ليبيا شبيها بذلك في سوريا من حيث تحضير الأرضية لوجود روسي يصبح رقما صعبا في أية تسوية مقبلة.

وجدير بالذكر أن موسكو حافظت على علاقات مع حكومة الوفاق في طرابلس وسبق أن ناقشت مع رئيسها فايز السراج سبل تطوير العلاقات الاقتصادية مع طرابلس، وبالتالي فإن رهانات موسكو قد لا ترتبط بما يحققه أو ما يخسره هذا الطرف الليبي أوذاك، بل على مبدأ وجود نفوذ روسي سواء من خلال الدبلوماسية التقليدية أو من خلال الحلفاء المحليين أو غض الطرف عن وجود مرتزقة تابعين لشركة روسية خاصة. وأنه إذا ما تأكد وجود طائرات عسكرية روسية في ليبيا (مصادر الأمم المتحدة لم تؤكد الأمر)، فهذا يعني أن موسكو تدعم مبدأ النفوذ من خلال تواجد عسكري مباشر يصبح واقعا لا يمكن القفز عنه في أي معادلة جديدة لإنهاء الحرب في ليبيا. وقد يقايض الروس الأميركيين بمستقبل الوضع الليبي وملفات نزاع أخرى في العالم، لا سيما أوكرانيا وسوريا.

حسابات موسكو وواشنطن

والواضح في النهاية أن الصراع الروسي الأميركي حول ليبيا نقل الصراع في هذا البلد إلى مستوى أكبر من حجمه الراهن وجعل من أي حل رهن توافق موسكو وواشنطن في ملفات كثيرة. كم أن التدخل العسكري الروسي في ليبيا يشكل عامل وحدة لدى المنظومة الغربية الأميركية الأوروبية دفاعاً عن الأمن الاستراتيجي لجنوب أوروبا كما الأمن الاستراتيجي الأميركي في العالم.

ويمثل الموقف الأميركي المعارض لتواجد عسكري روسي في ليبيا تحولا في موقف واشنطن من الصراع الليبي لمنع ليبيا من أن تكون منطقة نفوذ روسية في شمال أفريقيا والبحر المتوسط. كما أن قبول الغرب بالنفوذ الروسي في سوريا، لا يمكن أن ينسحب على الحالة الليبية، لما تمثله ليبيا تاريخيا وجغرافيا من أهمية على الأمن الأوروبي والمتوسطي والأفريقي.

ومع ذلك يرى خبراء في الشؤون الاستراتيجية أن ارتقاء الصراع في ليبيا إلى مستوى الصراع بين روسيا والولايات المتحدة قد يكون عاملا مسرعاً للحل في ليبيا طالما كافة أطراف الصراع متمسكين بوحدة البلاد ومقررات مؤتمر برلين والقرارات الأممية. ويسلم هؤلاء بأن رأي الأطراف الليبية أصبح هامشيا، وأن مستقبل ليبيا بات رهن التجاذبات الخارجية التي يأخذ السجال الروسي الأميركي الراهن موقعا متقدما ونوعيا داخلها.

على أية حال فإن الخرائط الليبية السياسية قد لا تبتعد عن خرائط سياسية أخرة قيد التجاذب في منطق أخرى مثل سوريا ولبنان والعراق بما من شأن تنظيم الدور الإيراني وترتيب العلاقة مع طهران. ولا تغيب خرائط النفط والغاز التي تحرّك الحوافز الروسية الأميركية التركية عن تلك المرتبطة بمستقبل الطاقة في شرق البحر المتوسط والتي يدور الصراع الأممي الحديث حول مساره ومصيره.

لم تكن الولايات المتحدة معنية مباشرة في الجهد العسكري الذي انخرط فيه الحلف الأطلسي، لا سيما فرنسا وبريطانيا، ضد القوات التابعة للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في مارس 2011، لكنها وفرت لحلفائها البيئة

الغرب لن يتساهل مع حضور روسيا في ليبيا كما فعل في سوريا

السياسية واللوجيستية التي تسهل مهاماتهم العسكرية. وقد تجسد عدم الاهتمام الأميركي بالشأن الليبي وإيكال أمر هذا البلد لحلفائها الأوروبيين في قرار انسحابها السريع من ليبيا عقب مقتل سفيرها هناك وثلاثة موظفين آخرين في هجوم شنه مسلحون إسلاميون على مقر القنصلية الأميركية في مدينة بنغازي في سبتمبر 2013.

