انفجار مرفأ بيروت.. لبنان خارج خريطة التجارة العالمية واقتصاده مهدد بالسكتة القلبية

عمر مخفي

قبل جائحة كورونا وقبل الانفجار الفاجعة في مرفأ بيروت، كانت توقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى انكماش محتمل للاقتصاد اللبناني بـ12 ونسبة تضخم لا تقل عن 20 بنهاية هذا العام. أخطأت توقعات المؤسسة الدولية وسجل لبنان أرقاما أسوأ من المتوقع بحلول منتصف العام. ولنا أن نتخيل اليوم حجم الحفرة التي رمى فيها الانفجار المهول اقتصاد بلد الأرز حتى قبل أن ينقشع دخان المأساة وتتكشف الصورة بكامل قتامتها.

قبل الانفجار المأساة، كان الاقتصاد اللبناني يترنح تحت وطأة تآكل احتياطيات النقد، وانهيار العملة، والمديونية، وتراجع القدرة الشرائية بفعل تضخم جامح بلغ 110 في المئة حتى شهر مايو الماضي، فضلا عن وصول منسوب

بانفجار مرفأ بيروت فقد لبنان رئته الاقتصادية وعنوانه على خريطة التجارة العالمية

ثقة الشعب والشركاء الماليين الدوليين في الدولة اللبنانية إلى الحضيض. ولنا أن نتخيل اليوم حجم الكارثة الاقتصادية التي ضاعفها الانفجار في بلد يحتاج بشكل عاجل إلى جرعة دين خارجي، أو مساعدة أجنبية ليسترجع بعضا من أنفاسه المقطوعة.

فتيل سياسي..

ما حدث في مرفأ بيروت ذلك اليوم من أيام آب/أغسطس الحارة الرطبة، ليس مجرد حادث أمني بتداعيات إنسانية وسياسية واقتصادية. هو قبل كل شيء انفجار سياسي، برميلُ البارود فيه فسادٌ مستشرٍ يمسك بفتيله النظام السياسي الطائفي. وقد حاولنا أن نشرح في العدد الماضي كيف أن الاقتصاد اللبناني مريض بالسياسة وأن لا إصلاح متخيلا له إلا عبر إصلاح أشمل تكون الخطوة الأولى فيه هي إعادة النظر في تركيبة النظام السياسي، الذي قاد البلاد لخمسة عقود من الحرب والسلم في نفق مظلم من الأزمات المتلاحقة.

والغرض من هذا التذكير هو القول إن الحديث عن الاقتصاد اللبناني بشكل مستقل عن الأسباب السياسية والطائفية التي قادته ولا زالت إلى الخراب لا يستقيم. هو حديث حاشية على متن أكثر تعقيدا. لكنه حديث ضروري لأن الاقتصاد ـ كما الانفجار ـ يمس حيوات اللبنانيين بشكل مباشر، ويبعث لديهم كل أنواع القلق الآني والمستقبلي، ويجدد تساؤلاتهم المشروعة حول نجاعة مؤسساتهم وقدرة نخبتهم الحاكمة على تجاوز آثار الأزمة أولا ثم معالجة جذورها لاحقا. حديث يذكرهم بما خسروه كأفراد وكشعب، وما قد يخسرونه إذا لم يتم تغيير دفة السياسة باتجاه الإصلاح.

أكثر من مرفأ..

وما خسره لبنان في انفجار نيترات الأمونيوم ليس مجرد ميناء دولي يطل منه على العالم. لقد فقد الرئة التي يتنفس بها اقتصاده، والعنوان الذي يضعه على خريطة التجارة العالمية.

تشير معطيات شركة مرفأ بيروت إلى أن الميناء، أكبر الموانئ اللبنانية وأحد أهم الموانئ في شرق المتوسط، يستوعب 82 بالمئة من كل صادرات وواردات البلاد، ويقوم بمناولة 98 في المئة من مجموع الحاويات في لبنان. كما أنه يدر دخلا سنويا يقدر في المعدل بـ 250 مليون دولار، ويساهم في جمع 80 في المئة من عائدات الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة. وقبل الانفجار، كانت للمرفأ خطوط نقل مباشرة مع 56 ميناء في ثلاث قارات، ويصدر البضائع للجهات الأربع من خلال شراكات مع 300 ميناء آخر.

