واشنطن وبيروت: المسار التجريبي

قراءة واشنطن ومستقبل سياساتها وطبيعة التسوية مع إيران تحدد مصير لبنان

محمد قواص (*)

تأتي الفاجعة التي أصيب بها لبنان في الشهر الماضي لتتوج سياق الإنهيار الكبير الذي لاحت سماته بخطورة منذ سنوات. وعلى الرغم من ويلات الحروب الكبرى والصغرى وويلات الحرب الأهلية والتفجيرات الإجرامية، فلم يسبق لهذا البلد أن شهد حالة التدمير المروعة التي تعرضت لها العاصمة بيروت جراء انفجار مرفأ بيروت. وبغض النظر عن ظروف الحدث والمسؤولية الداخلية والخارجية عنه، فإن السياق السياسي العام يشرع الأبواب أمام الاحتمالات المقبلة لمستقبل لبنان بالاستناد، خصوصا، على طبيعة العلاقات المعقدة بين البلد والولايات المتحدة، لكون الأخيرة تملك مفتاح الحل والربط في ملفات المنطقة، خصوصا التي تتعلق مباشرة بمسار ومصير لبنان، ولكون السياسة المباشرة التي انتهجتها الإدارات الأميركية حيال لبنان المتتالية تؤسس هذه الأيام لفهم واقع البلد وطبيعة آفاقه.

وقد تعاملت الولايات المتحدة على مر العقود السابقة مع لبنان بصفته واحدا من دول النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط على الرغم من تأثيرات الأجواء المعادية لواشنطن في العالم العربي المتأثرة بشروط الحرب الباردة وما حملته تلك الحقبة من أيديولوجيات. ولطالما استخدمت واشنطن الميدان اللبناني لفرض توازنات وتسويات وفرض أمر واقع في الشرق الأوسط. ومع ذلك لم تعامل الولايات المتحدة لبنان بصفته حليفا استراتيجيا يستحق التحرك للدفاع عنه وصون مصالحه على منوال ما فعلت نصرة لحلفائها في المنطقة والعالم في مناسبات معروفة.

الولايات المتحدة ولبنان: السياسات الارتجالية

وقد ظهر اهتمام استثنائي أميركي بلبنان ضمن سياق استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة وليس ضمن سياق لبناني صرف. ويظهر التدخل العسكري الأميركي في لبنان عام 1958 من ضمن التحرك دفاعا عن  »حلف بغداد« آنذاك، كما أن التدخل الأميركي العسكري في ثمانينيات القرن الماضي جاء في مرحلة أولى بهدف تأكيد القضاء على

لم يشهد لبنان والعالم انفجارا بهذا الحجم منذ ناغازاكي وهيروشيما

منظمة التحرير الفلسطينية ومراقبة إجلاء قواتها من لبنان، وجاء في مرحلة ثانية بهدف فرض أمر واقع جديد داعم لنظام الحكم في لبنان برئاسة أمين الجميل لتكريس موازين قوى إقليمية دولية جديدة فرضها الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

غير أن الولايات المتحدة أثبتت في تجاربها اللبنانية أنها غير معنية بالانخراط في سياسات الحد الأقصى للدفاع عن مصالحها في لبنان، وأنه لطالما كانت تتراجع عن بذل جهد مباشر مقابل اكتفائها بالاتساق مع الأمر الواقع والسعي لإيجاد تسويات معه. لم تذهب الولايات المتحدة بعيدا في عملية الانزال العسكري في لبنان عام 1958، كما أن عمليات التفجير التي تعرضت لها سفارتها كما ثكنة للمارينز في لبنان (1983) دفعت واشنطن في عهد الرئيس الراحل رونالد ريغان إلى سحب القوات الأميركية من هذا البلد وإعادة التسليم بالوصاية السورية على لبنان.

