بيروت الجميلة.. تتفجر بالدماء ويلفها الدمار

ان لم تكن القوى الحاكمة هي المسؤولة فلمن نتوجه بالسؤال؟

رغم الاحزان وتوالي المحن.. فسوف نظل نفتقد ابتسامتك

 أمين الغفاري

شد الانفجار في بيروت انظار العالم، وروع افئدتهم، وتسابقت بالضرورة اجهزة الاعلام لتغطية الاحداث الاليمة، وصدرت الصحف اللبنانية تحمل الخبر، وتعددت العناوين بالحروف الكبيرة فقالت جريدة (النهار)الدولة الفاشلة تطلق النار على نفسها، وقالت جريدة (الجمهورية) بيروت دم ودمار، وقالت جريدة (الشرق) كارثة المرفأ زلزلت بيروت، وقالت جريدة (اللواء) نكبة بيروت تهز العالم، وقالت جريدة (الأخبار) الأنهيار الكبير، صدرت تلك العناوين صباح يوم 5 اغسطس 2020.

ضمير العالم روع، وأصبح السؤال تبعا لذلك هل روع ضمير المسؤولون عن ذلك الحدث، اما بالقصد أو الأهمال، فلا فرق في النتيجة النهائية!، ام ان الجرائم الكبيرة عامة تفتقد الى صوت الضمير؟

ليس من الحكمة بالطبع استباق التحقيقات وتوجيه الاتهامات حتى وان كانت وفق المنطق في الحكم على الاشياء، فالمعلومات التي تتواتر تطرح من الاسئلة أكثر بكثير من المتاح من الاجوبة، فالسفينة التي حملت تلك المواد المتفجرة، وهي بالمناسبة نوع من الأسمدة البلورية التي تستخدم في الزراعة (نترات الأمونيوم) وان كانت تستخدم في عمليات اخرى، وهي شديدة التدمير ان تعرضت لمستوى عال من الحرارة، وقد حملتها سفينة يابانية الصنع، وروسية الملكية، وطاقم العمل بها أوكراني الجنسية، والعلم الذي ترفعه لتواني، أما المادة المحمولة فهي من جورجيا، وعن

الرئيس ماكرون
سارع الى بيروت

اصحاب السفينة فالأمر غير معروف ومجهل، مما يعني أن كفة الوان الغموض الذي يحيط بالأمر برمته هي الراجحة في طريقة العرض. بالتأكيد لابد وان يجرى التحقيق بقدر عال من الكفاءة وأيضا وهو الاهم من الشفافية، ولذلك يسود الجدل على مستوى النخبة السياسية حول كيفية التكوين للجان التحقيق، هل تكون ذات مستوى دولي، أو كما يعترض رئيس الجمهورية وكذلك حزب الله باعتبار ان ذلك الأمر يمس السيادة الوطنية، أو ان يكون التحقيق بواسطة الجيش، وهو محل ثقة الجميع كما يقترح السيد حسن نصر الله، او كما يعرض السيد احمد الغيط استعداده للمساهمة بطاقات عربية ان استلزم الأمر أو دعت الحاجة. خيارات مفتوحة، ولكن من بيده الأمر هو في النهاية صاحب القرار الأخير، بصرف النظر عما يدور على ألسنة الجماهير التي تتطلع الى الصدق، والى الأمانة في مجريات التحقيق.

الأزمة المستحكمة.. ترتكز على جذور قديمة

عبر عقود كثيرة متوالية شهد لبنان العديد من الازمات، وتوالت على ارضه الكثير من الانتفاضات، ووصل الأمر في مراحل صعودها الى الحرب الأهلية عام 1975، بعد ان سادت أجواء التوتر السياسي عموم البلاد، وفي عام 1982 اجتاحت اسرائيل الأراضي اللبنانية، وسجلت بذلك تطورا شديد الأهمية، باعتباره أول حدث في تاريخ الصراع العربي  الاسرائيلي أن تقدم اسرائيل على اجتياح عاصمة عربية بعد الاحتلال للأراضي الفلسطينية، وخرج الزعيم الفلسطيني ابو عمار من بيروت مع احدى عشر ألف مقاتل فلسطيني، وفي نفس العام تم اغتيال الرئيس بشير الجميل بعد انتخابه بأسبوعين، وحاولت القوى الغربية ان تستوعب حدة الصراع بتأمينه من خلال قوة متعددة الجنسيات تم ارسالها الى بيروت، لكنها قامت بالانسحاب على وجه السرعة بعد مقتل أكثر من 300 جندي من قواتها في حادث تفجير، ثم سرعان ما أعقب ذلك من بروز ظاهرة (الاغتيالات المدبرة) بشكل لافت ومنتظم، ومن مختلف الأتجاهات والعقائد ، التي راح ضحيتها العديد من الشخصيات اللامعة في حركتها السياسية، وان كانت عملية الاغتيالات بشكل عام لها تاريخها في لبنان ففي عام 1951 تم اغتيال شخصية بارزة على المستوى الوطني وايضا على المستوى الاقليمي والقومي وهو الزعيم الراحل رياض الصلح صاحب المقولة الخالدة (لن يكون لبنان للاستعمار مقرا أو