تعني هذه الأرقام، أن لبنان بات بشكل كبير خارج منظومة التجارة العالمية، وأن عليه التحرك بسرعة لإيجاد بدائل تعيد الحياة إلى صادراته التي يحتاجها أكثر من أي وقت مضى لتعزيز مخزونه الناضب من العملة الأجنبية، وتأمين وارداته الأساسية وفي مقدمتها المواد الغذائية.

لمرفأ بيروت طاقة استيعابية تقدر بـ120 ألف طن من المواد الزراعية. وهذا يعني أنه الرقم الأهم في معادلة الأمن الغذائي في بلد يستورد بين 65 و80 في المئة من حاجته الغذائية، وخاصة القمح الذي يستهلك منه شهريا نحو 55 وخمسين طنا لا ينتج منها إلا الخُمس. وفي ظل ظروف البلد الراهنة، يبدو القمح ـ أكثر من أي وقت مضى ـ »مرا في

صوامع القمح.. ندب على جبين بيروت ينذر بكارثة تهدد قوت اللبنانيين

حقول الآخرين« كما يقول محمود درويش. ولعل أطلال صوامع القمح (الإهراءات) التي بقيت كندب بارز في جبين بيروت الممزق، إنما صمدت لتذكر حكام البلد بكارثة أكبر تتهدد قوت اللبنانيين إذا لم يتم التصرف سريعا.

حلول ترقيعية..

لكن لبنان لا يملك بديلا حقيقيا لمرفأ بيروت. فهو منشأة أهم وأكبر من أن تعوض في المطلق، فبالأحرى في وقت قصير! وبينما يعكف مسؤولو المرفأ على تقييم ما بقي صالحا من أحواضه وأرصفته ورافعاته بهدف إعادة تشغيلها في أقرب الآجال، بدأ التحرك فعليا لاستعمال ميناء طرابلس شمالا، وبشكل أقل ميناءي صور وصيدا جنوبا، لاستيعاب أكبر قدر ممكن من المبادلات التي كانت تتم عبر بيروت. ويمكن لميناء طرابلس، ثاني أكبر موانئ البلاد، توفير حلول مؤقتة لتأمين الواردات الأساسية، الغذائية منها تحديدا، خاصة وأنه له قدرة استيعابية غير مستغلة يمكن أن تكون مفيدة جدا في هذا الظرف. فالميناء لا يستقبل إلا مليوني طن من البضائع ولا يناول سوى 70 ألف حاوية سنويا بينما بإمكانه استيعاب خمسة ملايين طن من البضائع ومناولة 300 ألف حاوية. لكن ذلك سيتطلب إدارة على درجة عالية من الكفاءة، تأخذ في الحسبان رفع الطاقة البشرية للميناء الشمالي، وترسي الأولويات في استقبال البضائع وتخزينها وتوزيعها لتفادي اختناقات لم يتعود مسؤولو الميناء على التعامل معها.

ولا يملك لبنان خيارات إقليمية يمكن اللجوء إليها فعليا دون آثار سياسية جانبية ليس بإمكانه تحمل كلفتها حاليا. فعلى الرغم من أن تركيا عرضت رسميا وضع ميناءي مرسين وإسكندرون تحت تصرف الحكومة اللبنانية، إلا أن القبول بالعرض التركي قد ينظر إليه كبيان سياسي مناهض لفرنسا التي يقود رئيسها إمانويل ماكرون جهود تنسيق المساعدات للبنان بينما يخوض حربا جيوسياسية مع أنقرة في ليبيا وشرق المتوسط. ويبدو أن أقصى ما يمكن للبنان فعله هو اللجوء إلى الموانئ التركية في الحالات الاستثنائية وبتفاهم وتفهم مسبقين مع باريس.

