لبنان وقانون قيصر- مفارقات… ومواجهات

معن بشور

من مفارقات هذه الأيام الحبلى بكل أنواع التناقضات والصراعات هو إصرار الإدارة الأمريكية، وهي التي تواجه ما تواجهه من أزمات على كل الصعد، وفي كل المجالات، على الضغط على دول العالم وشعوبه كافة لتطبيق قانون «قيصر» الذي أقره الكونغرس الأمريكي في أواخر العام الفائت. والذي يهدف الى احكام الحصار على سورية وشعبها ودولتها، بذريعة حماية المدنيين في هذا البلد المعروف باستعصائه على الاملاءات الاستعمارية والمشاريع الصهيونية منذ أن أصبح دولة مستقلة….

 أول هذه المفارقات هو أن الإدارة الأمريكية التي ضغطت منذ قيام الكيان الصهيوني قبل 73 عاماً، وما تزال على الدول العربية لإلغاء كل قوانين ومكاتب المقاطعة لهذا الكيان الذي لا ينفك عن ارتكاب المجازر والجرائم بحق الفلسطينيين وأشقائهم العرب، بحجة عدم الخلط بين الاقتصاد والسياسة، هي نفسها الإدارة، وإن اختلفت أسماء الرؤساء، التي تضغط اليوم على دول المنطقة والعالم للمشاركة في الحصار الشامل على سورية بذرائع متعددة عرفنا مثلها يوم حصار العراق تمهيداً لاحتلاله، ويوم محاصرة مصر، وكوبا، وايران، وفنزويلا، وكوريا الشمالية، والصين، وروسيا والتي كان شعوب تلك البلدان، قبل حكامها تدفع الثمن دون أن ننسى التصريح الشهير لوزيرة الخارجية الأمريكية مادلين اولبرايت حين سئلت هل يستحق الحصار على العراق مقتل مليون طفل عراقي، فأجابت نعم يستحق…

وثاني هذه المفارقات ان لبنان الذي يسعى الى الخروج من نفق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والصحية الخانقة التي يمر بها، بات مطلوباً منه أن يغلق كل ابوب التعاون مع سورية وهو الذي يدرك ان طوق النجاة له يتمثل ببناء اقتصاد منتج، كما جاء في الخطة الاقتصادية لحكومته العتيدة، وبات يدرك أيضاً ان المفتاح الى قيام هذا الاقتصاد المنتج يكمن في توفير سوق عربية وإقليمية لإنتاجه الزراعي والصناعي وللسياحة فيه، وأن البوابة الى ذلك هي سورية التي كانت وستبقى بوابة لبنان الى أمته العربية والأقليم.

وثالث هذه المفارقات أيضاً ان الإدارة الامريكية التي فشلت في فرض اتفاقية مشؤومة في17 أيار 1983، والتي رعاها جورج شولتز وزير خارجيتها في أواسط ثمانينات القرن الماضي، في محاولة لاستثمار نتائج حرب حزيران 1982، والتي فشلت في حماية حكم نشأ في ظل الأحتلال رغم البوارج الحربية التي أرسلت (نيوجرسي)، والطائرات التي اشتبكت في سما، لبنان مع الطائرات السورية عام 1983، وجنود المارينز الذين جاءوا ليفرضوا الأجندة الامريكية ـ الإسرائيلية على لبنان، والتي فشلت كذلك في «استيلاد شرق أوسط جديد» بعد حرب تموز/آب 2006 كما وعدت حينها وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس، تسعى اليوم وفي ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية متغيرة لغير صالحها أن تفرض على لبنان الذي رفض منذ الاستقلال أن يكون للاستعمار مقراً او ممراً الى اشقائه العرب. ان يكون خنجرا في خاصرة شقيقه التوأم في سورية التي تبقى علاقته فيها ممتدة في الماضي القريب والبعيد، والمؤثرة في حاضره السياسي والاجتماعي والاقتصادي والشريكة له في بناء مستقبل زاهر للبلدين، كما للأمة كلها.

