لبنان.. اقتصاد مريض بالسياسة وجرعات العلاج مرة ومؤلمة

عمر مخفي

»هنالك أناس فقراء جدا، لا يملكون سوى المال« يقول جبران خليل جبران. وإلقاء نظرة فاحصة على  »فقراء جبران« تؤكد أن عددا مهما منهم يملك أسباب فقره المجازي: السلطة السياسية الفاسدة أو الفاشلة. ففي العالم العربي، لا يكاد يوجد بين السياسيين من لا يعاني من ضائقة  »الفقر الجبراني«، والسبب سياساتهم الممتدة لعقود في خدمة مصالح ضيقة دون الالتفات لعلل الاقتصاد، المزمن منها والعابر.

شكل استقرار الليرة عامل أمان للبنانيين في محيط غير مستقر. وانهيارها يكشفهم لكل المخاطر

في لبنان، بلد جبران، لم يعد الحديث عن الفقر ترفا بلاغيا، بل صار واقعا يرزح تحت ثقله أكثرُ من نصف اللبنانيين، ونابًا ينهش شرائحَ كانت إلى وقت قريب مصنفةً ضمن الطبقة الوسطى. والسبب القريب (الذي ليس في الواقع سوى نتيجةٍ لأسباب بعيدة ومتراكمة) هو انهيار الليرة اللبنانية الذي نزل بقدرة اللبنانيين الشرائية إلى الحضيض، والتهم مدخراتهم، وأدخل بلدهم في نفق اقتصادي لا يشبه في حُلكتِه أيّا من الأنفاق التي خبِرَها على امتداد تاريخه الحديث المضطرب.

الليرة.. ورقة توت..

الليرة المتهاوية هي النهاية التراجيدية لثلاثة عقود من سياسات كان أغلب همها مصلحة الشخص والعائلة والطائفة، ولا مكان فيها تقريبا للوطن أو للمنفعة العامة. سياسات لم تنجح في أي من استحقاقات الاقتصاد والمجتمع: فلا خفضت حجم الدين العام، ولا العجز المتفاقم في ميزان المدفوعات، ولا لجمت التضخم، ولا خفضت مستويات البطالة، ولا بوأت لبنان المكانة السياحية التي يستحقها، ولا حسنت مناخ الاستثمار فيه، ولا وفرت الكهرباء، ولا حافظت على البيئة، وقائمة اللاءات تطول. كان استقرار الليرة لثلاثة عقود عند 1500 مقابل الدولار الواحد هو المكسب الاقتصادي الأهم الذي يتكئ عليه اللبنانيون في محيط زاخز بعدم اليقين، حتى وإن اعتبر هذا الاستقرار كابحا للنمو. وها هي الليرة اليوم تسقط كورقة توت عن عورة طبقة سياسية تعيش خريفها الطويل دون ندم ولا توبة.

انهيار العملة ليست احتكارا لبنانيا. ففي سياق الضغوطات الاقتصادية التي فاقمتها أزمة كورونا، تراجعت قيمة عدد من العملات العربية ـ وإن بنسب متفاوتة ـ كريال اليمن، وليرة سوريا، ودنانير العراق والجزائر وليبيا وتونس والأردن، وجنيها مصر والسودان. إلا أن انهيار الليرة اللبنانية لا يقارن في فداحته إلا باليمن وسوريا، البلدين الذين تعصف بهما أسوأ الأزمات الأمنية والإنسانية في المنطقة والعالم. وبصيغة أخرى، فإن ما جرى في بلاد الأرز خلال أشهر يعادل في تأثيره حربا مدمرة من عدة سنوات!

كلنا في الهم شرق

لا شك أن للبنان خصوصيته التي تجعل سياق الأزمة الاقتصادية ومآلاتها مختلفين عن بقية البلدان العربية المأزومة. ومن ذلك ارتباطه بسوريا وانعكاس انهيار عملتها عليه مع اقتراب الحرب الأهلية السورية من عقدها الأول ودخول عقوبات  »قانون قيصر« حيز التنفيذ. وعانى لبنان بشكل خاص من عبء استقبال اللاجئين السوريين الذي كلفه 18 مليار دولار في السنوات الخمس الأولى فقط للأزمة، فضلا عن خسارته لبضع نقاط من نموه السنوي. وهذا العبء لوحده قد يحتاج إلى حزمة مالية تفوق العشرين مليار دولار خلال السنوات العشر القادمة لتعويض ما نجم من خسائر عن أزمة  »الشقيقة الكبرى«.

