نافذة على الحياة.. عنصرية

سهير آل إبراهيم

اوقفتنا معلمة الرياضة والنشاط البدني بجوار بعضنا وانتظمنا لنشكل دائرة، نحن اطفال المرحلة الاولى في المدرسة الابتدائية، ثم اوعزت الينا ان نمسك أيادي بعضنا البعض لنكون حلقة مغلقة تدور حولها. أمسكتُ الكف التي امتدت الى يميني، وعندما نظرت صوب اليسار وجدت كفا داكنة السمرة ممدودة تنتظر الأخذ بكفي، فترددتُ وامتنعتُ عن الامساك بها أو حتى لمسها! نظرتُ الى وجه الفتاة صاحبة اليد، والتي لا أزال اذكر اسمها الكامل وابتسامتها والنظرة في عينيها التي كانت حينئذ تقول: هيا، خذي يدي لنبدأ اللعب، فما كان مني الا ان اخفيتُ ذراعي كله خلف ظهري!

لا ازال اذكر تلك اللحظة، رغم مرور اكثر من نصف قرن من الزمان، ورغم الوهن الذي اصاب الذاكرة فاسقطت، طوعا منها ورغما عني، بعض ما كانت تحمله مما كنت اتمنى الاحتفاظ به مدى العمر، بينما أمسَكَتْ بما اود نسيانه بقبضة من حديد!

لا بد من القول ان المعلمة حينها كلمتني واقنعتني بلطف ان الله خلق الجمال بألوان مختلفة، وان لا فرق بيني وبين تلك الفتاة الصغيرة، والتي اصبحت فيما بعد صديقتي المقربة. حقيقة لا ادري ما الذي جعلني وانا في ذلك السن الصغير أرفض انسانا آخر لمجرد اختلافه عني في لون البشرة، لكن المؤكد انه امر محزن ان يسلك طفل بريء ذلك السلوك. لا أشك ان رد فعلي ذاك كان مكتسبا من محيطي الذي كنت اعيش فيه، بشكل او بآخر.

يقول المختصون ان التمييز صفة غريزية في الانسان، كان لها دوراً مهماً في الحفاظ على الجنس البشري وبقائه واستمراره رغم المخاطر التي كانت تحيط بالانسان الأول. ذلك التمييز الذي يولد لدى الانسان  رد فعل آني سريع عند شعوره بالخطر. رغم مراحل التطور الكثيرة والشاسعة التي اجتازها الانسان ليصل الى ما هو عليه اليوم، الا ان بعض الناس اليوم، وربما الكثير منهم، ويا للأسف، لا تزال تلك الغريزة تحركهم وتملأ نفوسهم بكراهية المختلف ورفضه، بدون ان يشكل ذلك المختلف اي خطر على حياتهم!

تعرف موسوعة المعارف البريطانية العنصرية أو العرقية على انها أي فعل أو ممارسة أو ايمان يعكس نظرة عرقية الى العالم، انها ذلك الفكر الذي يقسم البشر الى كيانات تحددها خواص بايولوجية متشابهة بين افراد كل منها، تسمى تلك الكيانات أعراق، مفردها عرق. يفترض ذلك الفكر ان هناك ربطا سببيا بين الميزات الجسدية الموروثة وبين ميزات الشخصية والذكاء والقيم الأخلاقية وغيرها من الخواص السلوكية والثقافية، وان بعض تلك الأعراق تتفوق على غيرها بشكل طبيعي.

بعد مقتل المواطن الاميركي الاسود جورج فلويد على يد شرطي ابيض، واشتعال الاحتجاج في بعض الولايات الأميركية وبعض البلاد الاخرى، بدأ القيح العنصري ينضح على صفحات التواصل الاجتماعي، حيث قرأت الكثير من الآراء التي تدين الضحية وتبرر فعل الجاني. ولا اعني بالضحية هنا جورج فلويد فقط ولكن الكراهية كانت موجهة ضد اصحاب البشرة الغامقة جميعا! هناك من يبرر فعل الشرطي المجرم وافعال اخرى مشابهة عن طريق وصم الناس السود جميعا بالعنف والاجرام، وهناك من وصمهم بالغباء والكسل وانعدام الاخلاق الحميدة! لا أشك ان آراء اولئك المشبعين بالكراهية لا تستند على حقيقة تثبتها دراسات واحصائيات، فعندما يسأل احدهم عن نسبة المواطنين السود العاملين في وظائف تخدم المجتمع، عن نسبة المتعلمين منهم، عن عدد النساء والرجال منهم الذين يمتلكون ويديرون اعمالا توفر وظائفا لمواطنين آخرين، عن عدد العلماء والباحثين والطلبة المتفوقين منهم، ومقارنة ذلك بنسبة المجرمين والخارجين عن القانون بينهم، وأي فئة تشكل الاغلبية، لا اعتقد ان لديهم اجابة حيادية صحيحة.

