ما بعد أزمة كورونا: هل ستتغير آلية العمل؟

بيروت  ـ رنا خير الدين

في ظل السلوكيات الجديدة التي اكتسبها الأفراد خلال فترة الحجر الصحي التي دامت ثلاثة أشهر تقريباً والأنماط الحياتية الحديثة في اتباع قواعد السلامة العامة من خلال التباعد الاجتماعي والجسدي لا بد من التشديد أن الواقع من بعد كورونا ليس كما قبله، فالنمط الروتيني الذي اعتادت عليه المجتمعات في التعبير والتواصل والإجابة اختلف اختلافاً شديداً وأرسى مفاهيم لم يشهدها الناس من قبل، حتى أن التغيرات الأيديولوجية التي كانت تتطلّب أعواماً لتجديدها أخذت حيّزاً مغايراً خلال هذه الأشهر.

يطرح الفرد اليوم تساؤلات عديدة بعد فترة الحجر الصحي في كيفية العودة إلى حياته العادية ضمن قواعد السلامة العامة، وعن إمكانيته في النجاح وتقديم الأفضل في عمله واستكمال واجباته بشكل طبيعي، إضافةً إلى ذلك يتسأل الفرد عمّا اذا كان قادراً على مواجهة الصعوبات التي تنتظره بعد فترة الركود الاقتصادي التي طالت المؤسسات والإدارات وأثّرت بشكل مباشر على العاملين والموظفين وجميع القطاعات الاقتصادية والمهنية.

بعد صمت المؤسسات… عودة تدريجية للعمل

فرض الواقع الاقتصادي المتردّي عالمياً قراراً على الحكومات بضرورة مواجهة الجائحة بالطرق الأنسب لضمان الاستمرار من خلال إعادة الفتح التدريجي للمؤسسات والمحال والشركات مع الوضع في الحسبان خطرها ونتائجها، ومراعاة التباعد الجسدي والاجتماعي، رغم أن ظروف العمل تحت ضغوط الجائحة هي الأصعب على الإطلاق وتضع الموظف أمام رهان النجاح في ظلّ الأزمة.

هذا الأمر الذي انهال على الموظف وضعه أمام حالة استنثائية في كيفية التعاطي مع المسؤولية المتوجبة عليه وواجبه الأخلاقي في تنفيذ القرار إضافةً إلى الحفاظ على وضع المؤسسة العامل بها وحمايتها من خطر الإفلاس.

الموظف اليوم أمام اختبار صعب ما بين لقمة عيشه وخطر الإصابة وبين تحقيق أمن العمل واستمراريته، وهذا الاختبار يضع أمامه صعوبات نفسية واجتماعية تحتاج منه آلية صحيحة لاجتياز الأزمة، وذلك يتم عن طريق قواعد ومهارات عديدة عليه أن يضعها قيد التنفيذ، والعمل عليها يومياً.

  من هنا ولأهمية القيام بالواجبات الحياتية التي تسمح بتطوير الذات وتهذيب السلوك الفكر وإعادة النشاط الذهني والعملي والنفسي للأشخاص لا بدّ من توضيح الصورة العامة للعودة إلى العمل خلال هذه الأزمة التي أنشأت مفاهيم جديدة وأضفت نوعاً حديثاً لطرق الإنتاجية وتلبية الاحتياجات.

 »الحصاد« كان لها حديث مع لبنى صبّاح (Career coach & speaker) التي أوضحت الطرق الفعّالة لاستعادة حيوية العمل على الصعيد الفردي، وأشارت إلى الصفات التي اكتسبها الفرد خلال فترة الحجر الصحي وغيرها من مهارات التكيّف المهني والاجتماعي لاستعادة المكانة والحضور.

العودة إلى العمل هي مسألة وقت وعادة للتكيّف ومن الطبيعي أن هذه الأوضاع الاستثنائية التي استجدت طرحت مسائل عديدة تندرج في أهمية الحوار الاجتماعي بين الحكومات وأصحاب العمل والعمّال؛ لتعزيز قدرة أصحاب الأعمال على الصمود، ودعم جهود الحكومات، وتعزيز علاقات العمل؛ لضمان تطبيق التدابير المناسبة للوقاية من خطر انتقال العدوى في أماكن العمل. مع التنظيم الشامل لعملية العودة التدريجية بحسب طبيعة القطاع وظروف أماكن العمل، كما ترتبط أيضاً بتطور الجائحة، وبروتوكولات السلطات الحكومية المحلية.

صنّفت منظمة العمل العربية المهن بحسب حجم الخطورة للإصابة بفيروس كوفيد-19 لمساعدة أصحاب العمل والمؤسسات في القطاعات المختلفة في آلية مجرى العمل وزيادة الإنتاج في هذه الفترة حيث قسّمت المهن بحسب الخطورة إلى:

مهن ذات خطر تعرض عال جداً: العاملون في مجال الرعاية الصحية (مثل: الأطباء والممرضين وأطباء الأسنان والمسعفين والمساعدين وفنيي الطوارئ الطبية). موظفو الرعاية الصحية والمختبرات الذين يقومون بجمع العينات من المرضى المصابين أو المشتبه بإصابتهم.

مهن ذات خطر تعرض عالٍ: مقدمو الرعاية الصحية وموظفو الدعم الذين قد يدخلون غرف المرضى المصابين. عمّال النقل (سائقي سيارات الإسعاف المغلقة).

مهن ذات خطر تعرض متوسط: تشمل المهن التي تتطلّب تماساً مباشراً ومتكرراً مع الأشخاص المشتبه بإصابتهم بالمرض لمسافة أقل من متر (على سبيل المثال: البيع بالتجزئة).