وتمثل مرحلة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وتغول الهيمنة الإيرانية على لبنان بعد ذلك، مثالا آخر على ارتباك الموقف الأميركي وصولاً إلى انكفائه إلى درجة الشلل في أعقاب قيام حزب الله بعمليته العسكرية ضد خصومه في 7 أيار/مايو عام 2008. فقد وجد مايفترض أنهم حلفاء واشنطن في لبنان أنفسهم وحدهم في معركة تستهدفهم، على الرغم مما أشيع عن موقف غربي تقوده الولايات المتحدة دعماً لانتفاضة اللبنانيين عام 2005 ضد الوجود السوري في لبنان.

ومع ذلك لا يمكن التقليل من أهمية النفوذ الأميركي في لبنان وتماهيه مع ثقافة وتقاليد سياسية هيمنت على البلد منذ استقلاله عام 1943. ولا يمكن في الوقت عينه إلا الاعتراف بأن القوى الإقليمية التي اصطدمت مع المصالح الأميركية في لبنان (عسكريا وأمنيا بما في ذلك خطف مواطنين أميركيين) أخذت دائما بعين الاعتبار الحرص على إيجاد نقطة توازن تستطيع داخلها التعايش مع الحقيقة الأميركية في لبنان.

ويسود اعتقاد بعدم وجود سياسة للولايات المتحدة في لبنان على منوال السياسة التي تعتمدها واشنطن مع دول مثل

رونالد ريغان سحب قوات بلاده من لبنان بعد تفجيرات طالت السفارة والمارينز في لبنان

مصر وإسرائيل ودول الخليج. ويعزز هذا الاعتقاد أن السوابق الأميركية في هذا الصدد كشفت عن سياسات تجريبية موضعية لم تتغير حيال لبنان ما بين الجمهوريين والديمقراطيين داخل الإدارة الحاكمة في واشنطن. وتفصح هذه السياسات عن رشاقة في التنصل من سياسة والالتحاق بأخرى على نحو صدم اللبنانيين منذ رعاية الولايات المتحدة لوصاية دمشق على البلد، مرورا بغياب الرد على الهجمات التي طالت الوجود العسكري والمدني الأميركي، انتهاء بالامتناع عن توفير سياسة رادعة لموجة الاغتيالات التي طالت شخصيات سياسية لبنانية والتي نشطت منذ ما قبل اغتيال الحريري في شباط 2005.

وقد تجدد اهتمام الإدارات الأميركية بلبنان في السنوات الأخيرة من بوابات متعددة:

الأولى: بوابة الثقل الإيراني في لبنان والذي يعبر عنه حزب الله وما تمثله قوته العسكرية من تهديد لأمن إسرائيل.

الثانية: بوابة النزاع حول الحدود البرية والبحرية بين إسرائيل ولبنان وما يمثله هذا النزاع من مخاطر على أنشطة التنقيب عن الغاز في حقول شرق المتوسط.

الثالثة: بوابة مكافحة الإرهاب، وبالتالي دور لبنان العسكري والأمني والمخابراتي في هذا الشأن.

الثوابت والمقاربات الأميركية :

على نحو مخالف لبعض الدول الأوروبية (لا سيما فرنسا)، لا تتعامل الولايات المتحدة نهائيا مع حزب الله وتتمسك بمعاملته معاملة الجماعات الإرهابية. غير أن واشنطن، ورغم إدراكها بحجم الهيمنة التي يمتلكها الحزب على الدولة اللبنانية نفسها، استمرت في التعامل مع الدولة ومؤسساتها، كما تتعامل الولايات المتحدة مع الحكومات اللبنانية على الرغم من مشاركة حزب الله بها، إلا أنها لا تتعامل مباشرة مع الوزارات التي يتولى إدارتها وزير من الحزب كما أنها

سياسة واشنطن حيال لبنان واحدة بين الجمهوريين والديمقراطيين

تحجب عنها أي برامح دعم وتعاون. وعلى هذا فإن الدبلوماسية الأميركية تفصل في لبنان بين الدولة بمعناها الدستوري المؤسساتي وبين واقع أن البلد محكوم بإرادة حزب الله وفائض سلاحه.

