في حوار مع الشاعرة والأكاديمية هناء علي البواب

بيروت من ليندا نصار

هناء البواب بين شغف الكتابة ومواجهة التحدّيات في زمن الكورونا

هناء البوّاب:  »إن الأكاديمية للموهوب هي قوّة مضافة«

 »للشاعر عين ثالثة وحاسة ثامنة تشكل مجسّات لسبر جوهر المرئي من المشاعر والمتخفي«

 »مهنة النشر هي الركيزة الأساسية  لأي مشروع حضاري، وتتّصف بذاكرة الصناعات الثقافيّة والمدخل الحضاري لأي تقدم أو رقيّ«.

هناء علي البواب من الكاتبات الأردنيات اللواتي أثبتن وجودهنّ في الوسط الثقافي الأردني والعربي وذلك من خلال تجربتها ورؤيتها المغايرة التي جعلتها تعمل على القصيدة والكشف عن الإنسان وهشاشته وكل ما يمرّ به من تناقضات، والتعبير عنه في الكتابة، لقد استطاعت الكاتبة، من خلال موقعها الأكاديمي، مواصلة الحفر في اللغة ورصد جماليات الكتابة. إنّها هناء البواب التي قدّمت الكثير للمثقفين سواء من خلال تنسيق المهرجانات الثقافية أم

الشاعرة والأكاديمية هناء علي البواب

العمل الحثيث الذي راكمته كونها مدير عام دار خطوط وظلال للنشر في الأردن. تجدر الإشارة أنّ للشاعرة أكثر من ثلاثة دواوين شعرية بالإضافة إلى مجموعة نصوص من المونودراما، كما أنها فنانة تشكيلية شاركت في عدة معارض عربية.

 »الحصاد« التقت الدكتورة هناء علي البواب وكان لها معها الحوار التالي:

 »الحصاد«: حضرتك مدير عام دار خطوط وظلال في الأردن وقد لاحظنا أنّ الدار قادمة بقوة لما راكمته من منشورات حديثة وأسماء طبعت بصمتها في الثقافة العربية. هذا الأمر يحدث برغم أزمة الحجر الصحي في ظل فيروس كورونا. فما هي المخاطر والصعوبات التي واجهتموها وكيف كانت الانطلاقة الأولى؟

هناء علي البواب: على الرغم من الحجر الصحي في زمن الكورونا، وتفاصيله المعقدة كان لدينا الإصرار لصناعة شيء له علاقة بالثقافة العربية، وأعتقد أن العمل الثقافي لا يتوقف بسب حجر أو بسبب أمور أخرى، لقد استطعنا أن نتحصل على تصريح للحركة برغم الحظر والإغلاق، ما أعطانا الفرصة الذهبية لتجهيز وعمل كتب من ناحية الإخراج والتدقيق، مع العلم أن المطابع والمكتبة الوطنية الخاصة بأرقام الإيداع كانتا متوقفتين، فكان لدينا الإصرار على تجهيز كل ذلك بانتظار الانفراج. وكما خططنا حدث، كنا مجهزين تمامًا، فحين تم السماح لبعض المؤسسات بالعمل قمنا مباشرة بالحركة للسير في إجراءات النشر، وأعتقد أن أعظم الروايات والكتب قد كتبت في المعتزلات، على سبيل المثال رواية الطاعون للكاتب ألبير كامو، وفي هذا السياق أقول إن العمل في الحجر كان تحديا ماتعا.

