الفن الاستعراضي في السينما.. وفن المونولوج

محمود شكوكو احد رواد فن المونولوج.. وفن الأ راجوز

أول وآخر فنان عربي تصنع له تماثيل صغيرة تباع في الشارع

أمين الغفاري

عرفت السينما العربية ألوانا متعددة من الفنون، وكان لكل لون من هذا الفن ابطاله وفرسانه. عرفنا فن الدراما من خلال نخبة متميزة من مبدعيه يقف في مقدمتهم الفنان الكبير (عميد المسرح والسينما) كما اطلق عليه الفنان يوسف وهبي والفنانة أمينه رزق ولحقت بهما الفنانة فاتن حمامه التي اشتهرت بلقب(سيدة الشاشة العربية)، وفن الكوميديا وكان بطله الأبرز نجيب الريحاني ثم جاء فؤاد المهندس وبعده الأشهر عادل امام أو (الزعيم) كما جرت تسميته،

محمود شكوكو
مونولوجست أطلق عليه النقاد شارلي شابلن السينما العربية

وكان لكل مرحلة لا شك نجومها الذين اثروا هذا الفن وأضافوا الى شعلته بريقا ولمعانا، وان كنا قد اشرنا الى بعض الاسماء دون اسماء اخرى كانت ولا زالت لها مكانتها الفنية وعشاقها ومعجبيها في انحاء الوطن العربي، ذلك لكونهم كانوا الأبرز، وايضا كانت لهم الريادة ويتمتعون بتاريخ حافل من الأعمال الفنية المتميزة عبر تاريخ طويل. ظهر بجوار تلك الريادات في فن الدراما والكوميديا ريادات اخرى لفن ثالث وهوالفيلم الغنائي والأستعراضي وكان لهذا اللون شعبيته وجماهيريته العريضة، وما زالت تلك الأعمال لها وقعها الساحر واصداؤها لها رنين عال، صداها لا زال يملأ الآذان، كما يبهر العيون، وهي تعرض الآن على شاشات التلفزيون، باعتبارها من ذكريات الزمن الجميل، وهي بالتأكيد كانت من الدعائم الأولى لذلك النوع من الفن الذي تفجرت فيه طاقات فنية مبدعة تمت على يديها تلك الاعمال سواء في فن الغناء أو في فن الموسيقى. كان أول فيلم غنائي عام 1932 من بطولة المطرب الصاعد في ذلك الزمن محمد عبد الوهاب وهو فيلم (الوردة البيضاء) انتاج عبدالوهاب من اخراج محمد كريم، وكان الفيلم الثاني عام 1935 من بطولة المطربة المتميزة في ذلك الوقت أم كلثوم وهو فيلم (وداد) من انتاج ستوديو مصر الذي أنشأه طلعت حرب وهو من اخراج المخرج الألماني (فريتز كرامب).

ميلاد السينما الغنائية والاستعراضية

ازدهرت السينما الغنائية، وظهر الفيلم الاستعراضي بعد ان دخل الى مجال الغناء مجموعة من المطربين والمطربات، كانت مواهبهم صارخة، وأصواتهم ساحرة، ومنهم الفنانة المطربة ليلى مراد التي تربعت على عرش الفيلم الغنائي، وقد وصفها الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب بأنها تملك أجمل وأرق وأعذب صوت عرفته السينما العربية، وقد كان فيلم (يحيا الحب) بطولتها مع الموسيقار محمد عبد الوهاب عام 1939 هو البداية. ظهر الفنان الكبير فريد الأطرش، وشقيقته المطربة ذات الصوت الأخاذ اسمهان، في فيلمهما اللافت (انتصار الشباب) عام 1941، وهو ايضا فيلم غنائي، وقد تضمن هذا الفيلم أول اوبريت غنائي عرفته السينما المصرية، (ليلة من الأندلس) وهو عمل تم اقتباسه بواسطة الشاعر أحمد رامي، عن الأوبرا الشهيرة (حلاق اشبيليه)، وقام فريد الأطرش بوضع ألحان

