هاتف الريح

سهير آل إبراهيم

تعرضت اليابان عام 2011 الى زلزال كان الاقوى في تاريخ البلد، والرابع عالميا من حيث شدته. اثار ذلك الزلزال مياه المحيط الهادىء فاكتسحت بضراوة مناطقا واسعة من الساحل الشرقي للبلاد. خلف ذلك الزلزال والتسونامي الناتج عنه خسائر جسيمة في الأرواح إضافة الى الدمار الذي طال الكثير من البنى التحتية والممتلكات الشخصية للمواطنين. كانت الخسارة مضاعفة بالنسبة لكل من كُتبت له النجاة وبقي ليعيش مع خساراته المتعددة من فقد الأحبة الى فقد المسكن ومورد العيش. لم تستغرق تلك الكارثة الطبيعية اكثر من دقائق لكنها بلا شك تركت في نفوس الناجين جراحا لا يسهل شفاؤها.

يحاول بعض الناس ايجاد طرق مختلفة تمكنهم من التعايش مع الحزن الذي ينشأ عن الفقد والخسارة، وقد تكون بعض تلك الطرق جديدة وغير مألوفة، كما هو الحال مع بعض الناجين من تلك الكارثة في واحدة من المدن التي ضُربت بشدة وانهارت تحت غضب الطبيعة خلال زمن قصير جدا.

في العام السابق لوقوع ذلك الزلزال، وفي مدينة اوتسوشي المطلة على المحيط الهادىء، اجتاح الحزن قلب واحد من سكانها واسمه ايتارو ساساكي، اذ فقد قريبا له كانت تربطهما علاقة قوية. أحس ساساكي ان لديه الكثير من الكلام ليخبر قريبه الاقرب الى قلبه، لكن الموت كان أسرع فلم يتح له فرصة الحديث. فكر ساساكي بطريقة تواصل يشعر من خلالها ان كلامه ومشاعره تصل الى قريبه في العالم الآخر، لذلك قام بنصب كشك للهاتف في الطرف القصي من حديقة داره التي تطل على المدينة من فوق احد التلال، ووضع فيه جهاز هاتف قديم بقرص ارقام دوار، وترك سلكه سائبا دون ان يوصله مع شركة خدمات الهاتف. اراد لذلك السلك ان يبقى غير موصول كي ينساب الكلام منه فتحمله الريح الى قريبه في العالم الآخر. صار ذلك الهاتف يعرف بـهاتف الريح، وكان متاحاً لمن يشعر بالحاجة الى استخدامه لنقل رسالة الى من يود من احبته الراحلين.

بعد وقوع تلك الكارثة الطبيعية وما نتج عنها من أعداد كبيرة من الضحايا، تذكر الناجون ذلك الهاتف، كان البعض منهم يتوق الى استخدامه وبث مشاعرهم من خلاله الى الاحبة في العالم الآخر، وهكذا تحول هاتف الريح الى مزار يقصده الناس من سكان تلك المدينة ومن خارجها ايضا، فالموت لا يترك باباً لا يطرقه. يذكر احد التقارير المحلية في تلك المدينة ان عدد زوار هاتف الريح تجاوز العشرة آلاف زائر خلال السنوات الثلاث التي اعقبت الزلزال. كان البعض يذهب ليجري اتصالا واحدا فقط، بينما صار آخرون زوارًا دائميين يقصدون الهاتف على فترات منتظمة. اصبح هاتف الريح من المعالم السياحية في ذلك البلد، اذ تحدد بعض مواقع حجز الرحلات السياحية الى اليابان موقعه وتبين كيفية الوصول اليه؛ يبعد عن العاصمة طوكيو مسافة تُقطع خلال سبع ساعات بالسيارة، كما يمكن الوصول اليه باستخدام احد القطارات عالية السرعة.

قد تبدو فكرة الاتصال بالموتى عبر جهاز هاتف فكرة غريبة وربما مضحكة بالنسبة الى البعض، ولكنها برأيي لا تختلف كثيرا عن أساليب التواصل مع الموتى المألوفة لدينا؛ فالمسلم يهدي سورة الفاتحة وآيات وسور اخرى من الذكر الحكيم لأرواح أحبته الراحلين، أو يدفع الصدقات من أموال أو طعام لأجل ان يصل اجرها وثوابها الى من فقدهم. ولا تختلف عن ذلك فكرة ايقاد الشموع ووضع الزهور على قبور الموتى.

