يباس الزيتون بين قوّة الحق وحق القوّة

الدكتور نسيم الخوري

لماذا لا يثق العرب بالأمم المتحدة التي لا تثق بنا بالمقابل؟ قد يصعب علينا التفريق بعد بين دول الأمم المتحدة وأمانتها العامة والمنظمات الدولية المتخصصة بشكلٍ عام؟

هذه الأسئلة وجيهة ومطروحة كلّ يوم. جاءني جواب من زميل جمعتنا المدينة الجامعيّة في باريس قبل عقود، التقيته في باريس متقاعداً قال: لم نتقدم كعرب في الأمم خطوة واحدة. قضيت عمري هناك  »حكي بحكي« أوراق papers ومؤتمرات workshops وطاولات مستديرة وأسفار وقاعات مبرّدة، ثياب جميلة وياقات منشّاة، فنادق، سهرات، ولائم، تمنيات، بيانات ختامية، لجان صياغة وتوصيات، تقارير ووشاة، معارف دولية، رواتب عالية، زمان دوّار قضيناه كمن يعلك الماء.

إذن لماذا فقدان الثقة؟

لا يثق العالم بنا، أجاب. لماذا لا يثقون بنا ؟ لم أعرف. لم أسمع منهم جواباً مقنعاً.

فعلاً Why don’t they trust us? كرّرها بالإنكليزية.

هذه قضايا تاريخية تستأهل التأمّل والتفكير الذي يحول دون تنفيذ القرارات الدولية المتعلّقة بالحقوق العربية؟ ولماذا تُفرّغ الأمم المتحدة من رسالتها الأولى وميثاقها في قضايانا العربيّة خلافاً لبلدان العالم ؟

هل أنّ الأداء العام للأمم المتحدة هو السبب أم أنّ استراتيجياتها الخاصة ببلادنا قاسية غير عادلة، ومطعون بها منذ فلسطين، ولا ما يقرّبها من الناس والأشياء والأحداث؟ لا هو ولا أنا أعرف.

 نبشت قولاً ل. ستيفان دو ميتسورا رأى فيه يوماً أنّ  »أيّ عربي سيجد صعوبة في التحدث عن فلسطين أو قضايا العرب، مثلاً، من دون انحياز وإلاّ فإنّه سيوصم بالخيانة من أقرانه، ولهذا أمام الأمم المتحدة مشكلة عريقة في ايجاد الأشخاص الذين يتمتعون بهذه الثقافة الموضوعية«. يا للعجب وجهة نظره هذه غير موضوعية على الإطلاق.

هائلة هي المسافات التي لم تفرّخ لغات ورؤى مشتركة بين الثقة والعدالة، بل وسّعت الوعورة العامّة مع بلادنا منبع كنوز الأرض وكنوز السماء التي قدّست هذه البقعة من الكرة. فبأي سراج أبحث اليوم عن عالم متعطّش الى النبعين. إنّها مفارقة هائلة تتجدّد بين الشرق والغرب، مع أنّ العولمة الضامرة قد طمست أو أشاحت وهزّلت كلّ من لا يزال يدوّن لائحة الفروقات بين الشرق والغرب.

كان الجواب الواقف أمامي هو: سواء وثق العرب بأنفسهم أو بغيرهم فتدميرهم يمشي أمامهم حتّى ولو أنّ بساتين الزيتون قادتهم من تونس إلى لبنان مروراً بفلسطين. يغيظني أن أرى زراعة أشجار الزيتون وبرك المياه والنوافير أمام مبانى الأمم المتحدة في لبنان وأكثر من عاصمة عربية لكأنّ الزيتونة صارت موضة العصر وأفرغت من مضامينها. وهنا حكاية:

 سحبتني فكرة أشجار الزيتون الى جدّنا فارس الخوري مندوب سوريا في مؤتمر سان فرانسيسكو (حزيران 1945) الذي اقترح وبإصرار على إحاطة رسم الكرة الأرضيّة في علم الأمم المتّحدة بغصن الزيتون باعتباره رمزاً معبّراً للسلام بين الشعوب بعد الحربين الكونيتين. لقد استلهم جدّي فكرته من طفولته المدموغة بالزيت والزيتون في قرية الكفير مسقط رأسنا في نائي الجنوب اللبناني.