الأوبريت كما قام بغنائه مع الفنانة الكبيرة اسمهان، وتكرر ذلك الامر في سلسلة الافلام التي قدمها هذا الفنان عبر العديد من الاوبريتات التي قدمها خلال سلسلة من الافلام ومن بينها الأوبريت الشهير عن الربيع. ظهرت بعد ذلك تباعا الأصوات الغنائية ذات الاعمال المبهرة وكانت المطربة اللبنانية نور الهدى مع يوسف وهبي في فيلم (جوهره)عام 1943، ثم المطربة اللبنانية أيضا صباح مع انور وجدي في فيلم (القلب له واحد) عام 1945، ثم

محمود شكوكو
من الرواد الذين قدموا فن الاراجوز

ظهرت المطربة شادية مع المطرب محمد فوزي في فيلم (العقل في اجازة) عام 1947 وكان اول ظهور له في فيلم (سيف الجلاد)عام 1944 مع يوسف وهبي وعقيلة راتب. كانت فترة الاربعينات زاخرة بالمواهب الرفيعة، وكانت مواهبها قبل تدريبها أو صقلها جواز المرور من خلال عالم السيرك وهي الفنانة نعيمة عاكف عام 1949 وقد اكتشفها المخرج حسين فوزي وقدمها في فيلم (لهاليبو)، الذي انطلقت منه الى آفاق جديدة في الاعمال الاستعراضية السينمائية، كما قدمت عملا فنيا، يستند الى التراث والفلكولور المصري الأصيل وهو الأوبريت (يا ليل يا عين)وقد قدمته على خشبة المسرح من اخراج واحد من اساتذة المسرح وهو زكي طليمات، وكان عملا يتضمن الغناء والرقص في قالب استعراضي شعبي، وجمع مادته الفنان الشعبي زكريا الحجاوي، وكتبه علي احمد باكثير، وقام بالتمثيل والغناء مع نعيمة عاكف المطربة شهرزاد والفنان الراقص محمود رضا، والفنان محمود شكو كو. ظهرت كذلك عدة اصوات، منها سعد عبدالوهاب (ابن شقيق الموسيقار محمد عبدالوهاب) وقدم عدة افلام منها (بلد المحبوب وسيبوني أغني) ومنهم عبدالغني السيد، وجلال حرب ومحمد أمين ومحمد عبدالمطلب وكارم محمود وغيرهم وقد قدموا ايضا افلاما من بطولتهم، ولكن لم تكن لهم موهبة عبدالحليم حافظ الذي اخترق عالم الطرب بجدارة

 ولا ينبغي والحديث متصل عن الفيلم الغنائي والاستعراضي ان لا نذكر فنانا لم يكن مطربا أو ملحنا أو حتى عازفا، ولكنه فنان ساهم بعطائه الفني الكبير في دعم السينما الغنائية والفيلم الاستعراضي وهو الفنان أنور وجدي، وله ضمن اعمال كثيرة درتين فنيتين يصعب تجاهلهما وهما فيلمي عنبر وغزل البنات، وقد شارك في أعماله الفنان محمود شكوكو سواء في افلام عنبر أو فيلم طلاق سعاد هانم أو فيلم قلبي دليلي.