والمفارقة الرابعة أن واشنطن العاجزة عن منع ناقلات نفط إيرانية من كسر الحصار على فنزويلا والعبور الى البحر الكاريبي أي الى «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة الامريكية تظن انها قادرة على ان تفرض حصاراً عربياً واقليمياً وعالميا على سورية العريقة في مواجهة كل أنواع الحضارات منذ خمسينات القرن الفائت حتى اليوم…

في ظل هذه المفارقات، وغيرها، فإن لبنان، شعباً وقوى سياسية ومجلساً نيابياً وحكومة، مدعو الى مواجهة كل المحاولات الامريكية الرامية الى فرض هذا القانون المريب على لبنان، لا من منطلق الروابط والعلاقات الأخوية والقومية التي تربط الشعبين اللبناني والسوري فقط وهي روابط وعلاقات مميزة، مكرسة باتفاقيات ناجمة عن أتفاق الطائف نفسه، بل حرصاً على مصلحة لبنان الأقتصادية لدرجة أن البعض يعتبر «قانون قيصر» تم إقراره ضد لبنان مثلما هو ضد سورية، وانه يأتي في اطار الحملة المتصاعدة ضد لبنان منذ فترة ليست بقصيرة وهي حملة مرتبطة بالرغبة الإسرائيلية في الانتقام من لبنان الذي استطاع بشعبه وجيشه ومقاومته، وبالتعاون مع قوى المقاومة في الأمة والاقليم، ان يلحق بالكيان الغاصب وبجيشها هزيمتين متتاليتين ما زالت تل أبيب تعاني من تداعياتهما حتى الآن…

إن الموقف من هذا القانون العنصري الإرهابي المعادي لحقوق الأنسان يتطلب من كل اللبنانيين أيّاً كانت مواقفهم واتجاهاتهم أن يتحدوا لمواجهته لأنه قانون يضيق الخناق على لبنان، كما على سورية ويلحق الأذى الكبير بالشعب السوري كله والذي لا أظن أن فريقاً سياسياَ لبنانياً مستعد للمجاهرة بمشاركته في هذا الأذى الذي يلحق بالبلدين معا…

ولو وقف القيمون على أمور هذا البلد لدراسة معمقة لطبيعة هذا القانون، وفي طبيعة الظروف والمتغيرات التي تمر بها المنطقة والعالم، لادركوا بكل بساطة أن هذا القانون الأحادي الصادر عن دولة واحدة ولا يتمتع بأي غطاء دولي، لا يتنافى مع الروابط الأخوية والقومية التي تجمع أبناء هذه الأمة فحسب، بل إنه لا يمتلك الحد الأدنى من مقومات النجاح… وإن مصيره لن يكون أفضل من مصير اتفاق 17 أيار، ولا من» شرق أوسط» كونداليزا رايس…

وحين أطلقنا في بداية التسعينات من القرن الفائت حملة شعبية عربية في لبنان والوطن العربي ضد الحصار على العراق، وشاركنا في حملات دولية ضد الحصار على العراق، كنا ندرك ان هذا الحصار لم يكن يستهدف نظاماً او حزباً او رئيساً فقط، بقدر ما كان يستهدف العراق كبلد عربي محوري في حياة الأمة، بل يستهدف الامة كلها من خلال تدمير العراق… وهذا ما أثبتته الايام

واليوم يحاول المستعمرون، والصهاينة من وراءهم، تكرار المشهد العراقي في سورية دون أن يدركوا ان ظروف عام 2020 هي مختلف كثيراً عن ظروف عام 2003، بل هي نقيضها، فالهيمنة الامريكية على العالم التي كان العراقيون في مقاومتهم للاحتلال أول من ألحق الهزيمة بها، باتت تهتز اليوم، بل إن التاَكل يحيط اليوم بكل جوانب القوة الامريكية داخل الولايات المتحدة وخارجها…

ومن هنا، فان كل من يسعى للترويج «لقانون قيصر» أياً كانت أسبابه، لا يتصرف على أساس لا أخلاقي، ولا أنساني، ولا وطني فحسب، بل أيضاً على أساس لا عقلاني…

فمن أجل لبنان قبل سورية، علينا رفض الاملاءات الامريكية بفرض «قانون قيصر» على سورية في لبنان وكل دول الجوار المتعاونة مع سورية وشعبها…

وحتى من منطق النأي بالنفس الذي «يقدسه» بعض السياسيين، فرضوخ لبنان للقانون الأمريكي هو خرق فاضح لهذا المنطق ذاته…

فلا تدخلوا لبنان في دوامة جديدة هو بغنى عنا.

العدد 106/تموز 2020