يتواصل المكسيكيون مع موتاهم بطقوس احتفالية خاصة تستغرق ثلاثة أيام، تُعرف بـ (يوم الموتى)، تبدأ تلك الطقوس في امسية اليوم الأخير من الشهر العاشر في السنة الميلادية، وتبلغ الاحتفالات ذروتها في اليوم الثاني من الشهر التالي. يعتقد المكسيكيون ان أرواح من غادروهم تعود الى عالمنا هذا للحظات قصيرة خلال تلك الأيام الثلاثة، لذلك تقوم العائلة بإعداد ما يشبه المذبح الموجود في الكنيسة، حيث تعد طاولة توضع عليها صور المتوفي مع بعض مقتنياته الشخصية ذات الاهمية العاطفية له او لأسرته. تُهدى الزهور للميت وتُحرق اعواد البخور بالاضافة الى وضع الصلبان على المائدة مع صور القديسين واصناف الطعام المفضلة عند العائلة والتي كانت مفضلة لدى المتوفي ايضا. يأخذ افراد العائلة الطعام الى المقبرة، ليس لغرض تناوله بين الموتى وانما لتناوله معهم!

خلال القرون الوسطى في أوروبا كان التعبير عن الحزن الناجم عن الموت يتم في طقوس جماعية عامة تتضمن تحضيرات محددة وبحضور العائلة والجيران والاصدقاء، تتخلل تلك الطقوس الموسيقى والألعاب اضافة الى تقديم الطعام والشراب. اعتاد الناس آنذاك التعبير عن الحزن بحرية وبدون أي قيود، عكس ما هو متعارف عليه الان حيث يفترض ان يتحكم الشخص بانفعالاته وان لا يظهرها في العلن قدر الممكن. تحول التعبير عن الحزن من طقس جماعي عام الى طقس عائلي او فردي خاص جدا.

لا تزال بعض المجتمعات تفترض التعبير عن الحزن وفق طقوس محددة، حيث يتم التعبير عن المشاعر بطرق استعراضية معتادة ومألوفة، كالبكاء والصراخ والعويل وفقا لانماط متعارف عليها.

من العادات والتقاليد التي كانت سائدة في سكوتلاندا وايرلندا جلب نائحات لاداء (أغانٍ الى الموتى)، حيث تغني النائحة، أو ما تعرف بـ (كينر)، أغانٍ محددة بطريقة تثير العواطف وتسكب الدموع والاحزان، تلك وظيفتها التي تتقاضى عليها اجرا من أهل المتوفي، وقد تستمر في غناء المراثي والبكائيات قرب جسد المتوفى لعدة أيام الى ان يتم دفنه. انحسر ذلك التقليد بمرور الزمن وتضاءل بشكل كبير، بسبب معارضة الكنيسة الكاثوليكية له باعتباره تقليدا وثنيا. الا ان هناك من يأسف على انحسار ذلك التقليد وموته. تقول ماري لويز موير، مقدمة البرامج في راديو بي بي سي، ان وجود  النائحة في مراسيم توديع المتوفى وما تغنيه من رثائيات بألحان حزينة، يساعد اهل المتوفى والحضور على التنفيس عن احزانهم وتخفيف ثقلها على صدورهم. تقول ان الانسان المعاصر يجد صعوبة احيانا في التعبير عن الاحزان الكبيرة بدون وجود عامل مساعد على ذلك.

تظهر الندابات في الرسوم الفرعونية يحملن الدفوف ويضربن عليها، لتهيئة الفرصة لمن يحتاج البكاء بصوت مسموع.

يطول الحديث ان اردنا البحث والخوض في هذا الموضوع في المجتمعات والثقافات المختلفة، ولكن يبدو لي ان ما يوحدها جميعا هو ايمان الانسان بالخلود ورغبته في الشعور ان وجوده في هذا الكون الفسيح لا ينتهي بموت الجسد، فالجسد هو الجزء الفاني من كيان الانسان، لكن الروح هي الجزء الاهم من ذلك الكيان، تلك النفحة التي بثها الخالق في الجسد لاحيائه.. الروح خالدة لانها نفحة من الخالق الازلي الابدي، وفي هذه الفكرة عزاء وامل للكثيرين.. ربما!

العدد 107/اب 2020