تغير موقف الولايات المتحدة على نحو كبير بعد أن استنتجت وزارة الدفاع ومؤسسات العسكر والأمن الأميركية أن الحراك العسكري الروسي يتطور باتجاه يخل بثوابت الأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة، وأن تفاصيل الصراع الليبي الهامشية بالنسبة لواشنطن تصبح أمرا جللا حين تصبح ليبيا بلدا مرشحا للتمدد الروسي في شمال أفريقيا والبحر المتوسط.

على الرغم مما كان يمتلكه الاتحاد السوفياتي من علاقات متطورة مع  »الجماهيرية الليبية« في عهد القذافي، إلا أن الأخير، وعلى الرغم من صراعه مع الولايات المتحدة، لم يسمح برسو قطع بحرية سوفياتية في موانئ ليبيا، لإدراكه لما يشكله الأمر من اختراق للخطوط الحمر التي كانت معتمدة في حقبة الحرب الباردة.

رأي الأطراف الليبية سيكون هامشيا في تقرير مصير ليبيا وسيخضع للقواعد والشروط التي يمليها صراع الكبار، كما أن أجندات الأطراف الإقليمية المنخرطة في الشأن الليبي ستفقد رحابة هوامشها لتتحول إلى جزء من مسار الصراع الجدي الذي ما زال منخفض المستوى بين روسيا والولايات المتحدة حول الموقف في ليبيا.

المبادرة المصرية

من قصر الاتحادية بالقاهرة، أعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مبادرة لحل الأزمة الليبية، وذلك في مؤتمر صحفي مشترك مع حليفه المشير خليفة حفتر، وذلك بعد بضعة أيام من سلسلة هزائم منيت بها قوات حفتر (الجيش الوطني الليبي) في العاصمة طرابلس، التي تسيطر عليها قوات حكومة الوفاق المعترف بها دولياً والمدعومة من تركيا.

والمبادرة التي سميت  »إعلان القاهرة« تدعو إلى  »احترام كافة الجهود والمبادرات من خلال وقف إطلاق النار اعتباراً من الساعة السادسة صباح الاثنين 8 يونيو / حزيران الماضي وإلزام الجهات الأجنبية باخراج المرتزقة الأجانب من كافة الأراضي الليبية«، كما تدعو المبادرة إلى تشكيل مجلس قيادة منتخب.

وفي حين رحبت الدول التي تدعم حفتر، وأبرزها روسيا والإمارات، بالمبادرة، أعلنت حكومة الوفاق في طرابلس رفضها لإعلان القاهرة، وأطلقت بالتزامن مع إعلان المبادرة عملية عسكرية لاستعادة السيطرة على مدينة سرت على بعد 450 كلم شرق طرابلس.

ومنذ 2015 تتنازع سلطتان الحكم في ليبيا وهما: حكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فايز السرّاج ومقرها طرابلس (غرب) وحكومة موازية يدعمها المشير حفتر في شرق البلاد.

رفض حكومة الوفاق للمبادرة المصرية والدعم المصري لحفتر فضلاً عن تعقيدات المشهد الليبي، كل ذلك يثير تساؤلات عن إمكانية نجاح إعلان القاهرة التي تريد مصر من خلاله أن تلعب دور الوسيط بين طرفين تدعم أحدهما.

وقد فشلت مساع أوروبية ودولية في تثبيت وقف إطلاق النار بين طرفي النزاع، رغم الجهود الحثيثة التي بذلت إثر مؤتمر برلين الخاص بليبيا الذي عقد في 19 يناير /كانون الثاني 2020.

بومبيو ومؤتمر برلين

يبؤكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، أن وقف إطلاق النار الذي يقود إلى حل سياسي هو الحل الوحيد لإنهاء أزمة الشعب الليبي. ويعتبر أن  »الحل الوحيد للأزمة الليبية يكمن في العودة إلى المسار السياسي، مشددا على ضرورة الالتزام بنتائج مؤتمر برلين«.

