لبنان يتّجه شرقاً ولا حياة لِمن تنادي

سندريللا مرهج

تتفاقم حدّة الأزمة الإقتصادية التي تعصف بالجمهورية اللبنانية. هذا البلد الذي اعتاشت مختلف قطاعاته وكلّ فئات شعبه لثلاثة عقود من الزمن على استقرار سعر صرف العملة الوطنية  »الليرة« مقابل الدولار الاميركي، ونما على برامج ائتمانية مصرفية ساهمت في نهضة القطاع الخاص تبعاً لهندسات نقدية، هذا البلد الذي استمرّ في إحياء مؤسسات الدولة من ادخارات المواطنين في المصارف التجارية التي أقرضت مصرف لبنان الذي بدوره أقرض الدولة اللبنانية، تتزلزل أساساته وهو بلدٌ مهدد بالسقوط في حفرة الموت البطيء وشعبه يطلب إمّا الخلاص أو الموت الرحيم. انتفاضات، تحركات، مناجاة، اقتتال، انتقادات، تنديد، طروحات، خطط، تصريحات، التماس مساعدات وصولا الى الانتحار… والدولار في السوق السوداء يناهز صرفه تسعيرة عشرة الاف ليرة لبنانية ويستمرّ في الارتفاع امام العملة اللبنانية.

إنّ مستوى الناتج المحلي في انحدار خطير وكذلك كلّ قطاع في دائرة الاقتصاد والمجتمع اذ يسقط الى ادنى هبوط تحت خطوط الخطر.

الكلّ يرمي الاتهام على الكلّ. بعض الاحزاب تحمّل المسؤولية للمصارف ومصرف لبنان وترفض هندساته النقدية وتلومه وتشكك به وتطلب تدقيقاً جنائياً والبعض الاخر يتهم السياسات الحكومية السابقة والحالية ويطالبون بمحاسبة الجميع واسترداد الاموال المنهوبة والجميع متفق انّ الخارج يتامر أيضاً على لبنان؛ ولكن أيّ خارج؟

هنا بيت القصيد، فلا اتفاق على جواب يوحّد البوصلة. تاه الناس والوطن الى ضياع؟

طرح حزب الله الشرقي وسجال الهوية

أمام المشهدية المعيشية الصعبة، أطلّ الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله وطالب بالاتجاه شرقاً بهدف وضع حدّ لمسارب الهدر في المالية العامة لا سيّما في استيراد النفط ومشاريع البنى التحتية. اعترض حلفاء وخصوم لحزب الله على طرح الاتجاه شرقا انطلاقا من مخاوف تمحورت حول رفض تغيير هوية لبنان الانفتاحية على الغرب من جهة وحول رفض تغيير وجه الاقتصاد الحرّ الى اقتصاد شبه اشتراكي أو شيوعي. نفى الامين العام لحزب الله واقعية هذه المخاوف وصرّح ان الاتجاه شرقاً لوقف تدهور الاقتصاد لا يعني اقفال الباب على التوجه الغربي حتى صوب الادارة الأميركية.

تقف الحكومة اللبنانية على حافة طريقين، الاول غرباً بقرار رسمي باتجاه صندوق النقد الدولي ومؤتمر  »سيدر«، والثاني دون قرار رسمي بل بدور المنظر المتلقي استقبال الوفود الشرقية التي تحضر الى لبنان لتقديم مقترحات التعاون.

واقعٌ شبه انعزالي غريب تعيشه الحكومة يشبه القرار بالنأي بالنفس والحياد الخفيّ غير العلني.

اعتاد اللبنانيون على الحكومات الحيادية سياسياً، لكنها قد تكون الحكومة اللبنانية الحالية، حتى السّاعة، أكثر الحكومات التي مرت على لبنان اتقاناً بالنأي بالنفس الاقتصادي وتجميد التحرّك الايجابي المبادِر باتجاه أي صوب. هل اقفلت الدول ابوابها بوجه الرئيس حسان دياب أم أقفل هو أذنيه عن الاشارات التي توجه اليه والداعية له للتحرك الاقليمي؟! لا شكّ أنّ الاحتمالين موجودان والحكومة تتجنّب إلباسها هوية محور ما. سجال على هويّة اصطفاف المحاور في زمن قانون قيصر الاميركي الذي يشدّ الخناق على سوريا ولبنان.