لكن خصوصية لبنان لا تنفي واقع كونه يتقاسم مع بقية الدول العربية المأزومة  ـ وهي السواد الأعظم في هذه الأمة ـ وصفة الفشل الاقتصادي والاجتماعي المزمن. ومن عناوين تلك الوصفة  ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ غياب الحكم الرشيد وسيادة القانون، وضعف الجاذبية الاستثمارية وطغيان اقتصاد الريع والامتيازات، وسيادة الفساد كنمط

مطالب التغيير في لبنان تحركها القناعة بأن السياسة هي أصل الداء، وأن الاقتصاد هو أحد أضرارها الجانبية

اقتصادي قائم الذات يعمل في دورات تغذيها الحسابات والتواطؤات السياسية ويدفع ثمنها الوطن والمواطن.

ركوب المضطر

أمام هذا الوضع، لا يملك لبنان هامشا كبيرا للحركة. فقد عز بعض الأصدقاء ممن هبوا سابقا لنجدته بسبب تبدل أحوال الاقتصاد وتعكر مزاج السياسة، وغرِقَ البعض الآخر في أزمات داخلية تلهيه عن شأن لبنان، أو بالأحرى عن شأن حلفائه اللبنانيين. أما مقررات  »سيدر« لعام 2018 وتعهداتها التي ناهزت 11 مليار دولار من القروض والمنح، فتبدو كشجرة فاكهة شهية لكنها قطوفها ليست دانية. فدون الاستفادة منها قائمةٌ طويلة من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية التي يتطلب تنفيذُها جهدا ووقتا حتى ولو توافرت الإرادة السياسية لذلك. فإجراء حمية للإدارة العامة وتخفيف عبئها عن كاهل الموازنة وتسريع إجراءاتها، وتشجيع الاستثمار الخاص، وإطلاق برنامج للخصخصة، ومحاربة الفساد، وتوفير الكهرباء (ثقب الأوزون في اقتصاد لبنان)، وخفض عجز الموازنة، وتنشيط الصادرات، كلها استحقاقات اعتادت الحكومات اللبنانية المتعاقبة على تدبيجها في برامجها دون أن تنجز ما يستحق الذكر بشأنها. وهي في جميع الأحوال استحقاقات تستغرق وقتا لا يملك لبنان ترف انتظاره. وعليه، قد يساعد الإعلان عن إجراءات عاجلة بشأن هذه القضايا في تحرير بعض المنح الموعودة ولكن ليس بالحجم الكافي لمواجهة الأزمة الراهنة.

أسرع الحلول أمام لبنان قد يكون طوق نجاة يرميه صندوق النقد الدولي، يحول دون الغرق لكن دون أن يسحب البلاد إلى شاطئ النجاة. لكن للصندوق شروطه المؤلمة التي تمس القرار السيادي اللبناني في الصميم. وأحد تلك الشروط ينسج على منوال  »وداوني بالتي كانت هي الداء«، فهو يدعو لتعويم الليرة البنانية، أي تحرير سعر صرفها وتركه لموازين العرض والطلب في سوق النقد. ذات الليرة المتهالكة!

