من ذاكرة السينما-حرب الشاشة بين باريس وهوليوود

الأميركيون يضعون الترويج التجاري فوق الفن والأوروبيون يعكسون الآية!

ملبورن جاد الحاج

هل السينما فنّ أم استعراض فني؟ هل هي سلعة أم قيمة إبداعية؟ في رأي إنغمار بيرغمن ان  »السينما حلم والسينما موسيقى. وما من فن يعبر الادراك وصولا إلى الاحاسيس العميقة ومجاهل الروح مثل السينما«. لكن صموئيل غولدوين، احد مؤسسي شركة  »ميترو غولدوين مايير« يرى ان السينما وسيلة للترفيه والتسلية، ويقول متهكماً:  »من يريد تبليغ رسائل إلى العالم عليه بالويسترن يونيون«.

 المثال التالي تلخيص للتفاوت بين النظرتين: يبدأ الفيلم الهوليودي بلص يسطو على مصرف، والفيلم الاوروبي بأم

بوني وكلايد في صورة تذكارية

تهرع بطفلها إلى اقرب مستشفى. وينتهي الفيلم الاول بعراضة غزيرة من اطلاق النار والمطاردات السيارة ومصرع عدد غير جدير بالاهتمام من السابلة ورجال الشرطة. وينتهي الفيلم الثاني بعودة أب الطفل المريض إلى اسرته بعد غياب طويل.

من الطبيعي ان يعترض بعض المؤرخين أو النقاد على تلك المقاربة المبسطة. فالمنتجون المستقلون والمخرجون المتحررون من الوصفة الهوليودية ليسوا قلة هامشية في الولايات المتحدة. وفي مطلع ستينات القرن العشرين اجتمع ثلاثة وعشرون سينمائياً في نيويورك بقيادة الكاتب والسينمائي جوناس ميكاس واصدروا بياناً يرفض تدخل المنتجين والموزعين والمستثمرين في افلامهم. مما جاء في بيانهم :  »نحن مع الفن، لكن ليس على حساب الحياة. لا نريد التزييف والتلميع وتصوير افلام زهرية تغوي، بل نفضل الفجّ والحيّ، بلون الدم«.

في السنة نفسها حصد فيلم  »ظلال« لجون كاسافيتيس تقدير مهرجان كانّ وجائزة النقاد في مهرجان البندقية، مع انه فيلم قاتم جداً لا يتفادى الغموض، ولا يمكن اعتباره مريحاً أو مسلياً، لكن الاهتمام الأوروبي به انعكس ايجابياً على امبراطورية السينما الأميركية، وما لبثت هوليوود ان فتحت ابوابها لافلامٍ متمردة على وصفتها العتيدة، لكن طبعاً في حذر وارتياب واضحين. بديهي ان فتح الابواب لا يعني بالضرورة كسر الاعتاب. يكفي ان نعرف كم من الوقت والتردد سبق موافقة  »وورنر براذرز« على انتاج  »بوني آند كلايد« الشريط الُمعتبر اليوم معلماً في تاريخ السينما المعاصرة وقد اضيف إلى لائحة الروائع في مكتبة الكونغرس سنة 1992ــ مضت أربع سنوات من المماطلة والتسويف والتأجيل قبل ظهور الدخان الابيض من مداخن  »وورنر…« لتصويره!

 كتب سيناريو  »بوني آند كلايد« ناشئان في اولى محاولة لهما: روبرت بنتون وإدوارد نيومن، ارسلا المسودة إلى المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو فاحبها واعرب عن رغبته بتصوير الفيلم لكنه على غرار برتران تاـرنييه الذي