ووفق هذه الدينامية اعتمدت واشنطن منذ ولايتي باراك أوباما استراتيجية محسوبة تعتمد على المقاربات التالية:

1- تولي متابعة ملف النزاع الحدودي الإسرائيلي ورعاية وساطة جدية مثابرة بين البلدين في محاولة لإيجاد تسوية تقود إلى ترسيم هذه الحدود.

ولم يفلح الوسيط الأميركي حتى الآن في تحقيق تقدم داخل هذا الملف بسبب خلاف في رؤية البلدين وتخوف لبنان من انحياز الوساطة الأميركية لصالح إسرائيل، خصوصا أن إسرائيل، بتسويق أميركي، تسعى لترسيم الحدود البحرية وتأجيل الترسيم البري، فيما يرى لبنان أن حاجة إسرائيل إلى ترسيم بحري يطلق العمل في حقولها البحرية من الغاز، يشكل مناسبة ضاغطة لترسيم الحدود البرية.

غير أن هذا الملف ليس جغرافيا تقنيا فقط، بل هو ورقة يمسك بها حزب الله ومن ورائه إيران، بحيث يراد أن يتعلق البت به بتسوية شاملة مع إيران في أي مفاوضات دولية مقبلة. وعلى هذا فإن مسألة المفاوضات حول النزاع الحدودي ليست بيد الحكومة اللبنانية بل بيد رئيس مجلس النواب، حليف حزب الله، نبيه بري، الذي يزوره الوسطاء الأميركيون لبحث هذا الملف.

قد تنجح فرنسا في التأثر على السياسة الأميركية في لبنان

2- القيام بحملة ضغوط غير مسبوقة ضد حزب الله من خلال قوانين بدأت واشنطن باصدارها قبل تولي الرئيس الحالي دونالد ترامب سدة الرئاسة في بلاده. وقد أدت هذه الحملة إلى ملاحقة لشبكات حزب الله المالية في العالم، وإلى تفكيك شبكات له في أميركا اللاتينية وأوروبا وأفريقيا. غير أن البارز هو نجاح الإدارة الأميركية في حرمان حزب الله من النظام المصرفي اللبناني، من خلال شبكة من العقوبات طالت بعض المصارف اللبنانية أدت إلى إغلاقها، على نحو سعّر التوتر بين حزب الله والمنظومة المصرفية اللبنانية بقيادة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي تشهد له واشنطن التزامه بالتعاميم الأميركية التي تهدف إلى تقييد منظومة الحزب المالية في لبنان والعالم.

ورغم خشونة العقوبات الأميركية على حزب الله والتي طالت بعض المصارف اللبنانية، ورغم الحديث عن إمكانية فرض واشنطن عقوبات على شخصيات لبنانية حليفة للحزب (مثل زعيم حركة أمل نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل)، ورغم أجواء في الكونغرس تطالب بتفعيل قانون ماغنسكي لمكافحة الفساد ليطال رموز الفساد في لبنان، إلا أن الإدارة الأميركية لم توسع حتى الآن مساحة عقوباتها حرصا منها على حصر التصويب على حزب الله وتجنب اتخاذ إجراءات من شأنها تهديد الاستقرار في لبنان.

وعلى هذا ما زالت الولايات المتحدة متمسكة بسياسة العقوبات القصوى على حزب الله التي قد تطال دوائر جديدة داعمة للحزب دون أن تصل الأمور إلى حد معاقبة لبنان واللبنانيين. وتعول واشنطن على هذه العقوبات لارباك الحزب وتقييد حركته وتأليب الرأي العام الحاضن ضده. وتسود قناعة أميركية أوروبية بضرورة المحافظة على تماسك البلد واستقراره وتجنب الفوضى التي قد تسبب تسونامي من اللاجئين السوريين (حوالي1.5 مليون لاجئ وفق التقديرات الحكومية اللبنانية) باتجاه القارة الأوروبية.