محمود شكوكو.. وفن المونولوج

تعني كلمة مونولوج (الأداء المنفرد) وهي كلمة ذات اصل لاتيني، وهي تعني بناء على ذلك (الحوار مع النفس) والسمة التي يترجمها أو يوظفها أو يأخذ بها هذا النوع من الأداء أو الفن هو النقد الأجتماعي الساخر، وقد اتخذه بعض الفنانين ايضا وسيلة لأثارة البهجة أو الضحكة من خلال المفارقة وأسلوب الأداء أو طريقته، ونجد في اثناء الحرب العالمية الثانية، ان السلع الغذائية ارتفعت اسعارها بشكل جنوني، ويأتي نقد محمود شوكو (آه ما الأسعار عند التجار حاتولع نار.. آه ما الأسعار). قد يدعو للدهشة ان فنانا كبيرا مثل يوسف وهبي بدأ حياته الفنية بالقاء المونولوج، وان لم يستمر في ذلك لأعتراض عائلته اصلا على عمله بفن التمثيل، ولكن لأصراره على ذلك اتجه الى ايطاليا لدراسة فن التمثيل. اسم محمود شكوكو الحقيقي قبل ان يضيف اليه شكوكو هو (محمود ابراهيم اسماعيل موسى) من مواليد حي الجمالية في القاهرة عام 1912. اطلق عليه جده اسم شكوكو نظرا لأنه كان يجيد في طفولته تقليد الديك الرومي فيقول (ش كوكو) وكان جده مولع بحب هذا الديك الرومي، فأسماه (محمود شكوكو)، وتداول هذا الاسم نظرا

محمود شكوكو
هبط من على المسرح ليحتضن عبدالناصر

لطرافته، وخفة ظل حامله، وحين بدأت شهرته في الاتساع أضاف هذا الأسم لشهادة الميلاد فأصبح اسمه رسميا (محمود شكوكو ابراهيم اسماعيل موسى). بدأ محمود شكوكو حياته بالعمل في الورشة التي كان يملكها والده نجارا، ولكن غوايته التي تذكيها موهبته ألحت عليه في ممارسة فن الغناء الشعبي، قد اكتشفه مدير الأذاعة في ذلك الوقت (محمد فتحي) وكان مذيعا يطلق عليه (كروان الاذاعة) وهو يغني في الافراح وبعض المناسبات كنوع من المجاملة لأصدقائه أو معارفه.. لكن كان أول ظهور فني جماهيري له على مسرح (البوسفور) في ميدان باب الحديد وكان بجوار محطة مصر للقطارات الذي تغير اسمه بعد ذلك الى ميدان رمسيس. استعان به بعد ذلك الفنان الكوميدي (علي الكسار) ليقدم احدى الفقرات خلال فصول المسرحيات التي يقدمها، لم يكن محمود شكوكو الوحيد على الساحة الفنية الذي يقدم هذا اللون من الفن الشعبي أو المنولوج، وانما صاحبه ظهور الفنان اسماعيل ياسين والفنان محمد الجنيدي ثم في وقت لاحق الفنان احمد غانم. لكن تميز ظهوره بالملابس التي يرتديها وهي (الجلباب البلدي والطاقية الطويلة (الطرطور)، وحركته على خشبة المسرح. التقطته السينما فظهر في فيلم (نحو المجد) مع الفنان حسين صدقي، وفيلم (هدية) مع عزيزة امير وفيلم (افراح) مع نور الهدى، وفيلم (أحب البلدي) مع انور وجدي ، لكن حظي محمود شكوكو بأدوار تجلت فيها موهبته الاستعراضية مع انور وجدي أيضا في فيلم قلبي دليلي والاستعراضين الشهيرين مع اسماعيل ياسين (الحب بهدلة) و(الليل ياميمون) كما قام ايضا بتقديم استعراضات مع اسماعيل ياسين وشادية في فيلم (ليلة العيد) أما الدور الاستعراضي الذي قام به ولا زال يتردد حتى الآن فقد كان مع ليلى مراد وهو اسكتش (اللي يقدر على قلبي يخطفه وانا أجري وراه) في فيلم (عنبر)وجملته الشهيرة (وبنيت ما الفول والطعمية اربع عمارات) وهو لحن عبد الوهاب، ومن اشهر مونولوجاته عموما (جرحوني وقفلوا الاجزاخانات، وورد عليك فل عليك يا مجنني بسحر عينيك، وليلي طال وليله لأ. حقق شكوكو نجاحا ملحوظا لفت نظر عبدالوهاب ونال اعجابه فعرض عليه ان يقوم بتلحين مونولوج خاصا به، وبالطبع رحب شكوكو بسعادة وترحيب كبير وقام عبد الوهاب بتلحين مونولوج (ياجارحة قلبي بأزازه، لماذ الهجر ده ولماذا ؟). تفرد محود شكوكو بكارزما خاصة أو بطلة مميزة جعلت بعض النقاد يطلقون عليه لقب (شارلي شابلن) السينما العربية نظرا لحركته على المسرح وطرافتها، فضلا عن خفة ظله الطاغية، والجدير بالذكر أنه الفنان الوحيد في تاريخ السينما العربية على الاقل الذي تم صنع دمية له أو تمثالا من الجبس بالحجم الصغير كانت تباع في الشوارع نظير زجاجة فارغة، وكان يقال في الترويج لها مع الباعة (شكوكو بأزازة) ويقال لان ذلك تم في اواخر الاربعينات في احتدام المعارك بين المقاومة المصرية والقوات البريطانية المحتلة، وكان الفدائيون في حاجة للزجاجات الفارغة لصنع متفجرات تلقى على قوات الاحتلال، ولذلك كانت الحاجة ماسة لتجميع تلك الزجاجات الفارغة.

