شوقي بزيع الشاعر الذي يبحث عن حالات الامتلاء

شوقي بزيع للحصاد:  »كل لحظة نعيشها في الزمن الحاضر هي طلل بالنسبة إلى اللخظة التي تليها.«

بيروت – ليندا نصار

يمثّل الشاعر شوقي بزيع رمزًا من رموز الثقافة والأدب في لبنان والدول العربية إذ ترى أعماله الأدبية والشعرية ومقالاته منتشرة في المكتبات العربية وذلك لما تتمتع به من عمق وفائدة. وهو واحد من الذين استطاعوا أن يفكروا من داخل النص بحيوات تتجاوز تلك الحدود المعروفة في الكتابة.

شوقي بزيع الجنوبي اللبناني كتب شغفًا وأضاف للشعر جماليّة خاصّة. إنه الشاعر الذي سكب من ذاته ورسم وطنًا يليق به الجمال وتليق به الحياة. في قصائده امرأة وضعها على عرش الشعر ووسمها بأرقى الصفات، ووطن حمل همّه في كلّ حرف من حروفه. يحدّثنا بأصوات تتوازى مع الزّمان وهي لم تغب يومًا عن تجربته التي نلمح فيها مراحل عمر الإنسان.

لشوقي بزيع في الشعر سبعة عشر ديوانًا وسبع مختارات شعرية وسبعة مجلدات للأعمال الكاملة، وله في النقد خمسة كتب. بالإضافة إلى عدّة مقالات منشورة في عدّة صحف منها  »الشرق الأوسط«. وقد توّج بعدة جوائز منها جائزة العويس وعكاظ ودرويش للإبداع، ونال وسام فلسطين ووسامكمال جنبلاط.

الحصاد التقت الشاعر شوقي بزيع وكان لها معه هذه الدردشة:

بداية كان لنا سؤال للشاعر عن طقوس الكتابة واختلافها عبر الزمان فكان جوابه:

 »في المقال السابق، كتبت في جريدة الشرق الأوسط عن طقوس الكتابة وأحوالها الغريبة فتحدثت عن ذلك مع بعض الشعراء بشكل مباشر عبر الهاتف مع أدونيس المقيم في باريس ومع منصف الوهابي الذي حصل على جائزة الشيخ زايد للكتاب والمقيم في تونس، واستفدت من حوار أجراه الشاعر المغربي حسن نجمي مع محمود درويش حول طقوس الكتابة.

 في الواقع هذا موضوع طريف جدًّا فطقوس الكتابة تختلف من شاعر إلى آخر تمامًا كما تختلف بصمات أصابع اليد. قد أكون من أكثر الشعراء ذوي الطقوس الصعبة إلى حدّ المرض وهذا الأمر ينعكس علي بشكل سلبي أحيانًا. ديواني الأول  »عناوين سريعة لوطنٍ مقتول« كتبته عندما كنت في صور وكنت أمارس التعليم الثانوي آنذاك، فحتى في صور كنت أكتب في المقاهي والسبب أن بدايات تأسيس اللغة، بالنسبة إليّ، كانت في مقهى كلية التربية التابعة

شوقي بزيع

للجامعة اللبنانية، وسط زملائي الطلاب والخلفية كانت عبارة عن مشهد الناس المحيطين بي والأصوات من حولي تكاد تكون مبهمة إذ لم أكن أميّز منها شيئًا، وكأن هذا الضجيج الغامض يحميني من الشعور بصمت العالم أو الوحشة والعزلة التامة ويجعلني أحس كبطل يوسف إدريس الذي دخل الى الشارع ولحقه المجرمون ليقتلوه فانتهت القصة في نهاية الأمر حين صار في بحر البشر المحيطين به وكأنه يحتمي بأجساد الآخرين، من هنا صرت أحب الكتابة في المقهى بل أضحى الطقس الوحيد والأهمّ بالنسبة إليّ. أمّا في فترة الحجر ومع إقفال المقاهي فكنت متوقفًا عن كتابة الشعر بالرغم من كل ما يختزن في داخلي من أسئلة. الأمر مختلف في ما يختصّ بالنثر الذي أكتبه في أي مكان كالبيت أو غيره وطبعًا لا أشعر بالأسى لأن أي شيء أخزنه في داخلي لا يمكن إلا أن ينفجر لاحقًا فلا بد حتى لو تغيّر المقهى أو أقفل لسبب ما، ممكن أن أبحث عن مقهى آخر، لكنّ الأمر يحتاج إلى وقت معين لأتكيف من جديد. يضاف مؤثّر آخر في طقوس الكتابة أيضًا وهو عامل الزّمن فلا أستطيع الكتابة ليلًا، أمّا في الصباح فأشعر أنّي أحمل طاقة كبيرة بعد نيل قسط من النوم والراحة لذلك يكون الأمر أسهل وأفضل بالنسبة إليّ.«