وبناء على ذلك ستكون واشنطن حذرة في المدى الذي ستذهب إليه لمواجهة سعي إيران للتمدد اقتصاديا نحو لبنان من

واشنطن تتعامل مع حكومات يشارك بها حزب الله لكنها لا تتعامل مع وزرائه

خلال اقتراح تزويد لبنان بحاجاته السلعية أو العسكرية أو النفطية، وتمارس في هذا الصدد سياسة التحذير التي ما زالت حتى الان كافية لردع لبنان عن الذهاب بعيدا في اختراق العقوبات الأميركية على إيران. وقد أكدت الولايات المتحدة على لسان سفيرتها في بيروت دوروثي شيا أن قانون قيصر يطال سوريا ولا يستهدف لبنان، فيما أُفيد أنها، وعقب إثارة الموضوع معها من قبل رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، طلبت من الحكومة اللبنانية تقديم لائحة بالتعاملات التي تود بيروت الاستمرار بها مع سوريا ليجري درسها في واشنطن وبحث إمكانية استفادة لبنان من بعض الإعفاءات.

3- التمسك بدعم الجيش اللبناني واعتباره ذراع الدولة لتقوية الشرعية. وقد استمر هذا الدعم على الرغم من الحملة التي شنتها إسرائيل في الولايات المتحدة ضد هذه السياسة والزعم باختراق حزب الله للمؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية، وعلى الرغم من دعوات داخل الكونغرس لوقف دعم لبنان، بما في ذلك للجيش اللبناني، بسبب نفوذ وهيمنة إيران وحزبها على القرار السياسي كما قرار السلم والحرب.

ويعتبر البنتاغون لبنان عضوا نشطا في الحرب ضد الإرهاب. وقد نوه جنرالات الجيش الأميركي بالأداء الجدي للجيش اللبناني في مكافحة جماعات الإرهاب وتنظيم داعش خصوصا، كما حافظت واشنطن على برامج التسليح والتدريب، كما الاستقبال الدوري لقائد الجيش اللبناني جوزيف عون في الولايات المتحدة والإشادة بشخصه ودوره، على نحو بات معه جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر وصهر رئيس الجمهورية ميشال عون، يعتبره منافسا جديا له على موقع الرئاسة في المستقبل ويعمل على إخراجه.

العلاقات الأميركية اللبنانية: نقاط الضعف والقوة

تمثل مسألة دعم الإدارة الأميركية للجيش اللبناني علامة استقرار في سياسة الولايات المتحدة حيال لبنان ونقطة قوة لصالح تمتين علاقات البلدين. ويعتبر الموقف الأميركي الداعم لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة من العوامل التي أدت إلى صموده في موقعه على الرغم من الحملات التي شنت عليه من قبل حزب الله بسبب التزامه بالعقوبات والمعايير التي فرضتها وزارة الخزينة الأميركية ضد الحزب وشبكة حساباته داخل النظام المصرفي اللبناني. ومع ذلك فإن قدرة العوامل الإقليمية والمحلية على إزاحة مقربين لواشنطن داخل الإدارة اللبنانية ما زال واردا دون أي اعتبار لوزن الولايات المتحدة في العالم (استبعدت التعيينات مؤخراً محمد البعاصيري عن موقعه كنائب لحاكم مصرف لبنان وهو شخصية قيل أن واشنطن ترتاح في التعامل معها).

وتكمن نقاط الضعف في العلاقات اللبنانية الأميركية إلى اعتبارات تتعلق بلبنان وأخرى بالولايات المتحدة.

