العراق: الدويلات المتمردة

معركة بين الدولة والميليشيات وتخوف من تدهور أمني في البلاد

محمد قواص (*)

شكلت عملية الاغتيال التي تعرض لها الباحث العراقي في الشؤون الأمنية هشام الهاشمي في 6 يوليو الماضي، صدمة لدى الرأي العام الداخلي وتخوفا من دخول العراق حقبة جديدة من العنف والحرب الأهلية الداخلية. جرت الجريمة بعد 8 أيام على قيام جهاز مكافحة الإرهاب بمداهمة أحد مراكز حزب الله العراقي واعتقال 13 من منتسبيه، وبعد صدور تهديدات من ميليشيات وقيادات فصائل متحالفة مع إيران تعكس غضبا من خطط رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لمكافحة الظواهر الميليشياوية في البلاد، بما في ذلك منع السلاح المتفلت والخارج عن سيطرة الدولة.

وتستهدف عملية الاغتيال، من خلال هشام الهاشمي، الحراك الشبابي الذي اندلع في العراق منذ أكتوبر الماضي والذي فاجأ الطبقة السياسية الحاكمة منذ سقوط بغداد عام 2003. وتستهدف الجريمة، وفق مراقبين، إسكات الأصوات المتكاثرة التي تنتقد السلوك الإيراني في العراق ونفوذها المتمدد من خلال ميليشيات عراقية تمتلك طهران قرارها الكامل. وتعبّر العملية عن قلق حقيقي لتيار إيران في العراق، والذي بات يشعر أن ظروفا تتدافع، سواء من خلال انقلاب الرأي العام المحلي، أو من خلال وصول الكاظمي إلى منصب رئاسة الوزراء، أو من خلال الموقف الإقليمي الدولي ضد إيران، لمحاصرة حراك الميليشيات الموالية لطهران والتي صالت وجالت منذ سقوط نظام صدام حسين في هذا البلد.

تحديات الكاظمي

وتتكدس الأسئلة حول المعطيات المحلية والإقليمية والدولية التي أوحت لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بإعلان حربه ضد السلاح خارج سلطة الدولة. والأمر ليس شأنا محليا تتعامل به الدولة مع الخارجين عن القانون كما في بلدان كثيرة، بل أن الحدث يقلب ستاتيكو بدا نهائيا بنيويا في طبيعة النظام السياسي العراقي منذ عام 2003. فلم تكن دولة نظام ما بعد صدام حسين إلا نتاجا للميليشيات ورعاتها، ولم تكن هذه الدولة في بغداد إلا صدى للدويلات المتعددة التي تنبت كالفطر وتمارس نفوذها علنا، سواء بواجهات فصائلية أو من خلال الاختراق الممنهج لمؤسسات الدولة السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية.

لم يسبق للدولة العراقية التي انتجها واقع ما بعد غزو عام 2003 أن تمردت على الأمر الواقع وفوضى السلاح. لا بل إن هذا الأمر الواقع هو من أملى يوميات كافة الحكومات المتعاقبة. وحتى حين كانت تنتفخ أورام التوتر بين الدولة والدويلات كانت التسويات، بما فيها البرلمانية والدستورية، تأتي لصالح الدويلات. وليس استسلام الدولة لفتوى إنشاء الحشد الشعبي وخضوع البرلمان لأمره الواقع وفرضه كمؤسسة شرعية من مؤسسات الدولة، إلا مثالا أخيراً على حاجة النظام السياسي في بغداد للركون للهامش للحفاظ على المتن.

حين تهافتت كافة الأحزاب العراقية، بما فيها تلك الدينية الموالية لإيران، على تكليف الكاظمي بتشكيل الحكومة، كان ذلك بشق النفس وبعد فشل محاولات سابقة لتكليف بدائل عنه. بيد أن التهافت في الشكل كان يرمي إلى محاصرة

اغتيال هشام الهاشمي: رسائل دموية متعددة الأهداف

رئيس الحكومة الجديد بإجماع مسبق يكبل يديه في ما ينوي الذهاب إليه. فمشكلة المتهافتين مع هذا الرجل أنه  »ابن الدولة« وهم يكرهون أن يكون هناك دولة لها أبناء وسلالات.