الانطلاقة كانت هنا مختلفة لأنها تنمّ عن التحدي، ولذلك نحن سعداء جدا بهذا التغيير الذي نحدثه اليوم سواء بالشكل العام للكتب أو الغلاف، إنّ مهنة   النشر تعتبر الركيزة الأساسية  لأي مشروع حضاري، وتوصَف بأنها ذاكرة الصناعات الثقافيّة والمدخل الحضاري لأي تقدم أو رقيّ، وبرغم التطور في حركة النشر عربيا، وتنوع وسائله وأدواته، فإنه لا يزال يعاني مشاكل عامة كبرى، اقتصادية ومهنية وسياسية، تتعدد وتختلف باختلاف البلدان العربية وتفاوت مستوى الثقافة فيها، وبخاصة اليوم في ظل المأساة الكورونية التي جعلت العالم صنمًا لا يتحرك، وجعلتنا نخاف حتى من كلماتنا، وطريقة تعبيرنا، هنا فقط جاءت دار خطوط لتعوّل على القارىء المحترف، وتنشر للكاتب المختلف، فنحن شعارنا أن يكون الكتاب بصيغة مهنية وعصرية احترافية.

لقد اتخذنا قرارًا لمواجهة الحجر الصحي الذي جاء نتيجة لطبيعة الجائحة، وهو أن  نمارس الفعل الثقافي بأدواتنا، و طرائقنا معولين على استمرارية الفعل في مواجهة الكوارث سواء كانت أوبئة أم حروب، أم كوارث طبيعية، لذلك قامت خطوط وظلال بنشر سلسلة تقدم فيها نصوصًا نثرية تعبر عن حالات المبدع العربي في المعتزلات الصحية، وأعتقد أن دار خطوط هي الأولى التي بدأت بإصدار تلك السلسلة بعنوان (مرويات الفايروس)، وسيشارك في هذه السلسلة كتاب من العالم العربي منهم:  أنيس الرافعي من المغرب، الكاتب الكردي  جان دوست، والجزائري عبدالرزاق بوكبة، والأردنيين محمد العامري وكامل النصيرات، والفلسطيني عادل الأسطة، والجزائري المقيم في فرنسا بوعلام رمضاني… وستشكل هذه السلسلة ذاكرة جديدة عن تداعيات (الابداع والوباء).

 »الحصاد«: بما أنّ التّجارب الجديدة تمرّ عليك من خلال دار خطوط وظلال، ما أكثر ما لفتك فيها بشكل عام؟ وما الذي رأيته مختلفًا عن التجارب القديمة؟

هناء علي البواب: لقد لفت انتباهي التراجم التي قمنا بنشرها، وقد أحالتني فكرة التراجم إلى سؤال كبير يتمثل في الهوة التاريخية بين الكتاب الأصلي والكتاب المترجم، فحين يصلنا الكتاب مترجمًا إلى العربية يصبح في موطنه قديمًا، وأعتقد أنه لا بد من إيجاد سبل فاعلة وجديدة على المستوى العربي لإقامة مؤسسة تختص بنشر التراجم بالتدرّج حتى نتواكب  ما يحدث في الثقافات الأخرى، وكذلك لفت انتباهي على سبيل المثال لا الحصر ترجمة (مم وزين) التي تطرح قصة حب صوفية كردية، وقد ركزنا في هذا السياق على أدب الأقليات مثل رواية الأفغاني المترجمة عن الفارسية، وكثير من الآراء المترجمة التي تطرح مناخات فلسفية مهمة جدًا على رأسها جماليات باشلار وغيرها.

بعد أن قمنا بمسح أفقي لطبيعة المنشورات والمشاكل التي يعانيها الكاتب ودور النشر معا، قمنا بانتهاج استراتيجية هادئة ومختلفة مستفيدين من التجارب السابقة للكتاب والناشرين معا، حيث آثرنا في دار خطوط على أن ننتصر للنص العالي بعيدًا عن الفكرة التجارية التي تورطت فيها عدة دور نشر في العالم العربي، ولدينا عقود قمنا بصياغتها من خلال مشاورات مع كتاب محترفين، من باب حفظ الحقوق للكاتب والدار معا، لأننا وجدنا عبر التقصي والسؤال بأن معظم الكتاب لم ينالوا حقوقهم المادية كمردود لبيع كتبهم من دور النشر، وكنا في عقودنا مع الكتاب أمينين جدا كوننا في الأصل كتّابًا وندرك حجم الوجع الذي يعانيه الكاتب، وكذلك تنتهج الدار نهجًا خاصًا يتمثّل في تنويع منشوراتها من تراث لشعوب كانت غائبة منها على سبيل المثال كتاب  »مم وزين« الذي يتحدث عن قصة حب صوفية كردية، ورواية أخرى لكاتب أفغاني وكتب أخرى تنتصر للدراسات الأدبية والشعرية والسرد المحترف من معظم بلدان العالم العربي، وأعتقد أن دار خطوط تكاد تتميز بمسألة مهمة، وهي تتمثل بالاتصال بالكاتب والطلب منه أن يقدم كتابًا لتنشره، على غير عادة دور النشر الأخرى حيث يقوم الكاتب بالاتصال بها لنشر كتبه، وهناك أيضا كتب خاصة بالفنون البصرية والفلسفة كذلك، وهذا جزء بسيط من استراتيجية الدار التي تطوّر نفسها يوميًّا عبر سماع الملاحظات والبحث عن كتب نقدم شيئا حقيقيًّا للثقافة والإنسان.