 انجــــــازه

أنشأ محمود شكوكو بعد ان تحقق نجاحه مسرحا في حي روض الفرج، سجل نجاحا كبيرا، من خلال فرقته الشعبية، وتوافد عليه جمهور عريض استهوته شخصية (ابن البلد) التي يقدمها من خلال جلبابه البلدي ولهجته الشعبية، كما قدم لفن المونولوج والأغنية الشعبية تراثا غنيا بالكثير من الاعمال، وقد حققت بعض اغانيه الشعبية نجاحا عريضا منها أغنية (حموده فايت يابنت الجيران، يا وردة بيضة في حزمة ريحان) من فيلم (صاحب بالين) مع بشارة واكيم، وقد قدم خلال رحلته الفنية أكثر من 600 مونولوج، وشارك في العديد من الافلام وساهم في نجاحها، ومع ذلك فلم يقم ببطولة فيلم إلا مرة واحدة وهوفيلم (شمشون ولبلب).

من جانب أخر كان شكوكو شغوفا بفن العرائس وخصوصا بعد انتشار تماثيله التي تباع في كل مكان وينادى عليها  »شكوكو بقزازة«… فقرر أن يحول نشاطه من الفن الاستعراضي إلى فن العرائس، خاصة وأنه نجار وصانع ماهر فكان يقوم بتصنيع العرائس الخشبية وقدم بالفعل بعض مسرحيات العرائس مثل  »السندباد البلدي«  »الكونت دي مونت شكوكو » وكلاهما من تلحين محمود الشريف وسيد مكاوي ومن اخراج المخرج المعروف صلاح السقا، وكان يقوم بالتمثيل فيها مجموعة معروفة من الممثلين منهم السيد راضي ويوسف شعبان وحمدي أحمد وايضا المخرج صلاح السقا. وبالرغم من أن مسرح محمود شكوكو للعرائس توقف نشاطه أواخر العام 1963 لضيق الأحوال المادية، الا أنه كان البداية الحقيقية لانشاء مسرح القاهرة للعرائس. التصق كذلك اسم شكوكو بشخصية الأراجوز التي أكسبته شهرة اضافية باعتبارها ميدانا جديدا قام باقتحامه. يمكن القول أن محمود شكوكو قد ساهم في تطوير هذا الفن (العرائس)، من حيث قام بتحويله الى فن استعراضي، وأحيا على نحو آخر شخصية الأراجوز، وقد طاف بهذا الفن عدد كبير من الدول الاوروبية.

محمود شكوكو فنان تفجرت موهبته، وتعرف الجمهور على فنه، وهو أمي لا يعرف القراءة والكتابة، ولكن فنه فرض موهبته لكي يتعرف عليها الناس، وتلمس عواطفهم فأحبوه، وكتبوا له اسما، وقدم لهم تاريخا مغمورا بفنه وابداعاته.

العدد108/ايلول 2020