سوريا تقفل معابرها مع لبنان لاجل غير مُسمّى

بتاريخ 20 كانون الاول 2019 وقّع الرئيس الاميركي دونالد ترامب  »قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية لعام 2019 « الذي يتضمن حزمات من العقوبات الاقتصادية ضدّ النظام السوري وحلفائه والشركات والأفراد المرتبطين به والتي توضع موضع التنفيذ على مراحل مع منح الصلاحية والصفة للرئيس الاميركي برفع العقوبات في حال وجد جدية في التفاوض من قبل النظام السوري شرط وقف الدعم العسكري للجيش السوري والنظام من قبل روسيا وايران وفصّل مجموعة شروط اضافية، ومنحه القانون ايضا سلطة رفع العقوبات لأسباب تتعلق بالامن القومي. بتاريخ 17 حزيران من السنة الحالية دخل  »قانون قيصر« حيّز التنفيذ الفعلي في ظل ازمة اقتصادية ونقدية حادّة في كلّ من سوريا ولبنان. حُدّدت مفاعيل القانون الزمنية بخمس سنوات من تاريخ بدء التنفيذ أي حتى العام 2024.

إنّ تداعيات القانون الاقتصادية والمالية والنقدية والمصرفية خطيرة وكبيرة وصعبة على سوريا وحلفائها سيّما فيما اذا كان التعاون والتنسيق على مستوى الدولة بينهم ضعيفاً او معدوماً.

إنّ ولادة قانون قيصر القيصرية التي لم تبصر النور الا على عهد دونالد ترامب رغم مسار تشريعي طويل استمرّ لحوالي 10 سنوات لم تدفع الدولة اللبنانية الى تحصين ساحتها من أيّة ضغوط وأزمات اقلّه بالعمل على سياسة  »الاكتفاء الذاتي الغذائي«. تتحمل السياسة الخارجية اللبنانية الجزء الاكبر من مسؤولية الوضع الراهن الانحداري الاقتصادي والمالي والمعيشي. سواء السياسة اللبنانية الخارجية باتجاه الغرب أم الشرق أم العمق العربي. لانه كان أولى على وزراء الخارجية الذين مارس بعضهم رحلات سندباد الى اقاصي الارض سعياً لمصالح ضيقة حزبية أو ترويجية ان يعقدوا اتفاقيات دولية تحصّن الساحة اللبنانية وتؤمن لها الاستقرار المستدام، ان لم نقل، التنمية المستدامة أو بأبعد تقدير تلقّف الاخطار الآتية والعمل على وضع سياسات لمواجهتها.

بالعودة الى لبنان وسوريا، عديدة هي الملفات المشتركة المؤثرة والنائمة. حتى قبل صدور قانون قيصر امتنعت الحكومات اللبنانية عن ايجاد حلول رسمية على مستوى الدولة لهذه الملفات بالتفاوض مع سوريا، نذكر أهمّها:

-ملف النازحين السوريين المتواجدين في لبنان

-ترسيم الحدود البرية بين البلدين

-التعاون المشترك في ضبط الحدود

-تجارة الكهرباء

كان من المفترض ان تفتح المعابر الشرعية بين البلدين والتي اقفلت احترازياً ضمن الاجراءات الوقائية للحدّ من تفشّي جائحة  »كوفيد 19« في بداية الشهر الحالي، ولكن سوريا اتخذت القرار بإبقائها مقفلة لأجل غير مسمّى بسبب الازمة الاقتصادية والنقدية في البلدين.

إنّها رسالة من ارض الواقع توجهها سوريا الى الحكومة اللبنانية التي تتلكأ في التعاون السياسي والاقتصادي والامني الرسمي معها.

