حوار بغداد واشنطن.. فرصة المكاسب لشعب العراق

د. ماجد السامرائي

رغم إن حوار واشنطن بغداد ليس حاجة ملحة للأميركان بقدر حاجة العراق إليه خصوصاً في ظل حكومة الكاظمي الجديدة التي لم تتبلور اتجاهاتها الحقيقية في علاقاتها الإقليمية والدولية بعد، والسمعة الشخصية العامة حول مصطفى الكاظمي كرئيس للوزراء ليست كافية بعد أسوأ رئيس وزراء بعد عام 2003 هو عادل عبد المهدي الذي أخرج من وظيفته بضغط الانتفاضة الشبابية.

إذا ما تجاوزنا حقيقة إن النظام القائم في بغداد هو نتاج احتلال عسكري امريكي ظالم وغير شرعي اعتمد اكذوبة أسلحة الدمار الشامل التي سوقها عملاء عراقيون مرتزقة تحت عنوان معارضة سياسية ضد النظام السابق. هذا النظام أصبحت لديه حكومات عبر الانتخابات المعروفة بالتزوير، لكنها فاوضت المحتل عام 2008 على جدولة وجود القوات الامريكية أفضت الى توقيع اتفاقيتين الأولى هي اتفاقية وضع القوات التي تعرف اختصارا باتفاقية SOFA وهي الاتفاقية التي حددت الاحكام والمتطلبات الرئيسية التي تنظم الوجود المؤقت للقوات الأميركية في العراق من تاريخ دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في 1 كانون الثاني/ يناير 2009 ولمدة ثلاث سنوات أي أنها انتهت رسميا مع الانسحاب الكامل لهذه القوات من جميع الأراضي والمياه والأجواء العراقية عام 2011. والثانية هي اتفاقية الإطار الاستراتيجي والتي تعرف اختصارا بـ SFA وتحدثت عن إقامة علاقات تعاون وصداقة طويلة الأمد بين البلدين شملت المجالات السياسية والدبلوماسية والدفاعية الأمنية والثقافية والاقتصاد والطاقة والصحة والبيئة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والقانون والقضاء. لكن هذه الاتفاقية لم تنفذ منذ توقيعها قبل اثنتي عشرة سنة الماضية، لسبب إن الأحزاب الشيعية المهيمنة على الحكم لم تكن راغبة في تطوير علاقات ذات أبعاد استراتيجية مع الجانب الأميركي كما لم تكن الإدارات الأميركية هي الأخرى  »حريصة« على هكذا علاقة استراتيجية، فلم تكن هناك حماسة من الجانب الأميركي أيضاً بعد عام 2010 في ظل ادارة الرئيس أوباما التي تبنت استراتيجية مغايرة للرئيس السابق بوش الإبن في العراق والمنطقة. أما في ظل الرئيس الحالي ترامب فإن استراتيجية الأمن القومي الأميركي 2017 2021 لا تحبذ الحضور في منطقة الشرق الأوسط عموما إلا من خلال منع تحولها الى ملاذات آمنة للإرهابيين، أو سيطرة قوة معادية للولايات المتحدة على الحكم، ما عدا تركيزها على الخطر الإيراني والإشارة الوحيدة إلى العراق في هذه الاستراتيجية وردت في الحرص على  » تعزيز الاستراتيجية الطويلة الأمد مع العراق كدولة مستقلة«.

الدافع الرئيسي لطلب واشنطن من بغداد إجراء حوار معمق يتناول العلاقات بمختلف فعالياتها هو حادثة مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد في يناير الماضية ودعوة البرلمانيين  »شيعة إيران« لإخراج القوات الأميركية من العراق حيث قاطع كل من السنة والأكراد الجلسة البرلمانية التي مررت هذا القرار الذي لا يعتبر نافذاً إلا بعد إلغاء الاتفاقية من قبل حكومة منتخبة وليس حكومة تصريف أعمال كالتي كانت خلال شهر ديسمبر من العام الماضي.