مهن ذات التعرض الأقل للخطر (مع اتخاذ الحيطة والحذر): حيث لا يحتاج العاملون بهذه المهن التواصل المباشر مع الأشخاص المصابين أو المشتبه بإصابتهم بالمرض أو مخالطتهم في مسافة تقل عن متر واحد، ولديهم تماس مهني ضئيل جداً مع الجمهور والزملاء في العمل.

هذه العريضة التي نشرتها منظمة العمل العربية توضح بشكلٍ صريح لأصحاب المهن والمؤسسات كيفية تحديد مواعيد العمل والاجتماعات وتحديد أولويات الإنتاج وكيفية تحقيق الاستمرارية بأحسن صورة من خلال تحديد العاملين وساعات الدوام وكيفية التواصل المباشر مع الآخرين.

معيار العودة الآمنة إلى العمل

يُحدّد معيار العودة الآمنة إلى العمل من خلال إدراج توجيهات السياسة العامة تشمل القطاعات العامة والخاصة بالتنسيق بين الحكومات المحلية وأصحاب العمل والعمّال، إضافةً إلى إرشادات اليومية حول هذه المعايير ونشرها على أوسع نطاق، حتى يضمن للعاملين عودة آمنة حيث شدّدت منظمة العمل العالمية على ذلك من خلال مبادئ توجيهية بهذا الخصوص وأشارت  »ينبغي أن يشعر العمّال بالأمان في أماكن عملهم، سواء من المخاطر المرتبطة مباشرة بـ(كوفيد – 19)، أو المخاطر غير المباشرة، بما في ذلك القضايا النفسية والاجتماعية والمخاطر البيئية المتعلقة بالعمل بمرافق أو أماكن سيئة. كما ينبغي أن يكون للعاملين الحق في إخراج أنفسهم من أي حالة لديهم إزاءها مبرر معقول للاعتقاد بأنها تشكل خطراً وشيكاً وخطيراً على حياتهم أو صحتهم، وينبغي حمايتهم من أي عواقب لا مبرر لها«.

ارتباط الصحة بالإنتاج

لا بدّ من التعليق على العلاقة الطردية التي تجمع صحة الإنسان الجسمية والنفسية بالواقع الاجتماعي الذي يعيشه ضمن العمل وخلال تنظيم واجباته المهنية والإنتاجية، وأي خلل في إحدهما يؤثر على الإنتاج ككلّ والمؤسسة بشكل خاص، فلا يمكن عدم الاعتراف بأن كوفيد-19 قد رسّخت هذه العلاقة وأعطت لصحة الموظف أهمية كبيرة لناحية الإنتاجية، وعلى أي مؤسسة عاملة اليوم الأخذ بالاعتبار الصحة النفسية والسيكولوجية للموظفين وتأمين أجواء مريحة وأقل خطراً بعيدة عن التوتر والقلق لتحقيق أهداف المؤسسة الأساسية في زيادة الربح وتحقيق الإنتاجية.

كيف تستعيد حيوية العمل بعد كورونا؟

المدرّبة لبنى صبّاح أشارت إلى أن ثمة طرق ذاتية نابعة من داخل الفرد عليه إيجادها بنفسه وممارستها واستثمارها خلال الفترة التدريجية للعودة إلى العمل، واستخدام طاقته الإيجابية في أي واجب مهني أو عملي او تجاري يقوم به.

حيث حددت الطرق التي تساعد الفرد في التكيّف مع وضع عمله الجديد:

التأقلم مع التغيير: آن الآوان اليوم حتى يضع كلّ فرد أولوياته النفسية والسيكولوجية والمهنية ومهاراته ورغباته أمامه، وملائمة هذه المهارات مع التغيير الجديد الحاصل إن كان من ناحية ظروف العمل أو الضغوطات.

الإبداع والتواصل: هذه المهارات مطلوبة من كل موظف أو عامل يريد أن يحقق نجاح مغايراً عن قبل.

الذكاء وحلّ المشاكل: اليوم يعوم العالم مشاكل لا تعدّ ولا تحصى وتحتاج إلى حلول، منها المشاكل السياسية والاقتصادية والسيكولوجية. لذا عليه اكتشاف فكرة لحلّ مشكلة معينة في المجال التجاري أو الاقتصادي أو حتى الاجتماعي، أو أن يكون الفرد جزءاً من مجموعة التي تحلّ النزاعات والمشاكل.

الشغف: العمل بشغف، من خلال اكتشافه، وخلق الحماس وتحديد الأهداف.

تدريب الموظفين

من أبرز الخطط التي على أصحاب العمل وضعها في الحسبان خلال فترة العودة إلى العمل هي تدريب الموظفين على آلية محددة تضمن نجاح العمل ـ وتكون مخصصة لاستعادة الحركة وإدارة الأزمة بعد الكوارث. يُخصص فيها حلقات تدريبية بالاستعانة بأخصائيين، لتحديد مهام الموظف والمسؤولية القائمة بين الترابط المهني بينه وبين المؤسسة، والترابط الاجتماعي مع زملائه، وآليات العمل الأمنة التي تطرح مفهوم الراحة التي تزيد فعالية العمل وتخفف وطأة النتائج السلبية بعد الجائحة.

من هنا، لا بد من التمتّع بأكبر قدر من الأمل والاستفادة من هذه الجائحة على أنها تجربة قد فادت صحتنا النفسية والسيكولوجية على نحوٍ أفضل للتقدّم والاستمرارية.

العدد 106/تموز 2020