غارة بغداد

أن يقوم جهاز مكافحة الإرهاب العراقي بغارته الشهيرة ضد حزب الله العراقي، فذلك أن الجهاز، الذي لطالما عُرفت عنه أنشطته ضد تنظيم داعش دفاعاً عن العراق من حمى الإرهاب وشبكاته، يضرب بيد من حديد بأمر من الدولة العراقية ضد من يعتبره هدفا إرهابيا يهدد أمن العراق والعراقيين. في الأمر إعلان عن ولادة نمط انقلابي في قيادة البلاد فاجأ زعيم ميليشيا  »عصائب أهل الحق«، قيس الخزعلي، ودفعه لتذكير الدولة والحكومة ورئيسها بواجباتهم وحيز صلاحياتهم التي لا تنسحب، وفق اجتهاده، على

رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي: الحرب ضد الميليشيات

أنشطة الميليشيات  »المقاومة« في تنفيذ أجندة طهران والولي الفقيه في إيران.

في شكوى الزعيم الميليشياوي ما يعبر عن تظلم من  »خيانة« ارتكبها الكاظمي وحكومته ضد التركيبة التي تقوم عليها دولة العراق منذ 17 عاماً. وللحق أن للخزعلي الحق في ذهوله، ذلك أنه لطالما كانت بغداد صامتة عن، متواطئة مع، أنشطة الميليشيات في ضرب المنطقة الخضراء ومحيط السفارات الأجنبية والقواعد التي تتواجد داخلها قوات أميركية، ناهيك عن إطلاق التهديدات إلى السعودية ودول الخليج، بما في ذلك تلك العسكرية التي تطلق من حدود العراق صوب الجيران.

أن تضرب بغداد بيد من حديد لاستعادة هيبة الدولة دون غيرها والسيطرة على المنافذ وكافة الميادين السيادية، فتلك كارثة بالنسبة لإيران سيصعب أن تخضع لها.

لم تخطط طهران يوماً لتوطيد علاقاتها السياسية والاقتصادية مع الدولة العراقية وفق منهج روابط دولة لدولة. لا تجيد إيران ذلك وتمقت نمط العلاقات الحضارية السارية بين دول العالم والتي ينظمها القانون الدولي. تستثمر إيران في عالم الميليشيات، فهو عالمها ومجال صنعتها ومنطق بقائها، سواء في اليمن أو العراق أو سوريا أو لبنان بعد أن فشلت في اختراع ميليشيات لها في بلدان الخليج.

ستعمل إيران على تعطيل استعادة العراق لدولته (اغتيال الهاشمي وتهديدات الخزعلي تأتي في هذا الإطار)،وقد تذهب مذاهب دراماتيكية قصوى لردع طموحات الكاظمي وأحلامه. واضح أن دولة الولي الفقيه لم تعد تملك الشرعية والهيبة والإمكانات لتسويق قداسة  »رسالتها« حارسةً للكون بانتظار عودة المهدي المنتظر. تحطمت الأسطورة بأيد الحراكيين العراقيين في شوارع بلادهم، وباتت طهران تتأمل منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في اكتوبر الماضي،

زعيم  »عصائب أهل الحق« قيس الخزعلي: تحذير للكاظمي

نكستها العراقية، وتستنتج أن أورام وهنها العام الذي ينتفخ عاما بعد آخر (لا سيما بعد فقدانها لصفقتها النووية مع أوباما) باتت مكشوفة في العراق وتنهي فانتازيا أوهامها السابقة في احتلال أربع عواصم عربية. والحال أن تصدع نفوذ إيران في العراق، ولدى شيعته بالذات، نذير انهيار وِرشها العقائدية العليلة في تصدير الثورة منذ 1979، وبالتالي اندثار خامنئية تتجرع سما عراقيا هذه الأيام كان الخميني قد تجرعه من هذا البلد قبل عقود.