1- لا يشكل لبنان أهمية اقتصادية كبرى كتلك التي توفرها دول مجلس التعاون الخليجي ولا أهمية استراتيجية كتلك التي توفرها دول مثل تركيا ومصر وإسرائيل، كما أن لبنان فقد فرادته كجسر بين الشرق والغرب على النحو الذي كان عليه في العقود الغابرة، ناهيك عن أن وقوعه بشكل فج داخل ميادين النفوذ الإيراني يجعل من لبنان فرعا لا أصلا في صراع واشنطن وطهران. وعلى هذا فإن الولايات المتحدة التي تمارس ضغوطا قصوى هذه الأيام على حزب الله ولبنان تحت عنوان أولويات الإصلاح، قد تذهب إلى انتهاج تسويات انقلابية مفاجئة تذكّر اللبنانيين بتسوياتها مع النظام في سوريا في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، والتي قادت إلى التدخل العسكري السورية عام 1976.

2- ترتبط استراتيجيات الولايات المتحدة حيال لبنان مباشرة بسياساتها في المنطقة، خصوصا لجهة تلك المتعلقة بمستقبل الصراع مع إيران لا سيما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. كما ستتأثر العلاقات الأميركية اللبنانية بمستقبل السياسة والوجود الأميركيين في العراق ومآلات الصراع في سوريا وآفاق توفر تسوية سياسية تحظى برضى المجتمع الدولي (الغربي أساسا). وعلى هذا فإن لبنان في السياسة الأميركية هو تفصيل سيجني، لكنه قد يخسر أيضا، من أي توازنات جديدة سيكشف عنها موقع الولايات المتحدة المقبل في الشرق الأوسط.

ومع ذلك تجدر ملاحظة أن روسيا، المعترف بها دوليا راعيا حصريا لإنهاء الصراع في سوريا، تتأنى في التعامل مع لبنان والانخراط في يومياته من ضمن حسابات المتاح والمستحيل، معتبرة لبنان من ضمن النفوذ الأميركي (كما العراق) في الخرائط الدولية. وعلى هذا يبدو العامل الإيراني هامشيا في حسابات الكبار بحيث ينكشف تقاطع أميركي روسي في سوريا ولبنان لرسم حدود لنفوذ إيران داخلهما. وعلى هذا، وحتى إشعار آخر، فإن لبنان سيبقى بالنسبة للولايات المتحدة حيزا أميركيا تاريخيا يحظى باعتراف الخصوم قبل الحلفاء. خصوصا أن تفعيل العمل في حقول الغاز المحتملة في المنطقة الاقتصادية الخالصة من شأنه تعظيم القيمة الاستراتيجية للبلد بالنسبة لواشنطن.

مستقبل العلاقة مع لبنان بين ترامب وبايدن

لا يمكن الحديث عن آفاق طويلة الأجل للعلاقات الأميركية اللبنانية طالما أن واشنطن تعاملت مع لبنان باسلوب رد الفعل، كما يصعب استشراف استراتيجية منسجمة متكاملة حيال البلد. وحتى الدعم الذي قدمته الإدارات الأميركية للجيش اللبناني ظل محسوبا وتحت سقف معين لا يتحول إلى خطر على أمن إسرائيل. ثم أن آفاق علاقة واشنطن ببيروت ستكون شديدة الارتباط بمستقبل الصراع الأميركي مع إيران وما ستؤول إليه أية مواجهة أو مفاوضات. ومن غير الواضح اعتمادا على التجارب السابقة والمواقف الحالية ما إذا كانت واشنطن ستتمسك بنفوذها في لبنان أو تستغني عن ذلك في حال قدمت لها التسوية المقبلة مع إيران مقايضات على حساب لبنان.