وأعرب بومبيو عن حرص الولايات المتحدة على تحقيق الاستقرار في ليبيا، وإنهاء معاناة شعبها، وأنها ستعمل على تحقيق ذلك.

ويأتي هذا في الوقت الذي تستمر فيه الانتهاكات التركية، للقرارات الدولية بحظر توريد السلاح إلى ليبيا وتجاوزها لإرادة المجتمع الدولي التي تبلورت في مخرجات مؤتمر برلين.

واتفق المشاركون في مؤتمر برلين الذي عقد في العاصمة الألمانية في يناير/كانون الثاني الماضي، في البيان الختامي للقمة، الذي وقّعت عليه 16 دولة ومنظمة، على بذل جهود دولية لتعزيز مراقبة حظر تصدير السلاح، مطالبين بتسريح ونزع سلاح المليشيات وفرض عقوبات على الجهة التي تخرق الهدنة.

وطالب البيان الختامي بإصلاح قطاع الأمن في ليبيا، للعمل على قصر استخدام القوة على الدولة وحدها، واحترام القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، ومحاسبة كل من يتورط في شن هجمات على مدنيين أو القيام بأعمال خطف والقتل خارج إطار القانون.

وفي الشأن العراقي، قال بومبيو، تحدثت مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، ومن الواضح أنه بدأ في تنفيذ مطالب الشعب وتلبية احتياجاته والالتزام بالقضاء على الأزمة الاقتصادية القائمة.

المغامرة التركية

تقدم تركيا على مخاطرة قد تؤدي إلى تعميق تورطها في الصراع في ليبيا، خاصة بعد قرار إرسال قوات لدعم حكومة الوفاق في طرابلس، الأمر الذي سيمثل مرحلة جديدة من تدويل القتال هناك.

وزادت حدة الصراع في ليبيا في إبريل/ نيسان الماضي بعد بدء خليفة حفتر، الخصم الرئيسي لحكومة الوفاق، شن هجمات على العاصمة طرابلس فيما بدا أنه حرب بالوكالة وسط وجود عدد من الأطراف الخارجية التي تنتقي من بين أطراف الصراع في ليبيا من تدعمه لتحقيق طموحاتها الإقليمية.

وبذلك يمكن وصف ما يحدث في ليبيا بأنه صورة مصغرة من الكارثة الكبرى التي تشهدها سوريا، لكن من الواضح تماما أن هناك المزيد من فصول مسرحية أزمة ليبيا والدور الأكبر لتركيا فيها ستتكشف خلال الأشهر القليلة المقبلة.

وتمتلك الحكومة الموجودة في طرابلس ما لا يمتلكه خصومها لأنها معترف بها من قبل الأمم المتحدة. كما أن هناك حظرا لمبيعات السلاح مفروض على الطرفين (والذي يتم التغاضي عنه إلى حدٍ ما مع حكومة الوفاق) بهدف نزع فتيل الأزمة.

لكن الواقع يختلف إلى حدٍ ما مع ما أشرنا إليه من بساطة الموقف في ليبيا، إذ تحظى حكومة الوفاق بدعم قوى الغرب بينما يحصل حفتر على تمويل ضخم من الإمارات علاوة على مركبات مدرعة من الأردن والإمارات أيضا.

كما نشرت الإمارات طائرات بدون طيار صينية الصنع من طراز وينغ لونغ 2، والتي قال تقرير أممي إنها مسؤولة عن مقتل عدد كبير من المدنيين الذين راحوا ضحايا لهجمات شنها حفتر.

كما يحظى الجنرال الليبي المتقاعد بدعم مصر علاوة على مساعدات عسكرية مباشرة على الأرض من مقاولين عسكريين روسيين  »شبه رسميين«، ومرتزقة من السودان وتشاد، كما تفيد تقارير بأن القناصة الروس لهم أثر كبير على مسار الأحداث على جبهة القتال في ليبيا.

وترجح الولايات المتحدة أن قوات حفتر ربما تتلقى دعما من الدفاعات الجوية الروسية.

وتصر واشنطن على أن طائرة دون طيار أميركية أُسقطت بصواريخ روسية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وتشغل الولايات المتحدة هذه الطائرات في المجال الجوي الليبي لتوجيه ضربات إلى بقايا تنظيم الدولة هناك، وهو ما يلقي الضوء على القدر الكبير من التعقيد والفوضى الذي ينطوي عليه الموقف على الأرض في ليبيا في الوقت الذي تنفي فيه روسيا أن يكون لها دور فاعل في القتال هناك.

