لبنان: سوء إدارة أزمة وانهيار مدوّي

سندريللا مرهج

اندلعت انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 الشعبية وأطاحت بحكومة الرئيس سعد الحريري كما دحرجت معها نفوذ شخصيات سياسية، وأسدلت الستارة على أحلام سياسية مستقبلية شخصية لبعض الذين تحكّموا بمفاصل السلطة. يكثر النقاش حول مدى تحقيق الثورة لأهدافها لا سيما بعدما تبين وجود جهات محلية ودولية تستغلّ انقضاض الشعب على النظام المحاصصي، الطائفي، لتُلبس الناس مطالب سياسية لم تكن بالأساس أسبابا موجبة لصرخة شعب يطالب

سندريللا مرهج

بالعيش بكرامة.

مكافحة الفساد حقٌ ووهمٌ

ينادي الجميع في لبنان بمكافحة الفساد كسلاح سياسي-قانوني للخروج من الأزمة القائمة والنهوض بالبلد.

في العام 2007 وقّع لبنان اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد كخطوة انخراط في منظومة دولية حقوقية تهدف الى  كسب ثقة المجتمع الدولي والجهات المانحة والمؤسسات المالية الدولية.

اليوم وبعد ثلاثة عشر سنة أقرّ المجلس النيابي قانون إنشاء  »الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد«.

الواقع، إنّ القوانين الجزائية المحلية بدأت بحدّ ذاتها تنذر بشلل القدرة الفعلية على مكافحة الفساد نتيجة للتناقضات والتباينات التي تتضمنها. على سبيل المثال لا الحصر ، مُنح للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد صلاحية  »التحقيق« في قضايا الفساد. وفقا لقانون أصول المحاكمات الجزائية المعدل فالتحقيق الأولي تقوم به الضابطة العدلية بإشراف النيابة العامة المختصة، أما  التحقيق الابتدائي فمن صلاحية قاضي التحقيق. كيف ستحقق الهيئة الوطنية؟ وبإشراف من؟

وأيضاً، على الصعيد الأمني، شهد لبنان ملفات قضائية فُتحت بعنوان  »الفساد القضائي« أو  »الفساد الإداري« وتبيّن الآتي:

ـ تنازع الأجهزة الأمنية اللبنانية  فيما بينها على الصلاحيات التحقيقية في قضايا الفساد ما ينذر بخطر تحول النظام الى نظام بوليسي، لا سيما بعد امتداد الصلاحية الأمنية عملياً الى عمق السلطة القضائية لأول مرة بتاريخ لبنان بعد الاستقلال.

ـ تشعّب الملفات الجزائية المتعلقة بالمال العام وتعدّد المراجع القضائية التي وضعت يدها على تلك الملفات ما يشير الى تفريغ القضايا من مضمونها بحكم الإجراءات التي لا بد انها ستطول وتتضارب.

في المفهوم التنموي البنّاء  المستدام ، إنّ مكافحة الفساد لا بد وان تُبنى على استراتيجية وطنية مستدامة لا ترتكز فقط على المحاسبة لا بل تتضمن رؤى وقائية وإصلاحية ورقابية لقطع الطريق على كل مظاهر الفساد في القطاع العام والخاص.

في لبنان،  وضعت طروحات للأحزاب  والحكومات والمجتمع المدني، ولكنّ الاستراتيجية الوطنية الطويلة الأمد والملزمة في قضية مكافحة الفساد غائبة رغم اعتراف الجميع بانها حق وبات الشعب يقتنع انها وهمٌ. طالب الناس باستعادة الأموال المنهوبة وأَمِلوا بانقاذ المالية العامة ولكنهم لقَوا انهياراً لسعر صرف الليرة اللبنانية واجراءات مصرفية وضعت اليد على جنى عمرهم وقيّدت أعمالهم.

سعر صرف الدولار مقابل الليرة لغزٌ ورصاص

قد يكون لبنان الدولة الوحيدة في العالم التي يُطبّق فيها خمسة أسعار لصرف الدولار  مقابل العملة الوطنية. لغزٌ لم تستطع حكومة الرئيس حسان دياب التي تحمل لواء الاستقلالية وإنقاذ الاقتصاد من فكّ رموزه. سعران رسميان في المصارف : 1515  و3000 سعر السوق. سعر رسمي للصرافين وآخر للسوق السوداء يتبدل كل خمسة دقائق ، سعر للتحويلات السريعة يتحدد يوميًا .