مسارات لإعادة الإعمار

ويبقى الحل المستدام الوحيد هو تعجيل الخطى لإعادة إصلاح ما دمره الانفجار في المرفأ. وليس أمام الحكومة اللبنانية إلا العمل على مسارين، أحدهما سريع والآخر متوسط الأمد. فعلى المسار السريع، سيكون على شركة مرفأ بيروت إعادة تشغيل الأحواض والأرصفة والرافعات التي لم تتضرر من الانفجار أو تضررت بشكل يمكن إصلاحه في غضون أسابيع. كما يمكنها تسريع العمل بالحوض الخامس في الميناء والذي كان قيد الإنشاء عند وقوع الانفجار.

أما المسار متوسط الأجل، فيتعلق بالتخطيط لبناء الميناء مجددا وإعادته إلى سالف عهده وربما تحسين موقعه على خريطة موانئ المتوسط. ويتطلب هذا الأمر نظريا ما بين 18 و24 شهرا إذا بدأت الأشغال بشكل عاجل وسريع وبتمويل كاف وغير متقطع. لكن أمام هذا الأمر عوائق جمة ترتبط أساسا بالتمويل الخارجي الذي يرتبط هو ذاتُه بشروط إصلاح عسيرة لا يمكن لحكومة تصريف الأعمال الحالية ولا الحكومة التي ستليها (سواء كانت حكومة تكنوقراط أو حكومة وحدة وطنية) إنجازها بسرعة ومن دون توافق سياسي واسع على إصلاح المنظومة برمتها. والأساسي في هذا الوقت هو النأي بالمرفأ عن حسابات السياسة وإعطاء الأولوية لإعادة بنائه دون تطويل أو تسويف.

وبين المسارين السريع والأقل سرعة، يمكن كذلك إدراج المبادرة الكويتية بإعادة بناء صوامع القمح. فقد كان القرار الكويتي سريعا لكن تنفيذه قد يتطلب أشهرا من التخطيط والتنسيق والتنفيذ. وتكتسي هذه البادرة أهمية خاصة في ظل حديث الدائنين والمانحين العلني عن عدم رغبتهم في التعامل المباشر مع الحكومة اللبنانية، سواء لجهة تقديم المساعدات الإنسانية أو لجهة منح الهبات التي تتطلبها إعادة الإعمار. وإذا توافرت شروط نجاح المبادرة الكويتية، فإنها قد تتحول إلى نموذج يشجع أطرافا إقليمية ودولية على أن تتبنى أجزاء من إعادة الإعمار بالتنسيق مع المؤسسات اللبنانية ولكن من دون التعامل المالي المباشر معها.

نحن والمرفأ جيران..

تبدو خسائر المرفأ على هولها قابلة للحصر وربما للتعويض. فأغلبها مؤمن عليه. حيث تشير التقديرات الأولية إلى أن المطالبات بالتعويض قد تتراوح بين مليارين وثلاثة مليارات دولار. لكن يبدو من المبكر الحديث عن رقم نهائي في ظل الصعوبة التي تكتنف حصر الخسائر المتعلقة بوقف أنشطة المرفأ.

ومع ذلك تظل الأمور أكثر تعقيدا في جوار المرفأ.

لقد امتد قُطر الدائرة المباشرة للدمار الذي خلفه الانفجار إلى تسعة كيلومترات، وتتوسع الدائرة إلى الضعف على الأقل إذا أخذنا في الاعتبار الأضرار الخفيفة التي لحقت بالمباني السكنية والتجارية والبنية التحتية والسيارات. داخل الدائرة الصغيرة (ذات الكيلومترات التسعة) تتركز الخسائر الأكبر، ليس فقط بسبب تدمير المرفأ والإهراءات والمخازن، ولكن أساسا لأن الانفجار عصف بنحو 6200 بناية، أو ما يعادل 60 ألف وحدة سكنية، بعضها ذو قيمة تاريخية وأثرية يصعب تقديرها بالمال. ولا أحد يعرف كم من هذه المباني والمساكن مؤمن عليها، وبأي طريقة سيتم تقييم أضرارها، ولا كيف ستتصرف شركات التأمين تبعا لنتائج التحقيق وتوصيفه لطبيعة الانفجار. ولكن الأكيد أن الدولة اللبنانية المفلسة ماليا، وبلدية بيروت التي تَعُد آخر ليراتها (900 مليار ليرة أو 600 ألف دولار بأفضل أسعار الصرف في السوق اللبنانية)، والهيئة العليا للإغاثة لا قبل لها مجتمعة بإصلاح ما أفسده الانفجار. وسيكون من التفاؤل المبالغ فيه توقع عودة قريبة لربع مليون لبناني شردهم الانفجار إلى بيوتهم وروتينهم اليومي.

