الدولة المحكومة بعشرات الرؤوس

الدكتور نسيم الخوري

نصّ دستور الطائف في لبنان على فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، ولم يتمكن أحد، حتّى الآن، من فهم أو تطبيق الحدود التي أرساها مونتسكيو بين الأفعال الثلاثة: فصل، تعاون، توازن. إنّ الخلاف الكبير الذي حصل في الطائف كان في مشاركة النواب رئيسي الجمهورية والحكومة في تشكيل الوزارات حيث تتمسّك الأحزاب بالجمع بين النيابة والوزارة بما يؤلف تداخلاً بين السلطة التشريعية والإجرائية يبطل دور الرقابة البرلمانية وأجهزة الرقابة المنوطة برئيس الوزراء.

كيف يؤلّف رئيس الحكومة بالتعاون مع رئيس الجمهورية حكومته إذا كان كلّ زعيم حزب مستقوياً بالخارج ويتصرّف بمثابة رئيس جمهورية وبرلمان وحكومة بل أقوى من الثلاثة على التعطيل؟

كيف ينسّق رئيس الحكومة السلطات الإجرائية إذا كان كلّ وزير ممثل أو موظّف عند رئيس حزبه يعتبر نفسه أقوى من رئيس حكومته وكلّ الوزراء الممثلين لرؤساء أحزابهم وطوائفهم مجتمعين محكومين بالتعطيل وشلّ الدولة حول طاولة مجلس الوزراء؟

بات حول الطاولة ثلاثين رئيساً لا وزيراً.

وبات الحكم مستحيلاً إذن في لبنان وسقط اللبنانيون في شقوق الفساد ودهاليزه وكان من نتائجه القهر والطحن والعذاب إلى ما لا يمكن تصوّره من حكومة صنميّة مقيمة في عتمة القصر الحكومي من دون أي خطوةٍ نحو بصيصٍ من الضوء.

من يحكم لبنان إذن ؟

لا جواب واضحاً بعد الـ2005 ! نحن دولة محكومة بعشرات الرؤوس!

بصراحة مطلقة، يعيش اللبنانيون قبل ذلك التاريخ، منذ ال1989 وكأنهم بلا دستور أو قوانين تنظّم حقوقهم وتكفل مستقبلهم. إنتشلهم هذا التاريخ في مدينة الطائف بعد الحروب الطائفية الشرسة والمزمنة والمتنوّعة عندما أقرّ البرلمان اللبناني الذي جدّد لنفسه من 1972 إلى 1992 بسبب الحروب وخلافاً لكلّ المعايير الديمقراطية والحريّة التي أفرغت من معانيها، وبرعاية إقليمية ودولية وأممية إتّفاق الطائف الذي بات دستوراً جديداً للبلاد أعاد توزيع السلطات، لكنّ أحزاب الطوائف أبقت لبنان معلّقاً في الإجتهادات وقراءات التحاصص المتناقضة.

أخرج إتّفاق الطائف العقد التبادليّة بين المكونات اللبنانية عندما أقرّ بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين في التمثيل البرلماني والحكومي والمدراء العامين. وكان الشهيد رفيق الحريري، الذي نطقت المحكمة الدولية باغتياله في 7 آب الماضي، يفاخر بأننا أوقفنا العدّ الطائفي في إحتساب اللبنانيين وولجنا مرحلة التنوع والإنصهار الوطني الشاق. أرضى الأمر ربّما المسلمين السنة وأخرجهم من عقدة الغبن والإحباط إلى إدارة السلطات التي إنتقلت كلّها الى طاولة مجلس الوزراء مجتمعاً والذي تتحدّد فوقها تلك السلطات وتتبلور، لكن المسألة بقيت خاضعة لشخصية رئيس الحكومة فقد إستطاع عبرها الشهيد رفيق الحريري بقدراته وملاءته الشخصية والدولية إستقطاب أبناء الطوائف الأخرى في  »تيّار المستقبل« كما في تمثيل العديد من اللبنانيين من الطوائف الأخرى وبمختلف المناصب.

ماذا تغيّر اليوم؟

عادت مشاعر الغبن والإحباط المسيحي والشيعي تحديداً تظهر بقوّةٍ همساً ثمّ جهراً وممارسةً وتحوّل الجهر الى مستويات من الخطب والتصريحات والممارسات الطائفيّة الفجّة والأكثر قسوةً في حنين ماروني مستحيل لاستعادة سلطات الماضي الموروث في حكم لبنان وطموح شيعي مستحيل أيضاً يتنامى ويقوى في تغيير صورة الحكم في لبنان. أقول المستحيل لأنّ نبراتٍ فجّة أخرى مقلقة باتت تلوّح بالخروج من المناصفة إلى المثالثة بفضل العددية إذ اختلّ التوازن نتيجة الإنجاب والهجرة والفقر والضيق والبطالة وتدفّق الشباب الفاقدين للأمل بالمستقبل على أبواب السفارات التي تشرّع أبوابها للشابات والشباب نحو أوطانٍ أخرى.

يتحوّل فتيل الإلتهاب التاريخي الطائفي إذن إلى مستويات أخرى مقلقة من الصراعات والتحالفات بين الأحزاب والميليشيات التي سيطرت على لبنان في الحرب وبعض السلم وصولاً إلى الثنائيات الطائفية المتنافسة والمتحالفة أوالمتصارعة والمتحاصصة مثل الثنائية المارونية الممثلة بالتيار الوطني الحر والقوّات اللبنانية والثنائية الدرزية والثنائية الشيعية الممثّلة بحزب الله وحركة أمل المتطلّعة إلى لبنان المثلّث.

لا دستور يطبق إذن، في لبنان لأنّ الأحزاب الطائفية أقوى من الدولة بل هي الدولة والمنتمون إليها لا يتجاوزون الـ15 بالمئة من المواطنين وأقلّ من ذلك بكثير إذ لطالما تمثّلت أحزاب في البرلمان أو الحكومة، خلال النفوذ السوري المباشر في لبنان، برئيسها وعديد محازبيه عدد من أقاربه لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين.

من يحكم لبنان اليوم؟

أمراء الحروب والطوائف والمحاصصة.

لا يحكمه رئيس الجمهورية ولا رئيس مجلس النواب ولا رئيس مجلس الوزراء بل الرؤساء الثلاثة مجتمعين ومتناكفين ومتحاصصين وتشاركهم الأحزاب الممسكة بتفاصيل الجمهورية المخلّعة الأبواب. يجتمعون في مقاعد السلطات الديمقراطية الإسمية ويتباعدون مع مناصريهم في ممارسات ترعب المواطنين وتشلّ الإقتصاد والقدرات المالية والنقدية والمستقبل الذي بات يحتلّ الألسنة والشاشات تشبيهاً بسقوط فنزويلاّ. هكذا يقدّم زعماء الأحزاب لبنانهم المهيض أنموذجاً تجريبياً/تخريبيّاً كارثياً لفصلٍ تخريبي قد يغطّي الفصول والأمكنة العربية التي شهدناها منذ العراق إلى العراق.

لا اللبنانيين إستلّوا العبر وبلغوا المعايير الوطنية في الحكم ولا العرب إستلّوا العبر بدورهم من الحروب المستوردة المتنقلة من دار لدار حيث لا مستقبل للبنان ولا للعرب خارج أطر الحوار والتآلف والتفاهم والتوحد في وعي الحاضر ورسم المستقبل.

العدد108/ايلول 2020