الحقيقة في الاقتصاد وخارج كونتوارات المصارف، هي التالية: انهارت الليرة اللبنانية ، غلاء المعيشة ينذر بثورة جياع لا تحمد عقباها، أسعار المواد الغذائية ارتفعت بشكل جنوني لثلاثة وأربعة أضعاف، الدولار يُفقد في السوق، سعر صرف الدولار لامس حتى كتابة هذه السطور في السوق السوداء 7000 ليرة، أقفلت فنادق ومطاعم ومؤسسات تجارية وتربوية ومكاتب مهن حرّة ابوابها نهائيا، صُرف مستخدمون والبطالة تستشري دون أفق للهجرة.

اتُهم صيارفة بالتلاعب بسعر الصرف، فتم توقيفهم.

اتُّهم حاكم مصرف لبنان بالتلاعب بقيمة العملة ، فتم اعلان حملة شعبية عليه، اتهم فريق  سياسي اخر بتهريب الدولار الى دول اخرى ..وهكذا دواليك لا شيء فاعل  سوى الاتهامات ، فبقي سعر صرف الدولار لغزا ولكنه حتما رصاص يُطلق ضمن حرب اقتصادية واجتماعية الهدف منها الإطاحة بالسلم الأهلي والمجتمعي اللبناني لاهداف غير واضحة المعالم بعد، علمًا ان ما يحصل من ضغوطات اقتصادية ومالية ونقدية ينذر بالتحضير الدولي لوصاية ما على لبنان.

قدّمت حكومة الرئيس حسان دياب خطة اقتصادية لتكون منطلق مفاوضات مع صندوق النقد الدولي . لم تحظَ هذه الخطة بموافقة وثني جميع اطياف السلطة وكذلك المجتمع المدني والأحزاب المعارضة خاصة بعدما تبين فيها انعدام الدقة في بعض الأرقام المطروحة وتباينها مع الأرقام التي قدمها مصرف لبنان. ما زالت المباحثات الثنائية بين الحكومة ووفد الصندوق قائمة ولكن دون تقدّم ملموس.

يتضح من الأفق الإقليمي والدولي، ان الحكومة الحالية لا تحظى بالدعم الكافي لبنيان قدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية والأزمة الاجتماعية المتفاقمة. فحرب الدولار  في لبنان رصاص مُحكم يصيب الشعب والسلطة عشوائياً، فالإفلاس عام وخاص.

مع هذه المشهدية القاتمة للانهيار الحاصل في لبنان، تستمر الاحتجاجات المنتفضة على الواقع المعيشي الأليم . عادت الأصوات تنادي باستقالة الحكومة، ولكن الاحتجاجات الشعبية تجنح للدموية والعنف والتخريب والتحريض الطائفي بذور الفتنة المزروعة في كل المناطق اللبنانية    تنبت واثبتت التحقيقات ان تمويلا خارجيا يغزي بعض المجموعات المشاغبة لأجندات تخريبية تستهدف السلم الأهلي، الاستقرار المجتمعي ، الجيش اللبناني ، المقاومة ، الليرة اللبنانية ، القطاع المصرفي ، القطاع السياحي ، العيش المشترك ،القطاعات المنتجة . الهدف هو شلً  البلد كلياً.

واضحٌ أن النهوض من القاع الذي وصل اليه لبنان بات مستحيلا دون وساطة خارجية وقرار دولي.

صحيح ان التسوية الداخلية أوصلت الرئيس ميشال عون الى سدّة الرئاسة، لكنّ الإنقاذ الوطني لن يتم دون تسوية خارجية. العيون تتجه الى ما ستؤول اليه العلاقات الإيرانية-الاميركية في المرحلة القادمة؛ مع ما لذلك من انعكاسات على مدى فاعلية قانون قيصر الاميركي على لبنان من جهة والموقف السعودي المؤثر في الوضع اللبناني من جهة اخرى .

بالمقلب الآخر أعلنت روسيا استعدادها الجديد للتفاوض مع الولايات المتحدة بخصوص الوضع في سوريا وطبعاً ان انعكاس مقررات هذا التفاوض تطال لبنان من بوابة استراتيجيته الدفاعية.

أما في غياب اي تسوية سياسية دولية، تركيا بقيادة الرئيس اردوغان تتقدم باتجاه دول عربية عدة كان آخرها ليبيا. المصالح التركية مع لبنان تتكشّف يوما بعد يوم، فما هو أثر الانقسام السنّي في لبنان على استقرار وانقاذ البلد ؟  وما هو دور الخلاف السعودي-القطري-التركي على الأوضاع المتأزمة في لبنان؟

و كأنّ قدر الشعب اللبناني وفي كل ّ عقد من الزمن أن يكافح ويناضل في سبيل العيش الكريم تحت وابل أنواع حروب ضروس.سرقوا  ونهبوا من الوطن كل شيء حتى بات الدين العام يناهز الـ 100 مليار دولار . لم يبق للشعب المنهوب سوى صوته ليطالب بحقوقه ، عسى ألّا يسلبوه.

العدد 106/تموز 2020