سجال الدولة واللا دولة

وما هو واضحج للعيان أن معركة كبرى تخوضها حكومة مصطفى الكاظمي لاستعادة دور ووظيفة الدولة العراقية وسيادتها. تصدع هذا الدور منذ سقوط بغداد عام 2003 لصالحِ غابهٍ من الدويلاتِ تحرسها عشرات من ميليشياتٍ مسلحة تعددت مسمياتها فيما مرجعيتها واحدة تطل من إيران. بكلمة أخرى ودون مواربة، من يخططُ لاسقاطِ حكم الميليشيات والسيطرة على سلاحها المتفلت في العراق، فهو يستهدف مباشرة نفوذ إيران في البلد. تعرف طهران ذلك ويعرف الكاظمي ذلك تماما. وربما يملك الرجل ما لا نعرفه من معطيات ويقرأُ في المشهد المحلي والإقليمي والدولي ما يتيح له في هذا التوقيت بالذات أن يمس محرما لم يجرؤ عليه السابقون عجزا أو خوفا أو تواطؤا. والواضح أن غارة جهاز مكافحة الإرهاب ضد أحدِ مراكز حزب الله العراقي واعتقالَ عددٍ من أفرادِ هذه الميليشيا، قد يكشف عن حرب بدأت بين الدولة واللادولة، وأن مآلات تلك الحربِ لصالحِ الدولة أو اللادولة ستشهد معاركَ متلاحقة قد تطول وتتعدد أوجهها. وبغض النظر عن حيثيات الإفراج عن المقبوض عليهم واستخفاف المفرج عنهم بالأمر وتحديهم للحدث، فإن البلد دخل مرحلة جديدة ترفع من مستوى المواجهة بين طهران وبغداد. إيران بوسائلها الميلشياوية وبغداد بجيشها وأجهزة أمنها وشرعية حكومتها. المواجهة معقدة صعبة بين البلد ودولته العميقة المخترقة من إيران، وقد لا تنتهي بحسم لهذا الطرفِ أو ذاك، لكنها ستؤسس ربما لتموضعات تدشن أفول العصر الميليشياوي الذي سيندثر حكما ولو بعد حين، ذلك أن الحكومةَ في بغداد قررت في العراق خوض معركة الدولة!

خلية المطار

ويقول سرمد البياتي، وهو باحث في الشؤون الأمنية والسياسية، أن الكاظمي أكد على موضوع هيبة الدولة ونزع الأسلحة غير الخاضعة لسلطة الحكومة والسيطرة على المنافذ الحدودية، معتبرا أن المسألة الأخيرة هي من أخطر المواضيع. ويضيف البياتي أن المجتمع العراقي انقسم بعد عملية جهاز مكافحة الإرهاب ضد حزب الله العراقي بين مؤيد ومعارض. وينقل البياتي عن لسان الكاظمي أن لا مشكلة لديه مع هيئة الحشد الشعبي. وفسّر البياتي مسألة تقديم ملف معتقلي حزب الله العرافي لقاض تابع للحشد الشعبي، بأن هذا الأمر متفق عليه، لافتا إلى أن هناك قاض مختص أيضا لدى جهاز مكافحة الارهاب. ولفت إلى أن وضع الحشد الشعبي ليس سليما، ذلك أن داخله فصائل ومرجعيات متبايمنة مختلفة المرجعيات.

ومن جهته يسرد سرمد الطائي، وهو كاتب ومحلل سياسي، معلومات عن أنه كان هناك خلية تعمل لصالح ايران في مطار بغداد لرصد دخول الاجانب، وقد قام الكاظمي بطرد هذه الخلية من المطار، ما حذا بالميليشيات إلى التهديد

الرئيس الأمريكي ترامب
لن تبقى الولايات المتحدة الامريكية على قمة السلم العالمي

بقصف المطار. وأضاف الطائي أن تحذيرات من قبل التحالف الدولي وصلت للكاظمي تفيد بوجود استعدادات لقصف المطار، وانه اذا لم تتصرف بغداد فإن التحالف سيقوم بالرد بشكل ساحق على منوال ما فعله سابقا في استهداف مراكز تابعة لحزب الله العراقي وبعض فصائل الحشد الشعبي. ويرى الطائي أن اعتقال عناصر حزب الله كان يهدف إلى حمايتهم، وهم مواطنون عراقيون، وإلى تجنب أزمة دبلوماسية كبيرة بين العراق والبلدان المنضوية داخل التحالف الدولي، لا سيما الولايات المتحدة.