تراني أغطّ ريشتي بزيت الكفير بعدما سئمنا من التفرّج على أجساد أوطاننا وساحاتنا المطوّقة بأساليب التفجيروالتخريب والطرد. لقد أكلتنا الدهشة من كثرة الخرائط المستوردة في مشاريع التقسيم والأعلامٍ الجديدة المتنقّلة من بلدٍ عربي إلى آخر، كان أوّلها العراق وقد نضب عرقنا دماً بعدما إستقرّ فينا الخراب لكثرة الصيغ المستنسخة القديمة لعناوين دينية وأسماء دويلات وتنازع حصص وفدراليات وكانتونات.

تلك هي الصورالتي تشوّه الدين والإقتصاد والحضارة الإنسانية. وهنا أقدّم مثالاً/ سؤالاً يتملك اللبنانيين اليوم كما أنفاسهم فيرميهم في جدل بيزنطي عقيم حول تسمية السوريين الذين فرّوا من سورية الى لبنان. يتخاصمون بين تسميتهم نازحين تسهل عودتهم الى بلدهم أو لاجئين وللتسمية هذه أعباؤها في أدبيات الأمم المتّحدة ومصطلحاتها وأوراقها المخفيّة على إعتبار أن اللاجيء صاحب حقوق تكفلها الدولة التي فتحت له أبوابها قبل أن يصل إليها، وكأنّ المصطلح يغيّر في الواقع شيئاً. لم يعد هناك من معنى دسمٍ للقول أنّ الأمم المتحدة تقف الى جانبكم وتعمل لأجلكم، لاستعادة سيادتكم وبناء مؤسساتكم. إنّ حجم الأموال المتدفّقة تحت عنوان النزوح ومقتضياته والعديد من مؤسساته وجمعياته تراكم الثروات بما يسـتأهل أطاريح دكتوراه حافلة بمرارة الفساد الذي يتجاوز المحاكمات والسجون والإزدواجيات في المواقف والأقوال.

عندما سئل الرئيس فارس الخوري، وللمفارقة النادرة، وكان وزيراً للأوقاف الإسلامية في سورية، عن الذكرى التي لا ينساها في حياته، قفزت إلى لسانه قصّة غصن الزيتون والسلام بين الأمم، فقال:

من الذكريات التي لا أنساها… في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي لم نُدع اليه في بادىء الأمر، وبذلنا جهوداً جبّارة لكي ندعى الى ذلك المؤتمر ونجحنا. في خلال هذا المؤتمر التاريخي بذلت جهد المستميت لتحقيق غرضين، الأول هو تدوين عضويتنا الرسمية في هذا المؤتمر، والثاني إدخال نص في الميثاق على أنّ الأعضاء المؤسسين لمنظمة الأمم المتحدة هم دول مستقلّة استقلالاً تاماً ناجزاً ولا يجوز إخضاع هذه الدول لأي نظام من أنظمة الوصاية والإنتداب. وعندما جلست بدوري لأوقّع على ميثاق الأمم المتّحدة أسوة برؤساء وفود الدول الخمسين الذين اشتركوا بوضع هذا الميثاق وتوقيعه، كانت أجمل لحظة في حياتي السياسية لأنّه بنتيجة هذا التوقيع تخلّصنا من الإنتداب…. ومن غرائب الإتفاق أنّ قرار الأمم المتحدة بوضع نظام خاص بمجلس الأمن والمحافظة على السلام العالمي(25 تشرين الأول 1945) كان هو اليوم نفسه والساعة نفسها التي وضعت فيها وفود الدول العربية في مؤتمر  »سان استيفانو » في القاهرة مبادىء ميثاق جامعة الدول العربية… يومها قلت عند التوقيع:

أرجو أن تكون قوّة الحق في هذه المنظمة الدولية أقوى من حق القوة، واستشهدت بعبارة لأبي بكر الصدّيق حينما ولي الخلافة أنه قال:  »سيكون قويّكم ضعيفاً عندي حتى آخذ الحق منه، ويكون ضعيفكم قويّاً حتى آخذ الحق له«.

أين هي المنظمات الدولية بين قيم التأسيس ويأس العرب وبؤس العالم؟

*كاتب لبناني وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه.

العدد 107/اب 2020