مقامرة خطيرة

التعويم الذي أعلنت الحكومة اللبنانية استعدادها للقبول به دون أن تخوض في آليات وآجال تنفيذه، يعد مقامرة خطيرة. ويكفي النظر إلى تجارب التعويم في المنطقة والعالم لكي نعرف أن خطر موجة ثانية من الانهيار قد تضرب الليرة تماما كما يضرب فيروس كورونا في موجته الثانية عددا من بلدان العالم. في مصر فقد الجنيه أكثر من نصف قميته قبل أن يستقر اليوم عند 16 جنيها لكل دولار أمريكي. وشهدت الأشهر الأولى للتعويم انهيارا في القدرة الشرائية للمصريين، وتبخر جزء كبير من المدخرات والاستثمارات بالعملة الوطنية، فضلا عن ارتفاع حجم الدين العام. لقد مرت مصر بامتحان عسير كان يمكن  ـ في ظرف مختلف ـ أن يكلف ثمنا سياسيا باهظا. لكنها عبرت مطبات التعويم واستقر سعر صرف الجنيه، وتحسنت أغلب المؤشرات الاقتصادية (ارتفاع الاحتياطي النقدي، فائض في ميزان المدفوعات، ارتفاع تحولات المصريين بالخارج، تحسن الاستمثار الأجنبي، إلخ). ومع ذلك يظل النموذج المصري غير مغر في ظرف سياسي واقتصادي مترنح، خاصة وأن لمصر مقومات لا يملكها لبنان.

وقد يكون النموذج الآمن هو تعويم مدار مثل الذي قام به المغرب لعملته الدرهم، حيث سمح بتقلبات في سعر الصرف لا تتجاوز 2.5 في المئة نزولا ومثلها صعودا. وهو ما حافظ على استقرار الدرهم وجنب البلاد تداعيات اجتماعية هو في غنى عنها، وإن كانت آثاره الاقتصادية غير ملموسة حتى الساعة. وهذا النموذج يحتاج إلى وضع تفاوضي لا يمكله لبنان مع الصندوق في الوقت الراهن، كما أن الصندوق لا يحبذه ويدفع اليوم حكومة الرباط باتجاه تغييره. لذلك فإن المرجح أن يفرض الصندوق تعويما كاملا على شاكلة مصر.

اختبار ضغط لليرة

قد يرى البعض أن الليرة اختبرت بما فيه الكفاية خلال هذه الأزمة، وأن هوامش تأرجح سعر صرفها في حال التعويم باتت معروفة. أي بين سعر صرف مصرف لبنان المحدد في 1500 ليرة للدولار الواحد، وسعر السوق السوداء الذي بلغ مداه  ـ حتى الساعة ـ 9500 ليرة للدولار. وبين الهامشين هنالك سعر الصرف المخصص لدعم الواردات وهو2300 ليرة، وسعر التداول لدى الصرافين ويتراوح بين 8500 و9000 ليرة. غير أن هذا الرأي تقريبي، ولا يملك أصحابه مؤشرات حقيقية على أي سعر ستستقر الليرة بين هذه الفرشاة الواسعة لتذبذب سعر الصرف، حتى ولو افترضنا أن سعر السوق السوداء هو أسوأ ما قد تصل إليه الليرة (وهو أمر غير مضمون).

والواقع أن أحد مشاكل التعويم الموصى به من قبل صندوق النقد هو أنه وصفة جاهزة يوصى بها لكل البلدان بمعزل عن خصوصية اقتصاداتها، وعناصر قوتها أو ضعفها، والأسوأ من ذلك كله بمعزل عن تأثيراتها المحتملة على الناس. وإذا كانت النتائج السلبية للتعويم معروفة كما رأيناها في النموذج المصري، فإن صندوق النقد يعتبرها مرحلية ويرجح التحكم في آثارها بعد فترة وجيزة، والتغطية عليها من خلال الإيجابيات التي يفترض أن التعويم يمنحها للاقتصاديات، من قبيل رفع قيمة الاستثمارات الخارجية ورفع جاذبية الاستثمار وزيادة تحويلات المغتربين. قد يكون الأمر كذلك لو كانت أزمة لبنان اقتصادية فقط، لكنها أزمة سياسية بالدرجة الأولى. أزمة نخبة تعيد إنتاج نفسها منذ خمسة عقود، وتعيد توليد نفس أسباب التأزم التي تصيب لبنان بأمراض مزمنة وتدخله بين الفينة والأخرى إلى غرفة الإنعاش كما هو الحال اليوم.

 »نحن نختار أفراحنا وأحزاننا قبل وقت طويل من أن نجربها«، يقول جبران. وقد جرب اللبنانيون كثيرا من الحزن قليلا من الفرح خلال أربعة عقود ونصف من الحرب والسلام. وربما حان الوقت ليعيدوا الاختيار، لهم ولأبنائهم وللبنانهم.

العدد 107/اب 2020