القائد الفرنسي هنري
أعلن قيام لبنان الكبير

ممرا). ان تعمقنا حركة الاغتيالات في هذا البلد الصغير نجد ان حجمها مروع، وهو يشير الى عمق الازمة، وان كان لايتلامس مع جذورها، فهو كاشف للدلائل، وليس للمنابع. لقد اغتيل في لبنان اثنان من رؤساء الجمهورية، وهما بشير الجميل عام 1982 كما أسلفنا، كما اغتيل رينيه معوض عام 1989، وتم اغتيال ثلاثة رؤساء للحكومات وهم رياض الصلح عام 1951 كما ورد قبل ذلك وايضا رشيد كرامي عام 1987 ورفيق الحريري عام 2005، ناهيك عن رجال الفكر والسياسة والاعلام ورجال الصحافة والحياة الحزبية ومنهم الزعيم الاشهر كمال جنبلاط، ومعروف سعد، وجبران تويني، وبيار الجميل ونسيب متني وكامل مروة وسليم اللوزي وسمير قصير، وتلك اسماء ذكرت للدلالة وليس حصرا، وهناك آخرون جرت محاولات اغتيالهم ولكن لم يكتب لها النجاح مثل محاولة اغتيل النائب الدرزي مروان حماده والاعلامية مي شدياق، وقد فقدت احدى ساقيها في تلك المحاولة. كل تلك الاغتيالات واعمال العنف تكشف عن عمق الازمة، ولكنها مع حجمها المروع ليست الأزمة ذاتها، أي ليست الأصل.

لبنان وجذور الأزمة المتوارثة

تقع جذور الازمة   كما كشفت الاحداث  في عام التشكيل الذي ظهر فيه لبنان كدولة أعلن القيام عنها الجنرال هنري جوزيف غورو، وهو القائد العسكري الفرنسي الذي قاد وحدات الجيش الفرنسي نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1919  1923، وتم اعلان أو نشأة (لبنان الكبير) كدولة مستقلة بعد رسم حدودها وفصلها عن سوريا عام 1920 وفق التفاهمات البريطانية الفرنسية التي اسفرت عن اتفاقية سايكس  بيكو بين بريطانيا وفرنسا عام 1916، وقد تولى القائد المذكور اعلان الامر بصفته المندوب السامي الفرنسي على لبنان، وقد يكون القارئ المتابع للأحداث ووقائع التاريخ قد قرأ أكثر من مرة عن زيارات قام بها بعض القادة الأجانب الذي وفدوا مع جيوشهم للمنطقة لضريح صلاح الدين الأيوبي، ومنهم ذلك القائد هنري غورو، وركل القبر بقدمه قائلا (استيقظ يا صلاح الدين فقد عدنا). انها جذور الحرب الصليبة أو التي رفعت راية الصليب زورا، فلم تكن حربا دينية في اساسها، ولكنها حرب دعامتها الأقتصاد والبحث عن مواقع استرايجية، ومواد خام وسوق موسع للسلع الأوروبية. كان التركيز عن وضع نظام طائفي للحكم في لبنان، وقد تردد عن بيان تم تحريره من بعض المتطرفين المسيحيين، يطالب ان لا تنضم لبنان الى اي كيان عربي موحد، مثل الدولة العربية الواحدة ـ ان قامت ـ التي وعدت بريطانيا بها الشريف حسين شريف مكة أن يتولى الحكم في تلك الدولة المنشودة في حال نجاح الثورة العربية الكبرى التى تحالف فيها مع بريطانيا ودول الحلفاء، وتولى قيادتها ضد الامبراطورية العثمانية، ثم سقطت الأمبراطورية، ولم تف بريطانيا بوعودها، وجرى تقسيم المنطقة.

