تاريخ طويل من الأوبئة… دروس اقتصادية لفهم ومواجهة أزمة كورونا

عمر مخفي

ما الذي يمكن لصانع القرار السياسي والاقتصادي أن يستفيده من دراسة تاريخ الأوبئة وهو يتعامل مع أزمة صحية واقتصادية من حجم تلك التي تعصف بالعالم اليوم بسبب فيروس كورونا المستجد؟ قد يبدو السؤال للوهلة الأولى خارج السياق لكون جائحة كورونا وتداعياتها غير مسبوقة، ولكون اقتصاد اليوم المعولم والمترابط لا يشبه في شيئ اقتصاديات الأزمنة الغابرة. لكن الواقع أن الوضع الحالي -على فداحته- لا يعد غير مسبوق في بعض مناحيه وإن كان حجمه عصيا على القياس حتى بعد مرور ستة أشهر من عمر الجائحة. فعلى مر التاريخ، كانت الأوبئة مرافقة لتطور المدن وازدهار التجارة بين الدول، بل إن هذا التطور والازدهار كانا بمثابة ناقلين للأوبئة من خلال شبكات وطرق التجارة آنذاك. وكان لهذه الأوبئة دائما تأثير قوي على الاقتصاد حاولت دراسات كثيرة تبين توجهاته العامة واستنباط الدروس منه.

ولعل الدرس الأول الذي لم يفطن له كثيرون من قادة العالم، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هو أن ما قبل الجوائح الكبيرة غالبا ما لا يشبه ما بعدها. فلطالما ترافقت الأوبئة التي سجلتها ذاكرة البشر بقطيعة ما، إما في وسائل الإنتاج والقوى العاملة، أو تركيبة المجتمع وطبيعة العلاقات الطبقية فيه، بل وهوت بدول وامبراطوريات ومهدت الطريق لصعود أخرى.

درس ابن خلدون..

ولعل أبلغ ما يلخص الفرق بين ما قبل الجوائح وما بعدها ما أورده عبد الرحمن ابن خلدون في “ المقدمة» حين جمع في جملة بليغة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطاعون الأسود الذي ضرب أوروبا في القرن الرابع عشر الميلادي ولحق بأجزاء كبيرة من الغرب الإسلامي. يقول ابن خلدون “… إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المئة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تَحَيّف الأممَ، وذهب بأهلِ الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هَرَمِها وبلوغِ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها وفَلّ من حَدِّها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالُها، وانتقض عُمرانُ الأرض بانْتِقاض البشر، فخَرِبت الأمصارُ والمصانع، ودَرَسَت السّبُلُ والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضَعُفت الدولُ والقبائل، وتبدَّل الساكن. وكأني بالمشرق قد نزل به مثلُ ما نزل بالمغرب لكنْ على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسانُ الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة…»

ولذلك، تبدو محاولات تسريع الخطى للعودة بالحياة والاقتصاد إلى سابق عهدهما كقفزة في الفراغ، لأن تلك العودة غير مضمونة البتة. والبحث عن ربح الوقت لأسباب انتخابية أو سياسية من خلال تبني مخارج قصيرة المدى للأزمة تتجاهل آثارها العميقة والطويلة قد ينتج مفعولا عكسيا. فالأمر لا يتعلق بالعودة إلى الصفحة السابقة والبدء من جديد، وإنما بمراجعة الصفحة وتنقيحها وربما إعادة كتابتها.

داوني بالتي كانت هي الداء!

ويعزى هذا الخطأ أو سوء التقدير إلى التسرع في تبني وجهة نظر بعينها أفرزها النقاش الدائر في بعض الأوساط السياسية والاقتصادية عن حدود حماية الصحة العامة أمام حماية الاقتصاد؟ وتحذر وجهة النظر تلك من أن إجراءات حماية الصحة قد تؤثر على الاقتصاد بشكل أسوأ من تأثير الجائحة نفسها.

غير أن الرأي الغالب -لحسن الحظ- هو ذلك الذي لخصه صاحب مقولة “علم اقتصاد الفيروسات” virus economics الأمريكي أوستن كولسبي، أستاذ الاقتصاد بجامعة شيكاغو والمستشار الاقتصادي السابق في إدارة الرئيس باراك أوباما. يعتبر كولسبي أن “احتواء الفيروس ليس إجراء يخص الصحة العامة فحسب، وإنما هو قرار اقتصادي كذلك”. والمعادلة في نظره بسيطة وتقضي بأن “الصحة العامة تساوي تعافي الاقتصاد”، ومادامت الصحة العامة معتلة، فإن إقلاع الاقتصاد غير مرجح على الرغم من الحزم المالية الكبيرة التي تضخها الحكومات في شرايينه. ويرفض أصحاب هذا الرأي تسمية المساعدات المالية الحكومية ب”حزم تحفيز”، ويعتبرونها في أحسن الأحوال “حزم تخفيف”. لأن تحفيز الاقتصاد برأيهم لا يبدأ إلا بعد التحكم في الجائحة، أي أن التحكم في الداء هو أصل الدواء.

وهي خلاصة أكدتها دراسة كندية أجريت عام 2004 عن الآثار الاقتصادية للحجر الصحي أثناء موجة فيروس “سارز”، حيث وجدت أن المناطق التي تبنت الحجر بسرعة وفعالية كانت أسبق إلى التعافي الاقتصادي بعد انحسار الوباء.

وإلى نفس النتيجة توصل باحثون أمريكيون عكفوا على دراسة التأثيرات الاقتصادية للحمى الإسبانية التي قتلت بين 1918 و1920 ما بين 20 و100 مليون شخص. فقد وجدوا أن المدن الأمريكية التي فرضت الحجر الصحي وأوقفت عجلة الاقتصاد، نجحت في الإقلاع الاقتصادي أسرع من نظيراتها التي لم تفعل، وخلقت بعد انحسار الوباء عددا مضاعفا من الوظائف مقارنة مع المدن التي لم تتبن الحجر والإغلاق.