كتب جوزيف هاركر، نائب رئيس تحرير صحيفة الغارديان البريطانية العريقة، ان باراك اوباما صار الشخص الأقوى على هذا الكوكب عندما أصبح رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، ومع ذلك لم يتمكن من ايقاف قتل المواطنين الاميركيين السود على أيدي أفراد الشرطة، ولم يتمكن من القضاء على التمييز المجحف ضدهم لانه ببساطة لم يكن السلطة الوحيدة في البلد، فهناك سلطة مجلس الشيوخ وسلطة الكونغرس اللتان تسودهما غالبية بيضاء!

كما يذكر هاركر ان المواطنين السود يتعرضون الى الايقاف العشوائي والتفتيش من قبل الشرطة بنسبة أكبر من المواطنين البيض، وهناك من يبرر ذلك بان مستوى الجريمة وخرق القانون مرتفع اكثر بين السود مما هو عليه بين البيض! يقول ان الاوروبيين استعبدوا الافارقة لقرون طويلة لاعتقادهم بأنهم بدائيون وغير مؤهلين لادارة أراضيهم وشؤون حياتهم، وانهم اغبياء وكسالى وغير ذلك الكثير من الصفات السلبية. ورغم ان زمان استعباد الافارقة قد ولى، او هكذا يقال، الا ان الفكر العنصري الذي ساد آنذاك ظل مستمرا الى يومنا هذا.

كنت في طريقي لدخول الطائرة المتوجهة من بلد غربي الى آخر مثله، بعد المرور بمراحل التفتيش المتعددة والمعتادة. رأيت المسافرين وقد اصطفوا بشكل منفرد بايعاز من نقطة تفتيش كانت على مدخل النفق المؤدي للطائرة. بدا لي ان التفتيش كان عشوائيا، اذ كان الموظفون في نقطة التفتيش يمررون عدة افراد بدون تفتيش ثم يوقفون شخصا لتفتيشه، وقد لاحظت بعد مرور عدد من المسافرين البيض ايقاف شخص أسمر البشرة. نظرت الى المسافرين المصطفين امامي وكانوا كلهم من البيض ففكرت ربما اكون أنا الشخص التالي الذي يتم تفتيشه، وهذا ما كان. مسحوا حقيبة يدي وباطن حذائي بقطع من نسيج ما، ادخلت مباشرة الى جهاز صغير ليعلن براءتي لا ادري من ماذا. ربما كان اختياري وذلك الرجل الاسمر للتفتيش مبنيا على احصائيات مسبقة، ولكن يا ترى هل تم تعديل تلك الاحصائيات بعد ان اثبتت براءتنا؟ بالنسبة لي حينذاك، كنت انا وذلك الرجل الاسمر نحمل شهادة براءة موثقة منحنا اياها ذلك الجهاز وقطع النسيج داخله، اما من دخلوا الطائرة قبلنا بدون تفتيش فكانت براءتهم لا تتطلب اثباتاً او شهادة !

يعمد البعض الى الحكم على مجموعة كبيرة من البشر على اساس سلوك فرد واحد منهم، أو مجموعة قليلة من الأفراد، وهذه مشكلة بلا شك. قال لي أستاذ الموسيقى الذي كان يدرس بناتي قبل سنوات طويلة، انني وعائلتي قد غيرنا الرأي الذي كان يحمله عن العرب والمسلمين، ذلك الرأي الذي تكون بعد ان خدعه شخص عربي مسلم في عملية بيع وشراء أدت الى خسارة مالية تكبدها الاستاذ، فصار بسبب ذلك يحتقر كل العرب والمسلمين ويعتبرهم جميعا مخادعين وسراق، ولكن التعامل معنا جعل رأيه ينقلب كليا نحو الأحسن!

حقيقة أخافني كلامه بدلا من أن يسعدني، إذ كيف نكون نحن كعائلة صغيرة، بما نحمل من حسنات وسيئات، المقياس الذي يتم على أساسه تقييم عشرات الملايين من العرب، وأكثر منهم من المسلمين! ولكن الا نفعل ذلك دوما؛ ننعت ابناء مدن بأكملها بالبخل أو السذاجة أو بالكرم والشجاعة، ومعظم تلك الآراء تكون مبنية على تجارب فردية، فتصبح بنظر البعض حقائقاً بفعل التكرار بدون تفكير وتمعن!

في بلادنا اشكال اخرى من العنصرية، بالاضافة الى تلك التي تستهدف من خُلق ببشرة غامقة اللون، فهناك العشائر والانساب التي تتم المفاضلة بين الناس على اساسها، مفاضلة تخلو من العدالة في الكثير من الاحيان. اصبحنا نرى بشراً يُرفعون الى مراتب الآلهة، فيتمتعون بعيش رغيد مفرط في الرفاهية، لا لسعي منهم أو جهد وانما بفضل اللقب الذي يحملونه فقط!

العدد 106/تموز 2020