 »الحصاد«: ما الفرق بين أن يكون المسؤول عن الدار كاتبًا وناقدًا وبين أن يكون شخصًا مطّلعًا ويمتلك الذكاء والحنكة في العمل والتسويق؟ هل لهذا الأمر تأثير في مسار العمل؟

هناء علي البواب: أعتقد أن الكاتب حين يكون ناشرًا يستطيع أن يتحسّس النبض الحقيقي لما يعانيه الكاتب مع دور النشر، وكوني كاتبة فإنني أعرف بدقّة متناهية طبيعة العلاقة الملتبسة بين الناشر والكاتب، ونحن في دار خطوط وظلال نذهب قدر المستطاع نحو إنصاف المؤلف والانتصار لحقوقه المعنوية والمادية، وقد لمسنا ردود فعل إيجابية على المستوى المحلي والعربي ما شجعنا على المضيّ في التعامل الواضح مع الكتّاب.

 »الحصاد«: ما تأثير العمل الأكاديمي في المبدع الحقيقيّ؟

هناك مسلّمات خاطئة ينعتها النقاد بالأكاديمية، كما لو أنها سُبّة وشتيمة إبداعية، لكنني أجد أن الأكاديمية للموهوب هي قوّة مضافة، فالموهوب سواء كان أكاديميا أم لم يكن، سينفذ من كل صنوف الجمود وينتصر لنبضه.

فعندما أكتب الشعر أو النثر أو المسرح لا يخطر في بالي أبدًا ولو للحظة طبيعة دراستي للغة العربية بالرغم من أنها تعينني على قوة التعبير في الكتابة.

لكن الأكاديمية لا يمكن لها أن تصنع مبدعًا فيستطيع حامل الدكتوراه المتخصص في بحور الشعر أن يصنع من العمل الجرائدي قصيدة رديئة، فهل هذا هو الإبداع؟

بالطبع لا…. فكثير من المبدعين لم يتعلّموا في مدارس أو جامعات وظل إبداعهم حاضرًا إلى يومنا هذا. العقّاد لم يقبل الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة وكذلك الروائي ابراهيم أصلان الذي درس في مدرسة تعليم فنون السجاد، وإيليا أبو ماضي وماركيز لم يحصل على شهادة جامعية وكذلك تولستوي والأمثلة كثيرة.

 »الحصاد«: حضرتك شاعرة لديك تجارب في أجناس أدبية أخرى ومنها علاقة وثيقة بالكتابة المسرحيّة، كيف تنظرين إلى انفتاح الأجناس الأدبيّة التي صارت تمارس في هذا العصر؟

