اغتيال الهاشمي ومسار الكاظمي العسير

د. ماجد السامرائي

شكل اغتيال الباحث الأمني العراقي هشام الهاشمي الحلقة الأكثر بشاعة فيما يمر به العراق من جرائم مافيات المليشيات المسلحة ضد الشباب المنتفض وكل من ينتقد تلك العصابات الخارجة على القانون، وتغوّلها في مرافق الدولة وحلولها كبديل عنها خاصة في الميدان الأمني بعد سيطرتها على الحياة الاقتصادية وموارد البلد في النفط والمنافذ الحدودية وحركة البنوك وبيع العملة والمخدرات.

اغتيال الهاشمي كان رسالة من تلك المليشيات باتجاهين الأول الى جميع العراقيين كتابا وإعلاميين ومثقفين ممن

الباحث الأمني العراقي هشام الهاشمي

يعبرون عبر وسائل الاعلام المتاحة عن حقيقة الوضع العراقي المتردي أمنياً واقتصادياً والأضرار التي ألحقها به النظام الإيراني وإنذارهم من مواصلة منهج الفضح والتنبيه من تلك المخاطر. أما الرسالة الثانية فكانت موجهة الى رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي وتحذيره من التعرض للمليشيات الولائية المسلحة في إطار مشروعه الإصلاحي في القطاع الأمني كأهم قطاع يتعلق بأمن وحياة الناس، وتعويق منهجه بإعادة هيبة الدولة وحصر السلاح بيدها خصوصاً بعد عملية القبض على مجموعة من أفراد تلك المليشيات في منطقة الدورة ببغداد والتي تشكل كتائب حزب الله العراقي حالياً واجهتها الأمنية والإعلامية.

لم يعرف عن الشهيد الباحث الأمني هاشم الهاشمي أية ميول حزبية أو طائفيه، بل كان يتبع المنهج البحثي الأكاديمي في الميدان الأمني مجالاً لطروحاته البعيدة عن الشعارات، ووفرت له ظروف العلاقات والاتصالات المعرفية بالجماعات المتشددة فرصاً للتعمق في خططها ومناهجها مما أعان به النظام السياسي القائم أكثر من أية جهة استخبارية أو أمنية. كان يعمل لبلده، وهو نموذج للنخب المطلوبة في هذا الظرف الدقيق، حيث تحتاج المسألة العراقية الى روّاد طلائعيين في المعرفة والتقصي والتدقيق والإخلاص للعراق أمام ما تعانيه البيئة العراقية من هيمنة الدعوات الغريبة والأفكار المؤدلجة  »الإسلامية« الممهورة بختم ولي الفقيه الإيراني.

لا شك إن الحادثة المأساوية تعيد للأذهان المآسي التي حصلت لشهداء عراقيين خلال موسم الانتفاضة العراقية منذ الأول من أكتوبر عام 2019 حيث أغتيل كتاب وناشطون من قبل ذات الجماعات المسلحة مثل الكاتب والناشط علاء مشذوب وصفاء السراي وهادي المهدي وأمجد الدهامات وثائر الطيب واحمد عبد الصمد وحسين عادل وفاهم الطائي وعبد القدوس قاسم وكرار عادل وعلي الخفاجي، وغيرهم من شباب البصرة وكربلاء والناصرية وغيرها، جميعهم لم يتمكن أو لم يرغب رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي في الوصول الى الجناة، ورغم قصر مدة رئيس الوزراء الجديد لكن لم يسمع الجمهور العراقي شيئاً عن القتلة وهذه المسألة واحدة من التحديّات التي تواجهه فيما يتعلق بعهوده العلنية أمام الشعب.

لا أحد يستطيع القول بأن مصطفى الكاظمي هو السوبرمان الذي سينقذ العراق، لكنه هو أول رئيس حكومة من خارج الإسلام السياسي  »الشيعي« ويحاول تلمس المشكلات بعيداً عن التخندقات الطائفية، وأحيط مجيئه منذ الساعات الأولى بردود فعل سلبية من قبل قادة الأحزاب الموالية لطهران وميليشياتها خاصة كتائب حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وبإسناد من كتلة الفتح التي يتزعمها هادي العامري الموالي لطهران ورفيقه عرّاب تلك المليشيات نوري المالكي. وحين يُسألون : لماذا قبلتم به ووافقتم على تعيينه رئيساً للوزراء؟ يقولون الظرف صعب ولم يكن لدينا خيار آخر، وهي حقيقة جوهرية تعيشها تلك الأحزاب وميليشياتها بسبب تبعيتها للنظام الإيراني الذي يواجه رغم شعارات الكبرياء وضعاً اقتصادياً صعباً يعرقل مشاريعه الكبرى في تأمين الهيمنة على أربعة أقطار عربية دفعة واحدة (لبنان وسوريا والعراق واليمن) فتلك مسؤولية لها تكاليف ومتطلبات.