لقد تصاعدت المصالح، وبالتالي الأطماع الأوروبية في تلك المنطقة أثر انهيار الأمبراطورية العثمانية خصوصا الدولتان الاستعماريتان الأبرز في تلك الفترة، وكان نظام الطوائف يترسخ أزاء ضعف الأمبراطورية الحاكمة

الرئيس الراحل رشيد كرامي
راح ضحية الطائفية

العثمانية، وعدم قدرة الزعامات الطائفية الدينية والمذهبية على النفاهم فيما بينها، فانغلقت كل طائفة على نفسها نظرا لتعدد الأتجاهات، وحجم التعصب المتنامي لعقائدها ومفاهيمها، وقد ازداد الأمر تعقيدا نتيجة للتدخل الأجنبي في الشأن اللبناني، ويعد نظام عام 1861 النظام الحاكم الأول لما يعرف بـ(متصرفية لبنان) وهو القاعدة التي تم اقرارها بعد (الفتنة الطائفية الكبرى) التي تمت عام 1860، وكانت أقرب لأن تكون مجزرة، وليست مجرد فتنة كبرى. كانت هذه الواقعة هي المفتاح الرئيسي لأحداث لبنان وكم التطورات اللاحقة في سنواتها التالية (نظام متصرفية لبنان: نظام أقرته الدولة العثمانية وعمل به من عام 1861 حتى عام 1918 وقد جعل لبنان منفصلا عن باقي بلاد الشام اداريا تحت حكم متصرف اجنبي مسيحي عثماني غير تركي وغير لبناني تعينه الدولة العثمانية بموافقة الدول الاوروبية العظمى بريطانيا وفرنسا وبروسيا والنمسا). بالطبع تطور هذا النظام في شكله، وان لم يتطور في مضمونه، وهو الطائفية التي ترسخت وتجذرت بحيث ان هوية لبنان صارت لغطا تلوكه بعض الألسنة، وتتناوله بعض الأقلام، ويتم التساؤل هل لبنان عربي بالهوية أوهو فينيقي كما ينادي اليمين اللبناني، وفي الوقت الذي تنادي فيه تيارات قومية عربية بالأضافة الى بعض قوى اليسار بعروبته، كانت هناك كما نسمع الآن أن بضعة آلاف من اللبنانين قد وقعوا عريضة يطالبون فيها بعودة الأنتداب الفرنسي للبنان. بل ان فرنسا توصف احيانا من بعض اللبنانيين اما في جانب حقيقي كما يعتقد البعض أو في جانب ساخر، كما يرى جانب آخر أنها (الأم الحنون) للبنان، وربما لهذا الأحساس من فرنسا هرع الرئيس اللبناني ماكرون الى بيروت أزاء الانفجارات المدوية التي ألمت بها. ان النظام الطائفي في لبنان يتنافى بالتأكيد مع مفاهيم

الديموقراطية والمواطنة، ومجموعة القيم الليبرالية التي ينتهجها الغرب، ويبشر بها، بل ويعتبرها السند الأساسي لحقوق الانسان. ولكنه من جانب آخر كان النظام الذي تم اعتماده في لبنان، وقامت فرنسا كما تقول المصادر أنه وقبل أن يكون الأنتداب الفرنسي واقعا عسكريا كانت الثقافة الفرنسية بمفاهيمها عاملا مؤثرا في لبنان حيث انتشرت قلاعها في ربوعه مع انتشار الارساليات التي بعثت بها، وكان لها بالطبع الدور الهام والمؤثر في صياغة التفكير لنخبة كثيرة من المثقفين والمتعلمين في لبنان، ومع انقضاء العقود وتوالي السنين ما يزال المعهد الفرنسي هو المركز الثقافي الاساسي في بيروت، ومن مهامه الأولى تسهيل الحصول على المنح الدراسية، أو تيسير الألتحاق بدور العلم المختلفة في فرنسا، وهو من أبرز الداعمين للنشاطات الفنية على الساحة اللبنانية. أثر الأنتفاضات المتكررة التي عمت بيروت تبحث عن الخلاص من ذلك الأطار الذي تم اعتقالها في داخله، جاءت بعض التطورات التي تمثلت في (اتفاق الطائف) عام 1989، الذي لم يعالج المشكلة بشكل جذري، وانما رعى حجم التوازنات التي على الأرض، من خلال واقع مأزوم، ولم يخرج الأمر عن كون النظام يعيد انتاج نفسه من جديد.