هناء علي البواب: منذ بدء الخليقة وهناك تداخل بين جميع صنوف الإبداع بدءًا من العلاقة التي بدأت بين الإيقاع والشعر (الموسيقى والشعر) وكذلك هناك علاقة بعيدة جدًّا بين المرئي والمكتوب، أي بين القصيدة واللوحة التشكيلية، وإذا نظرنا إلى الأفلام السينمائية عبر التاريخ نجدها قائمة على الفعل السردي في الرواية، فجميع صنوف الإبداع قد خرجت من نهر واحد ليتفرع إلى سواق عديدة تلتقي في المصبّ، فهناك علاقة بين المسرح والبصريات في السينوغرافية، وبين الشعر والمسرح وبين الغناء والموسيقى فالكل يتعاضد مع بعضه البعض لينتج إبداعًا إنسانيّا. وخير مثال على هذا التداخل بصفة عامة التحفة الإنسانية (بحيرة البجع) لتشايكوفسكي والتي ألفها عام 1875، هذه التحفة الإنسانية التي تجمع بين الفعل الموسيقي والسرد البصري للإيماءات الإنسانية. نخلص إلى جملة واحدة وهي أن الإبداع يخرج من نهر واحد.

 »الحصاد«: إلى أيّ مدى كان لمشاركتك في أمير الشعراء أثر في تجربتك؟

هناء علي البواب: لم يكن لها الأثر البعيد فيما يختص بتجربتي الشخصية، ولكني استفدت منها لتأسيس علاقات مع مجموعة من الشعراء، واستمعت لتجارب مختلفة، وهي نافذة لأي شاعر لكي يتعرف من خلالها إلى شعراء من العالم الافتراضي ويصبح على علاقة معهم على أرض الواقع.

 »الحصاد«: ما معنى أن يكون الإنسان شاعرًا بالنسبة إليك؟

هناء علي البواب: الشاعر مفردة مركبة، أن تكون شاعرًا يعني أن تكون إنسانًا شفافًا يتحسس الألم والجمال على حدّ سواء، فالشاعر لديه عين ثالثة وحاسة ثامنة تشكل مجسّات لسبر جوهر المرئي من المشاعر والمتخفي كذلك، فهو أقرب إلى النبوّة. أن تكون شاعرًا يعني أنك إنسان عظيم بمعنى الكلمة، وبمعنى الوجود، فمعظم الدول نسيت سياسييها بقي الشاعر هو المتصدر في مانشيتات الصحافة وبطون الكتب. باختصار الشاعر مضاد للموت، الشعر الحقيقي لا يموت.

 »الحصاد«: إنّ من يطّلع على قصائدك يلاحظ فيها هجرة القوالب الجاهزة والمألوفة. ما كانت ردّة فعل المتلقّي تجاه تجربتك؟

هناء علي البواب: أنا شاعرة أعيش في زمن الإيقاع السريع، أي الزمن المعاصر، لكنني وظّفتُ عمود الشعر وقصيدة التفعيلة لمواكبة طبيعة العصر، وها أنا أرى أن من يكتب عن الحب منذ بدء الخليقة كان واحدا يتألم لهجران عشيقته وينبض بحزنه الوحيد وكذلك الذي بكى من الشعراء في عصر ما قبل الإسلام (الجاهلي) هو ذاته الذي يبكي وفي يده جهاز الموبايل.

فالحداثة والمعاصرة لم تغيرانني كوني احتفظت بإصغاء شخصيّ لما يدور حولي من ألم إنساني، وفرح كذلك.

 »الحصاد«: متى تصير الكتابة موتًا بالنسب إليك؟

هناء علي البواب: بالنسبة إلي الكاتب لا يموت، حيث يبقى نصّه يتحرك في ضمير الأمة والقرّاء الذين ينتصرون لأفكاره، فعلى سبيل المثال نرى أن الشاعر التشيلي بابلو نيرودا لم تزل أشعاره تترجم إلى اللغات الأخرى، وتسري قصائده في الضمير الإنساني، وكذلك المفكرون الذين سجّلوا أفكارًا جديدة مثل فرويد، و غاستون باشلار ومثل المبدعين الآخرين مثل بيكاسو، و سارتر، و دالي وآرثر رامبو ومحمود درويش وغيرهم الكثير الكثير من الذين لم يموتوا قط، فقد ماتت أجسادهم وحضرت أرواحهم من خلال أعمالهم.

العدد 107/اب 2020