دستين هوفمن في الخرّيج

اعجب ايضاً بالسيناريو كان مرتبطاً بعقود سابقة. وبعد مماحكات طويلة رسا خيار الاخراج على آرثر بـن. غير ان وورنر كرهت رائعة بـن وعرضت  »بوني آند كلايد« في صالات جانبية مع الحد الادنى من الدعاية. الاعلام الأميركي ايضاً لم يكن رحيماً، بل جلد النقاد بوني وكلايد باعتبارهما لصين قاتلين لا يستحقان البطولة، وشاءت المصادفات ان ينبهر الجمهور الاوروبي بالفيلم، فباتت قبعة بوني ومنديلها المعقود حول عنقها وتنورتها الضيقة يعلوها زنار عريض، مصادر وحي لمصممي الازياء الاوروبيين، وسبباً لظهور طائفة من الفنانين والحرفيين والمتنمرين بالسليقة، طبعوا مسدساتِ وبنادق وسيارات الفيلم على الملابس، وافتتح بعضهم للبطلين حوانيت الوشم وشناشيل الخرز. على الضفة الأخرى للمحيط اصاب الحظ ثلاثة ممثلين ناشئين ظهروا للمرة الأولى في  »بوني آند كلايد«: جين هاكمان، مايكل بـولارد وإستيل بـارسون، تلقفتهم عقود هوليوود بلا رفة جفن. يعني اوروبا، وخصوصاً باريس، هي المهماز الذي يدفع فرس الفن إلى الامام، لا في أميركا وحدها بل في العالم كله!

 طبعاً، كل هذا لا يعني ان هوليوود باتت مسحورة بابطال خُرقاء، ونهايات مبتورة، ونساء بعيدات الشبه من مارلين مونرو وجاين مانسفيلد. نعم، حصلت اختراقات للوصفة … لكن شبابيك التذاكر بقيت تحتشد لجون واين وشارلتون هستون واليزابيث تايلور. وليس في الاجندة الاساسية لهوليوود ما يدعو إلى التغيير باتجاه الفن للفن، لأن هوليوود منشأة تجارية بالدرجة الاولى، تستثمر بناء على المفاهيم الترويجية المؤكدة، وبالتالي تعمل على ترسيخ تلك المفاهيم دفاعاً عن بضاعتها.

 سنة 1967 اراد مايك نيكولز تصوير  »الخرّيج« المستوحى من رواية لتشارلز ويب. وبعد فشل محاولاته مع هوليوود، اهمل المشروع، وصوّر لحساب  »وورنر«  »من فيكم يخاف فيرجينيا وولف«، فأحرز الفيلم نجاحاً كبيراً و15 مليون دولار ارباحاً صافية. حينئذ اخذ نيكولز بثأره واصاب بـ »الخرّيج« شهرة عالمية تجاوزت ضعف ما درّه  »فيرجينيا…« مع ذلك، بقي حذر هوليوود قائماً حيال كل سيناريو يفتقر إلى مطمئنات وصفتها العتيدة، وما زال الامر على حاله وصولاً إلى اليوم، فهوليوود تلعب ورقة السوق، لديها بضاعة رائجة بوصفة ثابتة تدافع عنها، لكنها لا تستطيع غلق ابوابها دائماً في وجه الجديد والمغاير.

  »اطلقتُ النار على جيسي جيمس« نموذج حاد عن مغايرة هوليوود بنجاح مفاجىء، صوّره صموئيل فولر سنة

لحظة مصرع جيسي جيمس

1949 وانتجه مغامر مستقل يدعى روبرت ليـپرت شاء قلب الوصفة الهوليودية رأساً على عقب، فبدل تمجيد السفاح واللص جيسي جيمس، عالج فولر القصة من وجهة نظر بوب فورد مطلق النار على جيسي من الخلف، مع انه الذراع اليمنى لجيسي ورفيقه الاثير. بديهي ان كسر الاسطورة غير مرحب به لدى الجمهور، أي جمهور. وصحيح ان بوب فورد لم يحصل على الجعالة المخصصة لمن يقتل جيسي جيمس، بل اصبح نكرة يتدحرج من فخ إلى فجوة إلى نهاية بائسة، لكن الفيلم حقق نجاحاً مفاجئاً وشجع منتجه على تمويل مخرج آخر يدعى روجر كورمن لتصوير ثمانية افلام مستوحاة من قصص إدغار ألن بـو لاقت رواجاً غير متوقع، خصوصاً  »إنهيار دارة أشِر« الذي اعتبر رسمياً وثيقة تاريخية وفنية في محفوظات مكتبة الكونغرس.