وعلى الرغم من أن الانتخابات الرئاسية الأميركية تعد مفصلية في تقرير مستقبل السياسات الأميركية في العالم، غير أن موقف واشنطن من لبنان قد لا يتأثر مباشرة بهوية الرئيس الأميركي المقبل بقدر تغير السياسة الأميركية في شأن مقارباتها من ملفي إيران وسوريا والموقف من النفوذ الروسي في سوريا. فعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أحدث انقلابا في سياسات الولايات المتحدة مع كثير من الدول وفي كثير من الملفات في العالم، إلا أن سياسة واشنطن في عهده حيال لبنان بدت استمرارا لسياسة سلفه دون أي تحديث لافت، لا بل أن تجنب ترامب الانخراط في الصراع في سوريا (كما أوباما من قبله)، انعطف على تعبيره عن عدم اهتمامه بالملف السوري ورغبته المتكررة في سحب القوات الاميركية تماما من سوريا، ما يعكس أيضا عدم الانخراط في سياسة حيوية حيال لبنان.

وتتحدد طبيعة العلاقات الأميركية اللبنانية المقبلة بين ترامب ومنافسه جو بايدن بناء على مستقبل الصراع الأميركي الإيراني. فصحيح أن بايدن وعد بالعودة إلى الاتفاق النووي، إلا أن الجمهوريين والديمقراطيين يتطلعان نحو مفاوضات مع إيران تشمل كافة الملفات. بمعنى آخر أن تفاوض طهران مع واشنطن بات حتميا حتى لو فاز ترامب بولاية ثانية، وعليه فإن ورقة لبنان ستكون مطروحة بقوة على طاولة المفاوضات (من بين ملفات أخرى). وإذا ما لاحظنا قوة حجة الدفاع عن أمن إسرائيل لدى المرشحيْن، فإنه من المتوقع أن يكون التفاوض حول لبنان بنداً أولويا على طاولة المفاوضات الأميركية الإيرانية، ما سيحدد بشكل جذري شكل وطبيعة النظام والسلوك السياسيين للبنان.

موقف واشنطن ومستقبل العلاقات الخليجية اللبنانية

تجدر الإشارة إلى أنه وعلى نحو غير مسبوق يجري ضبط علاقات العالم مع لبنان وفق عقارب الأجندة الأميركية. الأمر يفسر المقاطعة الدولية (بما في ذلك الفرنسية) العربية والخليجية للبنان، كما الإجماع على التقيد بشروط الإصلاح التي تطالب بها واشنطن قبل الإفراج عن أي مساعدات مالية لبيروت، كما ربط مسألة المساعدات (بما في ذلك تلك التي أقرها مؤتمر سيدر في نيسان/أبريل 2019) بنجاح المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

والحقيقة أن أزمة لبنان الاقتصادية لها أسبابها الداخلية المتراكمة دون شك، إلا أن توقيت ظهور الورم الاقتصادي والمالي وانفجاره في وجه اللبنانيين يرتبط بشكل كامل بعوامل خارجية جديدة. ولئن عرف العالم لبنان خلال العقدين الماضيين في فساد إدارته وهيمنة حزب الله على قرار حكومته، إلا أن كافة العواصم المعنية، بما فيها الخليجية، واصلت دعم لبنان ودعمه بالمساعدات وضخ الاستثمارات، ما طمأن المنظومة السياسية إلى وجود مظلة خارجية دائمة لدعم البلد أيا كانت الأسباب. وعلى هذا فإن ما حصل مؤخرا ليس سببه تبدلا في أداء لبنان بل تغيرا جذريا غير مسبوق من قبل كل الدول الداعمة للبنان تقليديا لربط أي مساعدات بشرطين:

الأول إصلاح اقتصادي هيكلي يتم بموافقة وإشراف صندوق النقد الدولي هو أمر تدفع بشأنه واشنطن مشروطا بتلك الإصلاحات.

والثاني سياسي يتعلق بقدرة الحكومة اللبنانية على الابتعاد عن هيمنة حزب الله وأجندته.

وكان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قد |أكد في 8 يوليو الماضي هذه الشروط، من خلال موقف أعلن فيه أنه  »سنساعد لبنان للخروج من الأزمة ولا نقبل بأن يتحوّل لدولة تابعة لإيران«، مشدداً على أننا  »سنواصل الضغط على حزب الله وندعم اللبنانيين للحصول على حكومة نزيهة«.