على كلٍ، تعتبر مأساة ليبيا قصة مألوفة بدأت منذ انضمام الولايات المتحدة إلى تحالف غربي لتنفيذ ضربة جوية قادتها بريطانيا وفرنسا لإسقاط الرئيس الليبي السابق معمر القذافي في 2011.

ونجحت جهود الأمم المتحدة، التي تزامنت مع استمرار الصراعات الأهلية في ليبيا، في التوصل إلى اتفاق أفرز حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، لكن قوات شرق ليبيا بقيادة خليفة حفتر رفضت الانضمام إلى ذلك الاتفاق.

وبغياب الجهود الدبلوماسية الحاسمة، تستمر الأزمة في ليبيا. وتبحث روسيا، التي رفضت إطاحة قوى الغرب بالقذافي، عن سبيل لاستعادة نفوذها في المنطقة عبر ليبيا. كما يعتبر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حفتر رجلا عسكريا قويا يقف في وجه الجماعات الإرهابية بإخلاص.

وبالطبع سوف تصر تركيا على أنها تتحرك من أجل دعم الحكومة المعترف بها دوليا.

وشعر الأتراك بالإحباط بسبب رغبة بعض حلفائهم في حلف شمال الأطلسي (ناتو) في محاولة الحصول على ما يريدونه في الاتجاهين.

إذ توطد فرنسا على سبيل المثال العلاقات مع الجنرال حفتر، فيما بالكاد اتبعت الولايات المتحدة بشأن الصراع خطاً لا لبس فيه.

لكن من الواضح أنّ نشاط الرئيس أردوغان له بعد استراتيجي أوسع.

وتعتبر تركيا ليبيا جزءاً من المناطق النائية الأوسع في شرق البحر المتوسط وبوابة اقتصادية مهمّة لأفريقيا. ولديها عدد قليل من الأصدقاء في المنطقة.

وأثار دعم تركيا للإخوان المسلمين معارضة شديدة من الحكومة العسكرية المصرية.

ودخلت العلاقات بين إسرائيل وتركيا ـ التي كانت جيدة يوما ما ـ في حالة من الجمود منذ زمن بعيد. وتفاقمت الخلافات طويلة الأمد مع اليونان، التي تحمل عضوية الناتو، بشأن قبرص بسبب قضايا الطاقة.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقّعت أنقرة اتفاقية تعيين الحدود البحرية مع سلطات طرابلس، ممّا يجعل المنطقة الاقتصادية الخاصة المزعومة في شرق البحر المتوسط من الأراضي التركية إلى حافة المنطقة التي تطالب بها ليبيا.

وهذه الادعاءات متنازع عليها على نطاق واسع. لكنّ الخطوة التركية ترسل إشارة إلى اللاعبين الآخرين في مجال الطاقة في المنطقة، إنه ما لم يتم ضمّ أنقرة إلى المعادلة، وصول خطوط أنابيب الغاز إلى أوروبا سيكون معقداً.

واعتبر المحللون ذلك بمثابة جهد مباشر لمواجهة إسرائيل ومصر واليونان وقبرص الذين أنشأوا منتدى غاز للشرق المتوسط.

وبالتأكيد، تعتبر العدوانية التركية المتزايدة في استكشاف النفط في المياه القبرصية والتي تتضمن طائرات بلا طيار مزودة بأسلحة لحماية سفن التنقيب، جزءاً من هذا النشاط الجديد.

وتهدّد المناورة التركية على ليبيا بإحداث أزمة أوسع في منطقة شرق المتوسط والتي بدورها يمكن أن تعقّد علاقات تركيا مع كل من موسكو وواشنطن وحلفاء الناتو الرئيسيين من ناحية أخرى. وستفاقم التوترات الإقليمية الحالية.

وتأمل تركيا في أن يضمن دورها العسكري في ليبيا على الأقل الجمود في القتال، ممّا يضمن أن يكون لأنقرة رأي في أي نتيجة نهائية.

(*) كاتب وباحث سياسي لبناني

العدد 106/تموز 2020