اما رئيس الحكومة اللبنانية فيطالب  »باستثناءات« على القيود التي تطال لبنان في قانون قيصر قد تكون التجارة البرية عبر سوريا والاتفاقيات التجارية المشتركة بين البلدين التي لا يمكن وقف تنفيذها. موقف يرفضه كثيرون والحكومة مُطالَبة بموقف رسمي من القانون ككلّ لا سيّما في الشقّ المتعلّق بالجمهورية اللبنانية صاحبة السيادة على اراضيها. بالمقابل، الحكومة تتحرّر باتجاه العراق.

العراق يقدّم مبادرة نفطية ومخابرة هاتفية ودعوة لزيارة. ما ردّ دياب؟

تلقّف العراق النداء اللبناني بالحاجة لايجاد نوافذ حلول اقتصادية للوضع الراهن والدعوة للتوجه شرقا.

زار لبنان وفد عراقي قدّم لرئيس الحكومة حسان دياب ولرئيس مجلس النواب نبيه برّي وللوزراء المعنيين عرضا لتزويد لبنان بالنفط وجرى التداول بالنفط مقابل المواد الغذائية والزراعية. بتاريخ 9 تموز 2020 تلقّى الرئيس دياب اتصالا من نظيره العراقي ابلغه فيه استعداد العراق لتصدير النفط الى لبنان وقدم له دعوة للقاء.

ولكن، هل هذا الطرح قابل للتحقق؟

الشكُّ بالنفي يتفوّق على اليقين الايجابي.

إنّ الدولة اللبنانية لم تؤمم قطاعَي الصناعة والزراعة ولا تملك ادنى المقدرات المالية لشراء المنتوجات الغذائية والزراعية من القطاع الخاص بالعملات الاجنبية النقدية ولا تستثمر حتى في القطاعين.

تنتمي المصانع والمؤسسات الزراعية الى القطاع الخاص ولا يمكن للدولة اللبنانية الزام القطاع الخاص بتسليمها أو بيعها المحاصيل. ولئن فعل فنسبة الانتاج الزراعي والغذائي لا تغطي حاجة كمية الاستهلاك النفطي اذا ما قارنّا ميزان المقايضة.

أمّا من جهة أخرى، لا شكّ ان عملية النفط مقابل الغذاء تحتاج مؤسسة عامة أو مصلحة مستقلة لادارة عمليات الشراء والتسلًم والتسليم من المصنعين والمزارعين. لكنّ الموازنة العامة اللبنانية لا تتحمل أي نفقات اضافية وصندوق النقد الدولي اشترط التقشف في التوظيف العام.

فكيف التوفيق بين الاتجاه شرقا والاتجاه غربا ؟

بالمقابل اعترض برلمانيون على سياسة حكومة الكاظمي الخارجية لا سيما طرحه النفط مقابل الغذاء على اعتبار ان العراق قادر على تنمية قطاعاته المنتجة. ماذا عن قانون قيصر والمرور الى العراق عبر سوريا؟!

حتّى الساعة يبدو الطرح العراقي على المستوى الحكومي جادّاً وكذلك العرض اللبناني الحكومي

ولكن، ماذا عن واقعية التنفيذ؟

امام الحكومة اللبنانية طرح جدّي من أكثر من اتجاه، شرقي وغربي، هل ستتحرّك وتبادر الى وضع الاسس العملية التنفيذية وتستجيب لدعوات الاحزاب والقوى اللبنانية بوجوب المبادرة الميدانية الخارجية لايجاد حلول انقاذية؟

 »لا حياة لمن تنادي« مثل عربي يستعمل للدلالة على غياب السياسيين عن المطالب الشعبية لكنه يجنح ليصبح في لبنان  »لا حياة لمن ينادي« فقد المواطن أدنى الحقوق بالعيش الكريم.

 اعذروا اخطائي الاملائية إن وُجدت، لا كهرباء في وطني ولا نفط للمولدات البديلة. الشمع أغلى من النفط وهو أيضاً مقطوع. الدولار عشرة الاف ليرة بالسوق السوداء وكل شيء سوق سوداء… لا بصيص نور أمامنا… إلا الكلمة.

العدد 107/اب 2020