وعن حضور المعرفة الشعرية في أثناء الكتابة عند شوقي بزيع من خلال آخر عمل له وإمكانية الكلام عن حدود جمالية في الفكر الشعري ما دامت القصيدة تفكر من داخل النص بعيدًا عن أية اسقاطات مفروضة، يقول الشاعر:

 »في الواقع إنّ إشكالية العلاقة بين الشعر والمعرفة قديمة وليست جديدة. هل الشعر عملية معرفة أو هو مجرد فانتازيا جمالية؟ هل هو مجاني في المطلق أو يحمل وظيفة ما؟ ليس بالضرورة أن تكون إيديولوجية لكن هناك من يعتبره رسالة إنسانية أو بحث عن معنى، أو تقصي معرفة… أظنّ في نهاية المطاف أن كل الاسئلة تأتي إلى النص من خارجه لأننا فيما نكون على علاقة مع النص نتجرد من أي شيء مسبق ونقع مباشرةً في عشق اللغة وتسدل الستائر وتطفأ كل الأضواء ويبقى نور الشغف الذي تحدثت عنه باللغة والتي تحضر مع إيقاعها وموسيقاها بالنسبة إلى شاعر الوزن. وأنا من شعراء الوزن التفعيلي فالفكرة تأتي على شكل هلامي تأخذ أبعادًا مبهمة، غامضة ولذلك نكتشف المعنى في أثناء الكتابة ومن هنا في مطلع إحدى القصائد أقول إنّ الشاعر دائماً يكتب ما يجهله، الشاعر لا يعرف ماذا يكتب هو يأتي الى الكتابة أعزل من أي شيء سوى من هذا الإلحاح الداخلي، من هذه القوة، أو الطاقة الحية التي يسميها لوركا  »الروح المبدع«، أو التي يتحدث عنها بيرغسون أيضاً كطاقة حية أو التي تعتبر بالنسبة إلى نيتشه، بالمعنى الديونيزي، هذا الانفجار الشهواني من داخل النفس طبعًا حيث تكون هناك فكرة حاضرة كمثل أن أكون متأثرًا بحدث أو فكرة لها علاقة بشهيد فقدته، بأرض، أو بإنسانة فقدتها أو بموضوع يلح علي كثيرًا، أو بنوع من أنواع الحوار مع شخصية ما أثرت بي كما هو الحال مثلًا في قصيدة  »قمصان يوسف« او  »ليلة ديك الجن الأخيرة«. عمومًا يجب أن أتماهى مع هذه الحالة التي أمرّ بها أو مع هذا الكائن وهذه الشخصية التي أثّرت بي لكي أستطيع أن أكتب.

في الشعر نحن لا نكتب عن الشيء لا نكتب عن الشخص إنّما عن الشيء والشخص معًا، نكتب المفهوم أو المعنى، وكل الأمور تأتي دفعة واحدة ولكن عندما تظهر المعرفة بشكل جليّ يصبح الشعر ذهنيًّا نسبيًّا، ولذلك هناك من يقول يجب أن تمحى المعرفة داخل الشعر كما يذوب السكر في الماء يعني هو حضور خفيّ وداخلي وليس حضورًا فجًّا. الموضوع بالنسبة إلي هو عبارة عن حالة مبهمة، ممكن أن تلح عليّ مشاعر معينة، أسئلة وجودية، قلق داخلي يتعلق بالمفقودات لأن الشعر هو تعويض عن حالة فقدان نحن حين نمتلىء بذواتنا، نتصالح مع أنفسنا، إذًا نحن نكتب لأن لدينا مطالب من العالم. فالكتابة ليست فعل امتلاء بل هي فعل نقصان والشعر هو ربيب الفقدان.

في مقالة سابقة لي رددت على أبي نواس عندما هاجم فكرة الأطلال وقلت إنه ليس هناك شيء خارج الأطلال في هذا العالم. حتى إنّ أبا نواس لم يشرب إلا لأنه يقف على أطلال ماضيه وعلى خساراته وهو الذي انحرفت أمه بعد موت أبيه وشعر بهذا الشعور الكوني الهائل وبالألم الروحي في داخله فقد كتب نتيجة هذا الحدث، وكل كأس بالنسبة إلى أبي نواس هو طلل بالنسبة إلى الكأس الذي تلاه، ولهذا بدا شعره طللًا آخر لكن موضوعه كان الخمرة.