وظائف في مهب الريح

وما يزيد الطين بلة هو أن ثلثي النشاط السياحي والترفيهي يوجد في محيط المرفأ أو في الدائرة الأكثر تأثرا بالانفجار. فـ 70 في المئة من الفنادق والمقاهي والمطاعم والملاهي (أكثر من 10 آلاف مؤسسة) تضررت بشكل بالغ، ولا يبدو أن معظمها سيكون قادرا على معاودة العمل قبل أعمال إصلاح وترميم قد تستمر لأشهر وقد تستنزف موازنات المستثمرين المنهكين أصلا بسبب تداعيات جائحة كورونا وانهيار العملة وتراجع الاستهلاك. وهنا أيضا سيطرح موضوع التأمين وكيفية تعامله مع المؤمنيين ومعايير تقويم الأضرار.

ويتوقع اتحاد النقابات السياحية في لبنان أن الخسائر المباشرة لهذا القطاع قد تتجاوز مليار دولار، فضلا عن الخسائر المحتملة في الإيرادات والتي بدأ عدادها في الدوران يوم الرابع من آب/أغسطس ولا أحد يعرف على وجه التحديد متى سيتوقف. أضف إلى ذلك الكارثة الاجتماعية التي سيخلفها توقف أنشطة المؤسسات السياحية والذي قد يودي بوظائف 100 ألف شخص من أصل 150 ألفا يشغلهم القطاع.

بعيدا عن الأرقام

رقم المهددين بفقد مصدر عيشهم هو واحد من أرقام كثيرة مفجعة يتكشف عنها انفجار المرفأ كل يوم. ولا شك أن بعض الخسائر لا يمكن أن تختزل في أرقام! يكفي أن صورة لبنان أصيبت في مقتل بسبب الانفجار وتراكمات الفساد والإهمال التي أدت إليه. وحلت صورةُ البلد الذي تمسك بتلابيبه نخبة فاسدة وغير كفؤة محل صور كثيرة مشعة: سويسرا الشرق، مسقط رأس الكتابة وموطن جبران وفيروز وغيرهم من سفراء الفن والأدب، مركز النشر والكتاب في العالم العربي، ملتقى طرق الحضارات القديمة، إلخ. أي سائح أو مستثمر قد ييمم وجهه صوب لبنان اليوم دون أن يطرح عشرات الأسئلة على نفسه قبل أن يقدم على الخطوة؟ كيف للمواطن المنكوب منذ أجيال أن يثق مجددا في نخبته الحاكمة أو يأتمنها على مستقبل أبنائه؟ كم من شاب سيقاوم إغراء الهجرة ووضعُ البلاد يَخِزه في القلب صباح مساء؟

من يعوض اللبنانيين الذين فقدوا في انفجار المرفأ حبيبا أو قريبا أو صديقا؟ سكنا أو وسيلة تنقل؟ مصدر رزق أو مدخرات العمر؟ من يعوضهم عن قتل ما تبقى من أمل، حتى ذلك الأمل الضئيل الذي يصدر أحيانا من ملل كما يقول زياد رحباني في الأغنية التي تؤديها والدته فيروز؟

لا شيء يبدو قادرا على عزاء اللبنانيين في قتل مرفئهم وذبح مدينتهم واغتيال أحلامهم سوى – ربما – الشروع في عملية إصلاح شاملة تنهي نظام الفساد الملتحف برداء السياسة والطائفية، وبناء لبنان جديد لا مكان فيه لكل هذا العبث. هي عملية معقدة ومحفوفة بالمخاطر لا شك، لكنها باتت ضرورة لاستبدال نظام استنفذ كل أسباب عيشه واستمراره، ولإخراج لبنان من منحدر التحول إلى بلد فاشل.

العدد108/ايلول 2020