لبنان.. حضن اللاجئ والمغترب

حتى في اطار حمم الطائفية، وقبل أن تتجذر، وتتحكم وتمتد من خلال النظم الحاكمة الى مستوياتها المتعددة حتى تصل الى الاجهزة الوظيفية والمهنية والرقابية وحتى مستوياتها الصغيرة كما تشير الدلائل التي تأتي عبر العديد من التصريحات أن مرفأ لبنان المبتلي بتلك الانفجارات لا يعين فيه أصغر موظف الا بترشيح وسند من مستويات أعلى طائفية ومذهبية وتلونها الأحزاب والهيئات المختلفة. قبل ان تهترئ الأوضاع وتتدنى حركة الصراع بين الديناصورات الكبرى في عالم الطائفة والسياسة، قبل كل ذلك لا ينسى للبنان أنه كان يلقب بـ(سويسرا الشرق) فقد اتسع صدره لكي يضم كل اللاجئين من اوضاع سياسية أو مخاطر حياتية، واتسعت اراضية لنجدة المضطهد أو المطارد لأسباب تتنافى واحكام القضاء. كانت تلك العاصمة بيروت في اعرافنا هي الأسطورة للجمال أو الأيقونة للسحر في عالمنا العربي على امتداده. وقد تصالحنا فيها مع القدر الذي اختارها لتكون فيه قبلة للجمال بكل سطوته نسعى اليها ونتواصل معها لكي ترتاح العين في مقلتنا وتطمئن النفس في داخلنا، وهو عهد وقعته معنا تفاصيل سيرتها، واحداث تاريخها، وعمق التجربة معها، وسلسلة من مواقفها، وما كساها من الأيمان بالوطن والوفاء للعروبة، وما أكثر الأحداث والأزمات، في عالمنا العربي التي تتوالى فيه الأحزان تباعا، وتنتشر في سمائه أعلام نسيجها اطماع، وألوانها مرام وأهداف، لا سيما بعد أو عقب استثناءات قليلة في تاريخنا تنسمنا فيها بعض الأمان والكثير من الآمال، والجمال الحقيقي ليس فقط محصورا في نفحات الورود أو جمال الأزهار التي تتناثر على ضفاف لبنان في زهو وكبرياء وما تهمس به من فتنة ودلال، أوفي الجبال والوديان والروابي وما تحكيه الطبيعة من خلالها من اثارة وفضول وخيال، أو حتى في نوعية البشر الذين يشكلون سكانها، وما يختلج في دواخلهم من أصالة وشموخ وابداع. كانت بيروت تلك المدينة الساحلية الصغيرة هي التي تساهم عبر شوامخها الفكرية في ارساء قواعد النهضة العربية بأجيال متعددة في الفنون من مسرح وسينما، فقدمت لنا مارون نقاش وجورج ابيض وروزا اليوسف وفي الآداب من خلال القصة والرواية والشعر قدمت لنا في ذلك المجال جورجي زيدان ومي زيادة وسهيل ادريس، وفي ساحة الشعر جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وايليا ابو ماضي وبشارة الخوري (الأخطل الصغير)، وكان عطاؤها الملفت في فنون الموسيقى والغناء فزفت الى العالم العربي الأخوين رحباني وزياد رحباني والعملاقتان فيروز وماجده الرومي والمطربتان صباح ونورالهدى والكبير وديع الصافي بالإضافة الى ثرائها الكبير في عمليات التأليف ونواحي الفكر في الرأي والنشر سواء في عالم الكتب أو الصحافة فقدمت سليم وبشارة تقلا اللذان اسسا جريدة  »الاهرام« المصرية، ثم سعيد فريحة ودار الصياد، وطلال سلمان وجريدة السفير وكانت بيروت على جانب آخر هي التي تحدد معالم ومقاييس الأزياء وقواعد اللبس والاناقة بالنسبة للمرأة. ان جمال لبنان عامة وبيروت خاصة متعدد الألوان، ثري التنوع والصفات، لكن كل ذلك في النهاية لم يكن كافيا أزاء مواجهة الأخطار التي تتولد من الموروثات التي تتعلق بشكل التكوين ونظام الحكم وصلاحياته، مما يولد قدرا من الأزمات الطاحنة.

لبنان في حاجة الى ان يلبي تطلعات مواطنيه في عالم جديد ينبذ الطائفية، ويؤمن بالوطن الذي يتسع للجميع، والدين لله أما الوطن فهو لكل المواطنين.

العدد108/ايلول 2020