انكماش العرض والطلب معا

أما الدرس الآخر الذي ينتج من دراسة الأوبئة العالمية، فينصح بأخذ عامل الخوف بعين الاعتبار في خطط تجاوز الأزمة الاقتصادية. فخلال الأوبئة، يدفع الخوف الحكومات إلى توقيف دورة الإنتاج، وإغلاق الحدودها في وجه الطيران والسياح، وأمام البضائع أحيانا. كما يدفع المستهلكين إلى الحد من الإنفاق والميل للانتظار حتى اتضاح الرؤية. ويُنتج هذا الوضعُ انكماشا مزدوجا في العرض والطلب معا. ولا يتصور إعادة العرض إلى سابق عهده دون تبديد مخاوف المستهلك وإعادة الثقة إليه.

ويؤكد هدا الدرسَ نموذجان في سياق كورنا الحالي. الأول من الصين حيث استعاد النشاط الاقتصادي 90 في المئة من عافيته. لكن العشر المتبقي -وهو رقم ضخم يعادل ضعف الناتج الخام للمملكة العربية السعودية – يعكس تردد الصينيين في العودة إلى عاداتهم الاستهلاكية السابقة، خاصة فيما يتعلق بالسفر والسياحة، والتسوق والترفيه.

أما النموذج الثاني، فيأتينا من السويد التي سلكت حكومتها طريق “مناعة القطيع” ولم تفرض أي قيود على حركة الاقتصاد والمجتمع. لكن الأرقام تظهر أن نسبة تراجع الاستهلاك فيها (27.5) قريبة جدا من تلك المسجلة في الدول الاسكندنافية المجاورة (29) التي فرضت إجراءات صارمة للحجر الصحي والتباعد الاجتماعي. وهو ما يعني أن الخوف هزم قرار الحكومة وفرض سلطته على جانب الطلب من السوق.

سنوات عجاف قادمة

وتظهر الدراسات التاريخية للأوبئة أن الوقت رقم مهم في معادلة تعافي الاقتصاد. فقد وجد باحثون من جامعة كاليفورنيا درسوا تأثيرات الأوبئة التي خلفت أكثر من 100 ألف قتيل على مدى ثمانية قرون بدءا من الطاعون الأسود، مرورا بالحمى الإسبانية وصولا إلى إنفلونزا الطيور التي قتلت في 2009 أكثر من مئتي ألف شخص، وجدوا أن معاناة الاقتصاد من آثار الأوبئة قد يستمر حتى أربعين عاما، أي بين أربع وثماني مرات أكثر من أزمة مالية تقليدية كتلك التي هزت الاقتصاد العالمي في 2008.

ويُرجع الباحثون تأثر النمو الاقتصادي إلى عاملين اثنين: تقلص الكتلة النشطة في المجتمع (اليد العاملة) بسبب الوفيات وتراجع قاعدة الاستهلاك بسبب الميل نحو الادخار من جهة، وبقاء وسائل الإنتاج على حالها (الأراضي الفلاحية والمصانع ووحدات الإنتاج) من ناحية ثانية. وفي هذا السياق، تغيب الحاجة إلى استثمارات جديدة في البنيات التحتية للإنتاج. وهو ما يعد برأي الاقتصاديين أسوأ من النتائج الاقتصادية للحروب التي تدمر المدن والبنى التحتية وتفرض بالتالي إطلاق عمليات واسعة لإعادة الإعمار في وقت السلام.

الفيروس القادم..

ذات الدراسة توصلت إلى أن الأوبئة ساهمت تاريخيا في رفع الرواتب بسبب تراجع أعداد العاملين وارتفاع الطلب على الأيدي العاملة المتخصصة. لكن من الواضح أن سياق كورونا الحالي وما يرافقه من تحسن في الخدمات الطبية وسرعة في تبنى الطوارئ الصحية وانتشار واسع للخدمات الرقمية سيكون مغايرا تماما لهذه الخلاصة. فعدد القتلى على فداحته لن يؤثر في كتلة طالبي الوظائف الذين باتوا يعدون بعشرات الملايين. وهذا يعنى أن لكورونا دروسا خاصة به يجب استيعابها الآن للتعامل مع آثار الوباء القادم.

وأحد تلك الدروس قديم لكننا نعيد اكتشافه مع كل أزمة. وهو أن الأزمات تحيل الدول والحكومات إلى ماكينات أنانية قد تتنكر لكل المبادئ في سبيل حماية مواطنيها ومصالحها. فقد تعاملت عدة دول بمنطق “أنا ومن بعدي الطوفان” وفرضت الحظر على صادرات الأدوية والمعدات الطبية، ولجأت إلى شراء عقود حصرية مع شركات الدواء المنتجة للقاح المحتمل. بينما وجدت دول أخرى نفسها غير قادرة من التزود بحاياتها الطبية في سوق عالمية لم تعد فجأة حرة، واضطرت إلى تحمل كلف إضافية لتكييف بنياتها التحتية بما يتوافق وإنتاج ما تحتاجه من كمامات وسوائل معقمة وغيرها.

وفي هذا دعوة للتفكير في الجائحة القادمة لا محالة، وإعداد سيناريوهات لمواجهتها تتضمن تشجيع الأنشطة الاقتصادية التي تعزز الأمن الصحي. لأن درس كورونا الأوضح حتى الآن هو أن الاقتصاد السليم في المجتمع السليم.

العدد 106/تموز 2020