ويلفت الطائي إلى أن ما حصل ليس فقط ردا امنيا على حدث امني، بل هو بداية لحرب ضد الميليشيات وتحقيق سيادة الدولة، خصوصا أن حكومة الكاظمي لم تأت من الاحزاب، بل من قبل حركة الشارع التي بدأت في اكتوبر الماضي.

ويرى د. علي نوري زاده، مدير مركز الدراسات العربية الإيرانية في لندن، أن وجود الكاظمي في منصبه في المنطقة الخضراء يمثل نكسة للنظام الايراني. ويضيف أن طهران حاولت بكل السبل منع الكاظمي من تولي هذا المنصب من خلال موفدين ايرانيين ومن خلال تهديدات ميليشيات قريبة من ايران ضده. ولفت نوري زاده إلى أن الكاظمي يحظى بتأييد اميركي واقليمي وشعبي.

ويحذر نوري زاده من أن إيران وجماعتها في العراق تملك إرادة وإمكانات التخريب، ويرى أن طهران مضطرة للتعايش مع الكاظمي لكنها ستستغل أي ثغرة للقضاء عليه، خصوصا أن الزيارات التي يزمع القيام بها إلى الولايات المتحدة والسعودية تشكل تحديا مباشرا لإيران.

نموذج لبنان

ويقول د. باسل حسين، وهو باحث في الشأن السياسي العراقي، إنه لا يمكن فصل السياق السياسي عن السياق الأمني، معتبرا أن مجئ الكاظمي شكل انعطافة كبيرة بسبب طبيعة الظروف التي اتت به في ظل توتر اقليمي شديد. وذكّر حسين بالتغول الذي مارسته الميليشيات ضد الدولة في ظل الحكومة السابقة برئاسة عادل عبد المهدي. وأضاف أن إيران حرصت في العراق على تشكيل نموذج شبيه بوضع حزب الله والدولة في لبنان، بحيث تخرج قوة شيعة في العراق تأخذ موارد الدولة  ولديها، كما حال حزب الله في لبنان، قرار الحرب والسلم.

وأشار حسين أن الكاظمي أراد، من خلال عملية مكافحة الإرهاب ضد حزب الله العرافي، إرسال رسالة حاسمة من خلال البيان الصادر حول العملية الذي تحدث عن معلومات دقيقة عن الاشخاص (وليس شخص واحد كما قيل لاحقا). وأضاف أن هناك تناقض في الموقف بما يعني ان الكاظمي قد تعرض لضغوط أدت إلى تغير رواية الحدث. واعتبر حسين ما كانت تنوي هذه المجموعة القيام به أنه عملية تمرد ترقى الى مستوى الخيانة العظمي، ناهيك عن قيام المعتقلين بدوس صور الكاظمي بعد الإفراج عنهم، ما يعني أن هناك قوى داخل الدولة العميقة تحمي هؤلاء، وأن هذه الدولة الموازية هي التي ستحكم الدولة مستقبلا.

ولفت سرمد الطائي إلى أنه  »لوكانت الميليشيات من المذهب السني لسحقت بلحظة واحدة«. وأشار إلى أن القوة العسكرية النظامية العراقية هي بحالة تفوق كبير ولديها خبرة بعد معاركها ضد تنظيم داعش، كما أن قوة جهاز مكافحة الإرهاب التي يصل تعدادها إلى 30 ألف مقاتل بات مشهودا لها أنها من أقوى فرق الكومندوس في المنطقة.

وأقر الطائي أنه خشية أن يتحول الأمر إلى حرب أهلية (شيعية-شيعية) فإنه يتم التعامل مع هذه الميليشيات بشكل تدريجي، مذكّرا بأن هناك أمر حكومي قد صدر قبل عام يقضي بنقل هذه الميليشيات الى خارج بغداد لكن هذه الميليشيات لم تنفذ هذا الأمر.

إيران.. فشل شامل

وأشار نوري زاده إلى فشل المشروع الإيراني في كافة ميادين النفوذ في العراق وسوريا ولبنان واليمن، لكن إيران ما زالت قادرة على إثارة الفوضى، بالمقابل فإن السياسة الأميركية متمسكة بسياستها لضبط نفوذ طهران وأن اغتيال الجنرال قاسم سليماني كما الحوادث التي تتعرض لها المفاعلات النووية في إيران دليل على ذلك.