 كل لحظة نعيشها في الزمن الحاضر هي طلل بالنسبة إلى اللخظة التي تليها. إذاً الشعر كما يقول سعدي يوسف هو جنة المنسيّات فعلًا ولهذا أتقدّم إلى القصيدة وأنا طبعًا ممتلىء بشيءٍ ما أو بفكرة تسكنني.«

أمّا عمّا تمثله تجربة كتابة ديوان  »فراشات لابتسامة بوذا« ولاسيما وهي تشتغل على مكوّن الحكائي بطريقة فنية مُنحت للنص ما يسميه أمبرتو إيكو بالأثر المفتوح فيعتبر شوي بزيع:

 »إنّ الحديث عن بوذا تحديدًا يعيدني إلى ما قاله سقراط عن الزواج، تزوّج فإما ان تعيش سعيدًا مع امرأة لطيفة وأنيسة ومحبة وإما أن تحظى بامرأة مزعجة فتصير فيلسوفًا. أعتبر أني حصلت على الاثنتين معًا، فرنيم ضاهر هي شاعرة متميزة ولذلك تتحمل ما لا يقوله غيري عن مؤسسة الزواج، وهي تعرف أن دوافعي غير موجهة ضد شخص معين، بالنسبة إليّ إنّ الزواج مؤسسة فاشلة بغضّ النّظر عمّن يكون الطّرفان ومع ذلك لا بدّ منه في حياة الإنسان. أقول ذلك لأني بعد الزواج أصبت بخرس شعري استمرّ لثلاث سنوات وقد كانت الصدمة كبيرة. فقدت موضوعي، خفت أن أكون قد فقدت عنصر الشغف تجاه المرأة. استشرت الشاعر والفيلسوف العربي أدونيس وشجّعني على خوض هذه التجربة وعندما سألته عن السبب كونه ملك المغامرات، كان رأيه أنّ على الإنسان أن يفتح منافذ رؤيوية مختلفة الأسئلة. وكان كلامه في محلّه إذ صدر لي أول عمل بعد الزواج بعنوان  »صراخ الأشجار« لم أكن أتخيل أن أكتب عن هذا الموضوع فالشجرة تستخدم كاستعارة لكن أن تكون موضوع ديوان شعر فهذا الأمر صعب، لأن الكتابة عن الأشجار هي تعاط مع كائن حي لكن أشبه بالجماد، وما ساعدني على ذلك كان تعلّقي بالأرض وافتتاني بشجر الجنوب مسقط رأسي.

إني مفتون بشخصية بوذا بالرغم من أنه يملك كل شيء لأنه ابن أمير يعيش حياة جدّ مترفة، إلا أنه شعر بأنه يعيش خواء روحيًّا. فشخصية بوذا غير مستقرة وهي لا تستند الى شيء مؤكد أو قناعة ثابتة إذ يمزقها الشك والريبة كما أنها لا تقتنع بالغنى الذي عاشته في طفولتها، بل تسعى إلى مغادرة الفضاء الحميم الى فضاء آخر مختلف حيث انخرطت في حياة التوه وفي الجوب والترحال غير المنقطع. فراح يبحث عن معنى الحياة والوجود فذهب الى  »البراهما« وعاش حياة التقشف وآمن بإماتة الجسد فحين عاش هذه التجربة، شعر أنه جالس قبالة الحياة. صحيح أنه كان يمتنع عن الملذات لكنها كانت تأتيه على هيئة أحلام وصور وأخيلة لنساء رائعات يتغاوون أمامه وملذات وكؤوس، ولم يستطع أن يتحرر إلا عندما امتلأ بهذه الشهوات لكي يفرغ أسئلته الأخرى فعاد الى الحياة نفسها وعاش مع غانيات وأنجب ولدًا وفيما بعد تصالح مع العالم ومع هذا الوجود.

هذه التجربة فعلًا استوقفتني لأن بوذا بالنسبة إلي لم يعد النسخة الهندية أو الصينية بل تحوّل إلى نسخة محلية. كل واحد منا لديه شيء من بوذا كما كل واحد لديه شيء من يوسف رجلًا كان أم امرأة، كل واحد يجب أن ينزل الى بئر الآلام والمكابدات لكي يستحق الجمال الذي أعطي له. فالإنسان لا يولد جميلًا بل يصبح جميًلا لأنه هو من يصنع جماله وإلا يصير أكذوبة ومعطى فارغ من أية قيمة.

العدد108/ايلول 2020