وتعول واشنطن على ضغوطها على لبنان كما على الدول التي تريد مساعدة لبنان لدفع الطبقة السياسية اللبنانية، وخصوصا القوى المتحالفة مع حزب الله، إلى الانتقال إلى وضع سياسي جديد (بما في ذلك تغيير حكومي) يعيد مصالحة لبنان مع محيطه العربي كما الدوائر الدولية الكبرى. وتمثل استقالة ناصيف حتي من منصبه كوزير للخارجية إشارة إلى إدراك الوزير المسؤول عن علاقات لبنان الخارجية للقطيعة الكارثية غير المسبوقة في تاريخ البلد مع العالم.

وبناء على ذلك فإن لدى الدول العربية، فرصة دولية نادرة للتعامل مع الحالة اللبنانية الشاذة المتمثلة في هيمنة حزب الله ومن ورائه إيران على قرار بيروت وخياراتها. ولا شك أن توقف المجموعة الخليجية، رغم تعددها وخلافاتها، على الاتفاق على عدم تقديم الدعم المالي لـ  »دولة حزب الله« في لبنان يؤشر إلى انسجام موقف المجموعة الخليحية مع المزاج الدولي النادر بهذا الشأن.

ومن اللافت أن الموقف الدولي الجامع حيال لبنان يأتي هذه المرة متفقا مع الرؤية الخليجية، لا سيما لدى السعودية والإمارات، لجهة اتخاذ موقف حاسم وحازم من حالة حزب الله، ولجهة التوقف التام عن تقديم أي رعاية سياسية ومالية لبلد بات يخضع لإيران وذراعها العسكرية في لبنان. ففيما أبقت الدول الخليجية سياسة الدعم للبنان على الرغم من الحملات التي يشنها حزب الله وإعلامه وزعيمه ضد السعودية والإمارات، فإن توقف هذه الدول عن تقديم أي دعم جاء سابقا ومتواكبا لاحقا مع تصليب واشنطن لخيارات في لبنان. وعليه تبدو السياسة الأمريكية – اللبنانية – الخليجية متطابقة متسقة على نحو رفع من مستوى الضغوط ليس على لبنان وطبقته السياسية فقط، بل على كل الدوائر الخارجية المعنية بالشؤون اللبنانية.

وطالما أن مستقبل لبنان مرتبط عضويا بمستقبل موقع إيران في الشرق الأوسط، فإن لدول الخليج مصلحة في أن تكون شريكا كاملا في أي مفاوضات أو تسويات ستجري بين المجتمع الدولي وإيران على نحو معاكس لحالة غياب هذه المنطقة عن المفاوضات التي أفضت إلى إبرام الاتفاق النووي مع إيران عام 2015. وعلى هذا فإن الشراكة الخليجية ستكون عاملا ضاغطا لإعادة لبنان إلى موقعه العربي الطبيعي صديقا لدول مجلس التعاون الخليجي.

ويأتي صدور حكم المحكمة الدولية الخاصة في قضية اغتيال الحريري ليضاف مدماكا جديدا إلى جدار الموقف الدولي من حزب الله، ما يعزز الموقف الأميركي حيال الحزب ويدعم الحجج الأميركية داخل هذا الملف. وفيما تحاكم المحكمة أربعة متهمين غيابيا ينتمون إلى حزب الله، وفيما تكرر سابقا أن المحكمة ستنظر في ما اقترفه المتهمون دون ربط الجريمة بالحزب الذي ينتمون إليه، إلا أن الوقائع القانونية المنطقية وتلك السياسية ستفرض إدانة موصوفة للحزب بالوقوف وراء الجريمة، سواء جاء ذلك داخل نص الحكم الصادر أو خلال ما يستنتج من حيثيات الاغتيال ودوافعه.