لا يمكن الحديث عن توازن في القوة السياسية والديبلوماسية ما بين الجانبين الأميركي والعراقي في الوقت الحاضر بسبب ضعف النظام القائم، وعلى الصعيد التقني الفني فقد غيّب جميع خبراء المفاوضات ودهاة الديبلوماسية العراقية، ومن جاء الى حقل الخارجية مجموعة من الموالين للأحزاب لا يمتلكون الحدود الدنيا من القدرات. ما يشغل القوى الموالية لطهران هو التنفيذ الأعمى للرغبة الإيرانية بإخراج القوات الأميركية من العراق باعتقاد واهم أن هذه الورقة ستؤذي واشنطن وأصدقاءها في العراق وعرقلة قدرات رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي المتوقعة بكسر بعض قيود عزل العراق وتعطيل جزء من مفاعيل نهب خيراته. ولهذا سارعت طهران ببعض الخطوات على هامش حوار بغداد واشنطن في مقدمتها الحفاظ على مصالحها في استمرار بيع الطاقة للعراق، فأوفدت وزير طاقتها الى بغداد أوائل حزيران وقبيل عقد جلسة الحوار الأولى ووقع اتفاقية مع بغداد لمدة عامين وليس عاماً واحداً واستلم مبلغ 400 مليون دولار رغم ما تعانيه الخزينة العراقية من مشاكل جدّية. وواضح إن واشنطن لا تريد توريط الحكومة الجديدة بملف شائك مثل الكهرباء لأن قطع الغاز الإيراني دون بديل يعني فقدان نحو ربع الطاقة الكهربائية ما قد يشكّل ضغطاً كبيراً على حكومة الكاظمي في بداية عملها..كما زار إسماعيل قاآني خليفة قاسم سليماني بغداد بذات الفترة وتسرب بأنها تمت لأول مرة بتأشيرة دخول رسمية وكأن ذلك حدثاً غريباً وليس حالة تقليدية بين الدول. وقيل إنه أعطى تعليماته لقيادات الحشد الشعبي في العراق لإعلان فك ارتباطات فصائلها بالأنشطة السياسية وهذا ما تم فعلاً لتوجيه رسالة تطمين للمفاوض الأميركي قبل بدء الحوار الى جانب تصعيد الحملة الإعلامية لإخراج القوات الأميركية من العراق.

 للولايات المتحدة الأميركية كدولة عظمى خاضت حروباً عالمية وإقليمية كثيرة سياقات رصينة في التفاوض مع الآخرين ومقدرة ديبلوماسية في انتزاع المكاسب من الأصدقاء والأعداء، تحتفظ في أدراج مكاتبها في الخارجية والبنتاغون والمخابرات ملفات هائلة تتدرج من معلومات الدول الى متابعة الأشخاص الكبار والصغار ومن بينهم عملاءها الذين خرجوا عن طاعتها وذهبوا الى أولياء نعمة آخرين.

الإدارة الأميركية لديها ملفاً كاملاً وواضحاً لتاريخ وحاضر ومستقبل العلاقة مع بغداد، وهناك بدائل لهدف إخراج قواتها من العراق إذا ما تم الإصرار عليه بضغط من طهران من بينها إن الأكراد سيحتفظون بالقواعد الأميركية ولا تستطيع الأحزاب ببغداد إكراههم على قرار يتعارض مع أمنهم الكردي.

وقد استبق مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر الاجتماعات بتأكيده على أن الحوار الاستراتيجي سيرسم مستقبل علاقة ووجود القوات الأميركية في العراق مصيفاً الى أن  »هذا الحوار سيسمح لنا بمواجهة القادة العراقيين بخيار صارم إذا اختار العراقيون التصرف كدولة ذات سيادة فإن العلاقات الثنائية ستستمر في جلب مزايا كبيرة للعراق وإذا لم يتخذوا هذا الخيار لن نتمكن من الحفاظ على التزامنا أو وجودنا في العراق«. مؤكدا رغبة واشنطن ببناء شراكة مع العراق ليس فقط في قطاع الأمن ولكن أيضاً سياسياً واقتصاديا. كما نشطت مراكز البحوث الأميركية العراقية لتقديم استشاراتها ووصاياها لإدارة ترامب خصوصاً في ملف مخاطر المليشيات المسلحة الموالية لطهران في العراق وهي من بين ما يطرحه الجانب الأميركي على الجانب العراقي وما تركه تصاعد النشاطات التخريبية من آثار على صعيد الأمن الاجتماعي والوطني العراقي وعلى المصالح الأميركية وأصدقائها في العراق والمنطقة. وقدم مايكل نايتس الباحث بمعهد واشنطن مع زملاء له خارطة طريق للإدارة الأميركية أكدت على ضرورة تنفيذ سياسة الاحتواء وعزل المليشيات الموالية لإيران عن تلك الموالية لمرجعية السيستاني التي فصلت نفسها عنها، في رؤية معقولة ترى بأن مصطفى الكاظمي لن يتمكن من مواجهة تلك الفصائل إلا عبر احتوائها.

المفاوضون من الفنيين العراقيين قد تكون لديهم معرفة جزئية سياحية بأميركا لكنهم غير خبراء بالعقل السياسي الأميركي، فالأميركان ليست لديهم عقدة من التفاوض مع الجانب العراقي بل هم الذين دعوا الى ذلك، لأنهم من أنتج هذا النظام وجلب زعماءه بحماية ورعاية المخابرات الأميركية، ويبدو إن في حقائبهم الكثير من الحقائق والعروض التي هي في صالح شعب العراق ومستقبله في مجالات المال والصحة والتعليم والتكنولوجيا. الأميركان تفاوضوا ويتفاوضون مع طالبان أفغانستان الآباء الأوائل للقاعدة ولو استطاعت فلول داعش لا سمح الله السيطرة على العراق لتفاوضوا معه أيضاً.