وروى سرمد البياتي أنه سبق أن سأل سفير إيران في العراق حول سبب تدخل بلاده في الشأن العراقي وأن السفير نفى ذلك تماما، وأنه على الرغم من هذا النفي فإن النفوذ الإيراني واضح المعالم، مشيرا إلى أن في العراق قوى عراقية هي أكثر إيرانية من إيران نفسها. واعتبر البياتي أن نزع السلاح غير الشرعي يجب أن يجري من خلال الحديث مع الجهة التي زودت الميليشيات بهذا السلاح، بما يلمح إلى أن حل الأمر لن يكون داخليا وأنه يحتاج إلى اتفاق بين بغداد وطهران. وحذر البياتي من احتمالات الانفجار كاشفا أن أغلب الفصائل (المحسوبة على إيران) كانت في حالة استنفار حتى مطلع الفجر في أعقاب عملية جهاز مكافحة الإرهاب ضد مركز حزب الله العراقي.

ويلاحظ د. باسيل حسين أن ما يقوم به الكاظمي هو في حدود الواقع والممكن، وأن هناك تعقد في الظروف المحلية والإقليمية والدولية قد تحول دون مضيه قدما وفق ما يتمنى. وقال حسين إنه حتى إجراء انتخابات مبكرة وفق وعوده قد يكون غير ممكن لأسباب تقنية لوجيستية وأخرى سياسية موضوعية، مرجحا ترشح الكاظمي لهذه الانتخابات (إذا حصلت) لأنه يحتاج إلى قوة برلمانية تمنحه شرعية واسعة تعيد تسميته رئيسا للحكومة. ودعا إلى تحالف بين قوى الدولة وقوى الثورة للدفاع عن الدولة ضد اللادولة في العراق، خصوصا أن هناك قوى داخل الدولة ولاؤها وقرارها خارجي لا يلتزم بالحكومة وتوجهات رئيسها.

ورغم اعتراف سرمد الطائي بأهمية الولايات المتحدة في العراق والمنطقة، إلا أنه يرى أن العراقيين لم يعودوا يعولون على الأميركيين. وقال إن أميركا تساعد لكنها لا تحسم  وأن الحسم يجب أن يكون داخليا مستندا على لحظة صعود الوطنية العراقية محمولة من قبل  »حراك تشرين« الشبابي الجامع. ويذكّر الطائي أن الكاظمي وكافة القوى باتوا يخضعون لقواعد هذا الحراك، وأنه قد سمع من قادة ميليشيات أنهم باتوا يخشون غضب الشعب. ويضيف الطائي أن قرار تنظيم الميليشيات أو حلها هو قرار  »تشرين« وأن  »تشرين باتت مرجعية يتبعها المفتون«، وأن  »الكاظمي هو ابن تشرين وتشرين قادر على اسقاطه«. ولفت الطائي إلى أن ألكاظمي قد اعاد عبد الوهاب الساعدي إلى الخدمة وعينه قائدا لجهاز مكافحة الإرهاب بعد أن أقالته طهران. ورأى أن العراقيين، وخصوصا الشيعة منهم، لا يريدون نفوذ طهران في بلدهم وقد أحرقوا ثلاث قنصليات لإيران تعبيرا عن الأمر.

وحول ما إذا كانت إيران جاهزة لتقبل فكرة نسج علاقات مع الدولة العراقية بدل الميليشيات، يرى نوري زاده أن أي تغير في السياسة الخارجية لإيران يحتاج إلى البراغماتية التي كان يتمتع بها محمد خاتمي وعلى أكبر هاشمي رفسنجاني حين كانا رئيسين للجمهورية وكانت مؤسسة الرئاسة تمثل ثقلا مقابل سلطة الولي الفقيه. وأكد أن لا تغير في سلوك طهران طالما مرشد إيران علي خامنئي على قيد الحياة، ما يجعل من السياسة الخارجية تابعة له وللحرس الثوري.

ويعيد سرمد البياتي الدعوة إلى حوار مع إيران ينهي الحالة الشاذة في علاقات البلدين، معولا على الكاظمي في تقريب وجهات النظر في هذا الشأن. وأشار البياتي إلى وجود حوالي 20 منفذا حدوديا غير خاضع لسلطة الدولة، لافتا إلى قساوة الظروف الاقتصادية والأمنية والصحية التي يتعرض لها العراق، وأن البلد بات ضحية صراع بين دولتين وأن

هناك في العراق من يعمل لصالحهما.