وورين بيتي وفاي دانواي في بوني ىند كلايد

 معركة السينما بين أميركا وفرنسا تعود إلى يوم ربيعي خفيف الظل من سنة 1893. في ذلك اليوم تقاطر عشرات الأميركيين إلى مركز العلوم والفنون في بروكلين لمشاهدة حدّاد يطرق المعدن امام إوارٍ مشتعل: هكذا قدم طوماس إديسون آلة الـ كينيتوفون التي تتوالى عبرها الصور الفوتوغرافية في تواتر يوحي بمشهد حيّ. يومها هتفت الاولايات المتحدة: إنها بداية السينما! ودافع الأميركيون بلا ملل عن اسبقيتهم في اختراع الفن السابع، علماً ان إديسون نفسه اضطر للسفر إلى باريس سنة 1888 لزيارة العالم الفرنسي جول ماري، والإطلاع منه على التقنيات البكر في مجال تحريك الصورة. وفي الفترة نفسها كان الفرنسي الآخر، لويس لوميير يقطع شوطاً متقدماً لتجهيز كاميرا وآلة عرض سينمائيتين. ابتكارات لوميير حوّلت بعض مقاهي باريس إلى صالات لعرض افلام صنعها كتاب وشعراء ومصورون، على رأسهم لوميير نفسه، فشاهد الجمهور اشرطة تعكس واقع حياتهم : عمال وعاملات يغادرون مصنعاً في نهاية يوم عادي، قطار يدرك محطته الاخيرة في مساء ماطر، فتى يتعلم ركوب دراجة هوائية وغيرها مشاهد خاطفة، منمشة الصورة، شكلت مواضيعها أساس التفاوت في النظر إلى السينما بين فرنسا وأميركا.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية وجدت فرنسا نفسها مفلسة ومُدينة للولايات المتحدة بثلاثة مليار دولار. جرت مداولات مضنية بين الطرفين، اجتمع على اثرها في باريس سنة 1946 وفدان يرأسهما وزيري خارجية البلدين ووقعا اتفاقية سُميت باسميهما  »بلوم – بايرنز« افضت إلى اعفاء فرنسا من ديونها ومنحها مليارين ونصف المليار دولار لتنفيذ خطتها التنموية. والثمن؟ توافقات تجارية جديدة على رأسها رفع الحظر عن الافلام الأميركية التي منعتها حكومة يشي خلال الحرب، إضافة إلى توسيع الـ  »كوتا« لافلام هوليوود على شاشات فرنسا. الا ان الامواج الرقيقة بين الشاطئين ما لبثت ان تعكرت في اقل من سنة. فالصالات الفرنسية عرضت 340 شريطاً أميركياً سنة 1947، بينما لم تنتج ستوديوهات باريس سوى اربعين فيلماً. وحصد الأميركيون 16 مليون دولار من السوق الفرنسية مقابل فرنكات معيبة للسينما المحلية. سياسيون ومنتجون وممثلون ومخرجون ومثقفون نزلوا في كانون الاول 1948 إلى شوارع باريس غاضبين، على رأسهم سيمون سينيوريه وجان ماريه وريمون بوسييه ولوي داكان، وطالبوا بالحد من عرض الافلام الأميركية الهابطة، واعادة النظر في اتفاقية  »بلوم – بايرنز«. وفي السنوات اللاحقة، تبلورت الرؤية الفرنسية للسينما عبر اعمال مارسيل كارنيه وروبير بريسون وجان رينوار وغيرهم. ومع تصاعد تلك الموجة بات بديهياً تخصيص فضاءات لها في أميركا عُرفت باسم  »صالات سينما الفن«، ابرزها صالة  »باريس« في نيويورك حيث عُرضت افلام غودار ولولوش ولوي مال وتارنييه. حاصله، الفن الحقيقي لا هوية له سوى الإبداع، وباريس عاصمة الابداع بلا ريب.

العدد 107/اب 2020