ولا تنتظر الولايات المتحدة حكم هذه المحكمة لإحداث تطور دراماتيكي في التعامل مع حزب الله، ذلك أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تعتبره تنظيما إرهابيا. غير أنه من المنتظر أن يؤسس حكم المحكمة لموجة جديدة من الإدانة للحزب، خصوصا أن المحكمة مؤسسة دولية صدر بها قرار عن مجلس الأمن الدولي ولا يعترف حزب الله بشرعيتها، ما سيوسع من دائرة الدول التي ستلتحق بالولايات المتحدة في تصنيف حزب الله جماعة إرهابية بجناحيه السياسي والعسكري على ما فعلته بريطانيا وألمانيا خلال العام المنصرم.

بناء على ما سبق سيكون مفيدا النظر إلى مستقبل لبنان من خلال تطور سياسة واشنطن حيال بيروت، وسيكون مفيدا أيضا مراقبة الدور الفرنسي اللافت منذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان لاستكشاف مدى قدرة باريس على التأثير على واشنطن في إحداث تطور خلاق يساهم في إعادة صياغة منظومة الحكم في لبنان كما تطوير شبكات التعامل الدولي مع هذا البلد المنكوب.

تعاملت الولايات المتحدة على مر العقود السابقة مع لبنان بصفته واحدا من دول النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط على الرغم من تأثيرات الأجواء المعادية لواشنطن في العالم العربي المتأثرة بشروط الحرب الباردة وما حملته تلك الحقبة من أيديولوجيات. ولطالما استخدمت واشنطن الميدان اللبناني لفرض توازنات وتسويات وفرض أمر واقع في الشرق الأوسط. ومع ذلك لم تعامل الولايات المتحدة لبنان بصفته حليفا استراتيجيا يستحق التحرك للدفاع عنه وصون مصالحه على منوال ما فعلت نصرة لحلفائها في المنطقة والعالم في مناسبات معروفة.

على نحو مخالف لبعض الدول الأوروبية (لاسيما فرنسا)، لا تتعامل الولايات المتحدة نهائيا مع حزب الله وتتمسك بمعاملته معاملة الجماعات الإرهابية. غير أن واشنطن، ورغم إدراكها بحجم الهيمنة التي يمتلكها الحزب على الدولة اللبنانية نفسها، استمرت في التعامل مع الدولة ومؤسساتها، كما تتعامل الولايات المتحدة مع الحكومات اللبنانية على الرغم من مشاركة حزب الله بها، إلا أنها لا تتعامل مباشرة مع الوزارات التي يتولى إدارتها وزير من الحزب كما أنها تحجب عنها أي برامح دعم وتعاون. وعلى هذا فإن الدبلوماسية الأميركية تفصل في لبنان بين الدولة بمعناها الدستوري المؤسساتي وبين واقع أن البلد محكوم بإرادة حزب الله وفائض سلاحه.

تتحدد طبيعة العلاقات الأميركية اللبنانية المقبلة بين ترامب ومنافسه جو بايدن بناء على مستقبل الصراع الأميركي الإيراني. فصحيح أن بايدن وعد بالعودة إلى الاتفاق النووي، إلا أن الجمهوريين والديمقراطيين يتطلعان نحو مفاوضات مع إيران تشمل كافة الملفات. بمعنى آخر أن تفاوض طهران مع واشنطن بات حتميا حتى لو فاز ترامب بولاية ثانية، وعليه فإن ورقة لبنان ستكون مطروحة بقوة على طاولة المفاوضات (من بين ملفات أخرى). وإذا ما لاحظنا قوة حجة الدفاع عن أمن إسرائيل لدى المرشحيْن، فإنه من المتوقع أن يكون التفاوض حول لبنان بنداً أولويا على طاولة المفاوضات الأميركية الإيرانية، ما سيحدد بشكل جذري شكل وطبيعة النظام والسلوك السياسيين للبنان.

(*) كاتب سياسي لبناني

العدد108/ايلول 2020