ويشير د. باسيل حسين إلى أن الوجود الأميركي في العراق بات ضروريا وأن انسحاب القوات الأميركية من هذا البلد سيحوله إلى محافظة إيرانية. ويرى أن الأمر رهن ما ستفرج عنه صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الأميركية (نوفمبر المقبل) لمعرفة طبيعة السياسة الأميركية المقبلة تجاه ايران والمنطقة والعراق.

وبغض النظر عن تقييم هذا وذاك فإن الواضح أن العراق يخوض مخاض انتهاء وصاية إيران مع ما سيواكب ذلك من حلقات دموية ودراماتيكية قد لا يسيطر عليها العراقيون وحدهم. ومن اللافت ان التحليل لا يدور حول كيفية تقوية إيران لنفوذها، بل سبل محاصرة خسائرها في هذا البلد كما في بلدان المنطقة الأخرى.

عملية الاغتيال تستهدف من خلال هشام الهاشمي الحراك الشبابي الذي اندلع في العراق منذ أكتوبر الماضي والذي فاجأ الطبقة السياسية الحاكمة منذ سقوط بغداد عام 2003. وتستهدف الجريمة، وفق مراقبين، إسكات الأصوات المتكاثرة التي تنتقد السلوك الإيراني في العراق ونفوذها المتمدد من خلال ميليشيات عراقية تمتلك طهران قرارها الكامل. وتعبر العملية عن قلق حقيقي لتيار إيران في العراق، والذي بات يشعر أن ظروفا تتدافع، سواء من خلال انقلاب الرأي العام المحلي، أو من خلال وصول الكاظمي إلى منصب رئاسة الوزراء، أو من خلال الموقف الإقليمي الدولي ضد إيران، لمحاصرة حراك هذه الميليشيات التي صالت وجالت منذ سقوط نظام صدام حسين في هذا البلد.

لم يسبق للدولة العراقية التي انتجها واقع ما بعد غزو عام 2003 أن تمردت على الأمر الواقع وفوضى السلاح. لا بل إن هذا الأمر الواقع هو من أملى يوميات كافة الحكومات المتعاقبة. وحتى حين كانت تنتفخ أورام التوتر بين الدولة والدويلات كانت التسويات، بما فيها البرلمانية والدستورية، تأتي لصالح الدويلات. وليس استسلام الدولة لفتوى إنشاء الحشد الشعبي وخضوع البرلمان لأمره الواقع وفرضه كمؤسسة شرعية من مؤسسات الدولة، إلا مثالا أخيراً على حاجة النظام السياسي في بغداد للركون للهامش للحفاظ على المتن.

حين تهافتت كافة الأحزاب العراقية، بما فيها تلك الدينية الموالية لإيران، على تكليف الكاظمي بتشكيل الحكومة، كان ذلك بشق النفس وبعد فشل محاولات سابقة لتكليف بدائل عنه. بيد أن التهافت في الشكل كان يرمي إلى محاصرة رئيس الحكومة الجديد بإجماع مسبق يكبل يديه في ما ينوي الذهاب إليه. فمشكلة المتهافتين مع هذا الرجل أنه  »ابن الدولة« وهم يكرهون أن يكون هناك دولة لها أبناء وسلالات.

سرمد البياتي: لا يمكن نزع سلاح الميليشيات دون الاتفاق مع الجهة التي زودتهم بالسلاح

سرمد الطائي: العراقيون، وخصوصا الشيعة منهم، لا يريدون نفوذ طهران في بلدهم وقد أحرقوا ثلاث قنصليات لإيران تعبيرا عن الأمر.

د. باسل حسين: الوجود الأميركي في العراق بات ضروريا وانسحاب القوات الأميركية من هذا البلد سيحوله إلى محافظة إيرانية.

د. علي نوري زاده: السياسة الأميركية متمسكة بضبط نفوذ طهران واغتيال الجنرال قاسم سليماني والحوادث التي تتعرض لها المفاعلات النووي في إيران دليل على ذلك.

(*) كاتب سياسي لبناني

العدد 107/اب 2020