 ينظر كثيرون في العاصمة الأميركية إلى إعادة تقييم العلاقات الأميركية  العراقية باعتبارها تأخرت كثيراً. فقد مضى أكثر من عقد منذ أن وافق البلدان على الاتفاقية الخاصة بوضعية القوات الأميركية والاتفاقية الإستراتيجية الإطارية. غير أن زخم الحوار الإستراتيجي الجديد ينبع على ما يبدو من إحساس متنام في واشنطن بنفاد الصبر. فقد تضررت العلاقات كثيراً خلال الأشهر الماضية وشعرت الإدارة الأميركية بأن الحكومات السابقة غير قادرة على تحقيق مطالبها بالحفاظ على سيادة العراق الوطنية من النفوذ الإيراني المتنامي.

الاغراءات الأميركية للعراقيين كثيرة مثلما كانت عليه منذ عام 2003 ، حيث تقول الاخبار بأن الرئيس ترامب يسعى لصرف حوالي مبلغ 600 مليون دولار لعمليات تدريب وتجهيز القوات العراقية هذا العام بالإضافة إلى تعزيز مساعدة عمليات مكافحة الإرهاب العراقية من حيث اللوجستيات والاستخبارات والقوات الجوية القتالية. وكذلك هناك مبلغ (حسب التقارير) يقارب أكثر من 120 مليون دولار لدعم الاقتصاد العراقي وبرامج أخرى

في المقابل سيستخدم الأميركيون كل الأوراق للضغط على العراقيين، وقد يلوحون بالعقوبات أيضاً وفرض عزلة على العراق بحال أصرّ المسؤولون العراقيون على مجاراة الرغبة الإيرانية في حوارهم مع الأميركيين.

فقد أوردت التقارير إن واشنطن ستطبق قانوناً عالمياً أصدرته في السادس من يناير الماضي يسمى (قانون ماغنتسكي) العالمي لحقوق الإنسان والمساءلة وفرض حظر على كل السياسيين الذين ترى واشنطن أنهم متهمون بتلك الانتهاكات واستهدف شخصيات مهمة خلال الفترة الماضية ووضعهم على اللائحة السوداء بدعوى أنهم استهدفوا أميركيين خلال الفترات الماضية. وهذا القانون وفق خبراء سوف يتفاعل مع القوانين والإجراءات التي صدرت فيما بعد ليستهدف من تلطخت أيديهم بقتل المتظاهرين. وإن واشنطن حصلت على موافقات شبه رسمية من قبل مجلس الأمن للتحرك عندما ناقش التقرير الأخير لممثلة الأمم المتحدة لدى العراق التي انتقدت الإجراءات العراقية.

إنّ الأميركيين  »يريدون من الحوار بالدرجة الأساس أن يضعوا خريطة طريق عامة يلزمون العراق بها في تعامله مع الولايات المتحدة، ومع دول الإقليم، وتحديداً إيران والفصائل المسلحة القريبة منها، فضلاً عن ملفات الوجود العسكري الأميركي، والدعم المقدّم للعراق أمنياً واقتصادياً، وضمانات الانتقال الديمقراطي للسلطة كل أربع سنوات، ومسألة الدولة المدنية وحرية التعبير والرأي«.

يجلس العراقيون والأميركان على طاولة الحوار في ظرف يحتاج فيه العراق الى الولايات المتحدة في جميع الميادين، فإلى أي مدى سيتحرر الخبراء المفاوضون العراقيون من الهيمنة السياسية للأحزاب والمليشيات في مسار تلك المفاوضات في ظل هدف إيراني هو طلب إخراج القوات الأميركية من العراق، في حين إن الحوار ينبغي أن يكون شاملاً ومستنداً على قواعد صلبة من الرؤية الاستراتيجية العراقية وحاجة البلد الى المعاونة الأميركية في مختلف الميادين.

في الجولة الفعلية اللاحقة والمتوقع لها خلال الشهرين المقبلين والتي يتوقع أن تكون بمستوى ديبلوماسي أعلى فلا يتوقع للوجوه السياسية الحقيقية أن تحضر وتواجه الأميركان على طاولة مفاوضات مباشرة، فهؤلاء بين أيديهم ملكية مزوّرة، وهم سراق العراق وباعوه مرة للأميركان ومرة أخرى للإيرانيين، أما من يمتلكون العراق وأهله الحقيقيون فهم في مكان آخر خارج طاولة حوار الإذعان، هم في ساحات العز والكرامة قدموا الدماء من أجل رفعة بلدهم.

وكلاء إيران يحاولون حشر رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي في زاوية ماكرة بتخييره ما بين الولاء لأميركا أو لإيران وليس التعبير عن الولاء للعراق الحقيقي وشعبه الثائر ضدهم، وإذا ما تأمل جيداً ونظر الى العمق الهائل لهذا الشعب فيمكنه اختياره دون خوف.

حوار بغداد واشنطن فرصة حقيقية لانتزاع مكاسب حقيقية لشعب العراق.

العدد 106/تموز 2020