طهران لم تعجبها خطوات الكاظمي الأولى في متابعة وتقصي فعاليات المليشيات المسلحة وإطلاقها حسب ما تمليه عليها الأوامر صواريخ  »الكاتوشيا« على المنطقة الخضراء ومحيط السفارة الأمريكية، حيث أوحت المليشيات بأن الفقيد هشام الهاشمي كان هادياً أمنياً للكاظمي في تتبع مسار تلك المخططات، ولهذا إنزعجت طهران بصورة صريحة من تلك الفعاليات الكاظمية.

ذكرت وكالة  »مهر« الايرانية إن التحولات والتطورات والتحركات الأخيرة التي حدثت في العراق خلال الأسابيع القليلة الماضية كانت بمثابة ألغاز محيّرة ولكن عندما نضع هذه الألغاز بجانب بعضها البعض تنتج لنا صورةً واضحةً، فقبل استلام مصطفى الكاظمي لمنصب رئاسة الوزراء كانت هذه الصورة غير واضحة. وحين اتفقت الأغلبية الشيعية على تعيين مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء كان هنالك بصيص من الأمل في أن يقوم بالمهام الموكلة إليه في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية بكل ذمّةٍ وضميرٍ وإخلاصٍ، لكن التطورات الأخيرة التي حدثت تظهر أن ما حدث في العراق بعيد عمّا كان متوقّعا منه. وأكدت إن تحركات الكاظمي تهدف إلى تلبية المطالب الأمريكية.

لا يمكن استبعاد الظرف الخاص بالتوترات ما بين واشنطن وطهران عن المشهد العراقي الحالي رغم الدعوات الإعلامية من قبل الرئاسات العراقية الثلاث بإبعاد العراق عن حلبة ذلك النزاع. لكن الواقع يقرأ عكس ذلك، فإيران لا تسمح لعراق ذي سيادة لأن ذلك يجعل العلاقات بين بغداد وطهران متوازنة وبذلك تتراجع المنافع الاقتصادية والسياسية والأمنية ويقل منسوب تدفق الأموال وتهريب النفط من الأراضي العراقي وبذلك تتضرر إيران. لا أحد يصدّق بشعارات المليشيات وزعاماتها محاربة الوجود الأمريكي في العراق، لأن تلك الزعامات جاءت على عربة أمريكية وظلوا متعاونين معهم منذ عام 2003 حتى عام 2011 تاريخ النهاية الرسمية للاحتلال الأمريكي،  أمرت طهران وكلاءها ببغداد تسويق شعار إخراج القوات الأمريكية من خلال القرار البرلماني الذي تسيطر عليه الأحزاب الشيعية وهو القرار الي تحفظت عليه الكتل السنية والكردية، كما إنه ديبلوماسياً قرار غير ملزم إلا إذا روجته الحكومة المركزية وهذا ما يحصل عبر الشعارات العلنية إلا الكواليس تقول غير ذلك، فالأوساط العسكرية والاستخبارية العراقية تعرف مخاطر الانسحاب الأمريكي على الأمن العراقي في تزايد مخاطر جدّية ليست أقل من مخاطر  »داعش« حين غزا ثلاث محافظات ومدن عراقية أخرى عام 2014. ملف الوجود الأمريكي في العراق خضع لإجتماع عراقي أمريكي في الثالث من يوليو الماضي ضمن ما سمي بالحوار الأمريكي العراقي وسط مؤشرات على عدم طلب رسمي عراقي بإخراج تلك القوات. ويبدو إن تعقيدات الوضع الأمني العراقي الجديد قد دفعت قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكينزي الى التصريح بدعم حكومة الكاظمي  »لمواجهة تهديد الميليشيات المرتبطة بإيران بالأخص المداهمات التي شنتها حكومة مصطفى الكاظمي في أواخر يونيو ضد كتائب حزب الله المدعومة من طهران وقال الجنرال الأمريكي  »إن الكاظمي« يسير في حقل ألغام وأرى أنه يتوجب علينا مساعدته«. المسؤولون الأمريكان لديهم قناعة بأن وجود قواتهم في العراق هو قوة ردع لإيران

الإصلاحات المهنية في القطاع الأمني لا ترقى الى مستوى التحديات السياسية الكبرى والملحة أمام الكاظمي، صحيح إنها تضع الأرضية لبناء مؤسسات عراقية بعيدة عن النفوذ الخارجي، لكن تبقى مهمة تجفيف منابع المليشيات لها الأولوية، وخياراته في المناورة محدودة جداً أمام ما اعلنه من تعهدات امام الشعب العراقي وانتفاضته السلمية، فكل خطوة تشم منها المليشيات وزعاماتها رائحة استعادة الدولة لهيمنتها تجابه بحملات إعلامية عنيفة من الزعامات الإسلامية الشيعية وجيوشها الالكترونية.

أمام الكاظمي مسؤولية عاجلة لا تتحمل التأجيل وهي القبض على الجناة قتلة شهداء الانتفاضة وايداعهم لحكم القضاء، وكذلك المتورطين قتلة هشام الهاشمي. طريق الكاظمي ليس سهلاً وهو يسير على صفيح من نار، لكنه امتحان واقعي وجدّي للوطنية الحقة.

العدد 107/اب 2020

.