على خلفية الأزمة الإثيوبية وملابساتها، مصر قادرة على لملمة جراحها والتطلع بثبات إلى المستقبل

إثيوبيا في حاجة ملحة إلى ردم الهوة بين عرقياتها أكثر من مشاغبة جيرانها

أمين الغفاري

كانت أزمة سد النهضة الإثيوبي بالنسبة لمصر، ثم أزمة التدفق المرصود والملحوظ من التنظيمات الأرهابية على الأرض الليبية، مصدرا للقلق والتوتر لاشك فيه، ونعلم أنه قد سبق وأن أيد وجود تلك التنظيمات أكثر من مبعوث أممي إلى ليبيا، وكان اخرهم الدكتور غسان سلامه، وما يشكله ذلك من تهديد للأمن القومي المصري والليبي معا، مما كان يستدعي ـ بداهة ـ نوعا من الأصطفاف الوطني مع حق الأمة، والوفاء للأرض وللأهل من اللذين يطلقون على انفسهم قوى المعارضة المصرية في الخارج وفي الوقت الذي اصبحت فيه مصر تواجه معركتين في آن واحد كلاهما شديدة الحساسية، وترتبط مباشرة بأمن مصر، وبمستقبلها، الا انهم للأسف أخذوايطلون علينا بكل فظاظة وغلظة بقدر كبير من الأبتهاج ان لم يكن بالتشفي، وكأن لا أرض لهم يتحسبون لها، ولا أهل لهم يبحثون من اجلهم على الطمأنينة بالنسبة لرشفة ماء لأنسان أو زرعة أرض لنبات أو نجدة حياة لحيوان. لكن يبدو بالتأكيد أننا نعيش في زمن مختلف، ليس فقط في ادوات الاتصال والمواصلات، أو في تعدد وسائل الرأي والتعبير، ولكن الأختلاف زحف بالبعض منا إلى مفاهيم أخرى لمعاني الوطنية، وحدود المعارضة، إلى درجة ان الخيانة اصبحت مجرد وجهة نظر. كنا في زمن مضى نرى فلسطين هي قضية القضايا، وكانت الصهيونية ومعاداتها هي الاتفاق الذي لايعترضه رأي أو قلم، لكن ألان تعددت القضايا، وأصبح الأحتلال على أكثر من أرض. كنا في زمن مضى نرى الخلاف بين الأحزاب في أي قطر من المسلمات المشروعة، بل والبديهية حتى ان وصل التطرف في حب أو تأييد زعيم يصل إلى حد رفع شعار

السدود للتنمية والتعاون.. وليست للمكايدة والاضرار بالغير

يقول صراحة: الاستعمارعلى يد (سعد زغلول) أفضل من الأستقلال على يد (عدلي يكن): أو رفع شعار (لو رشح الوفد حجرا لأنتخبناه). كان ذلك التطرف مع حدة تعريفاته نرى أنه يجري على أرض وطنية. كان الخلاف الوطني المشروع يجري على الارض الوطنية التي هي ملك لكل الفرقاء، ولم يكن الخلاف يطل عبر شاشات اجنبية وبمال مدفوع بعملات اجنبية. ولعل الكثير منا يعرف ما حدث أثرالعدوان الثلا ثي على مصر عام 1956 (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) أن تقدم المصريون الذين كانوا يعملون في هيئة الأذاعة البريطانية في لندن باستقالاتهم، احتجاجا على مشاركة بريطانيا في العدوان على وطنهم، وكان في طليعتهم الفنان محمود مرسي والفنان محمد توفيق وكان كلاهما يعمل مخرجا للبرامج الاذاعية في هيئة الاذاعة البريطانية في لندن، وعاد الكل إلى ارض الوطن مفضلين العمل على الأرض المصرية، مهما كانت وفرة العائد من العملة الأجنبية، فالأمر حين يتعلق بالوطن، سلامته وكرامته فالخيار محسوم لصالح الأرض والأهل، والرمز هو الوقوف تحت الراية الوطنية.

متى نشأت المعارضة من الخارج؟

عرفت بعض العواصم الاوروبية مثل باريس وبرلين، بعض الشخصيات المصرية التي ذهبت إلى تلك العواصم رافعة القضية الوطنية فاضحة اساليب الاستعمار البريطاني ودمويته كما ندد بها مصطفى كامل في باريس خصوصا أثر مذبحة (دنشواي) عام 1906، ومن بعده خلفه محمد فريد من العاصمة الالمانية برلين، اي أنها كانت معارضة للأحتلال البريطاني لمصر، ومن أجل مصر. لكن جماعة الاخوان المسلمين وضعت قواعد جديدة لمعنى وهدف المعارضة سواء في الداخل أو من الخارج. القتل والدم في الداخل، و(المال السياسي) من الخارج. أنها فرت إلى الخارج، اثر نشاطاتها الدموية في القتل والاغتيال سواء في العهد الملكي واغتيالهم لرؤساء الوزارات احمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي، والقاضي احمد الخازندار، ومدير أمن القاهرة اللواء سليم زكي، وازاء الاغتيلات الأخيرة صرح مرشدهم حسن البنا (أنهم ليسوا اخوانا وليسوا مسلمين) وبعد الثورة أثر محاولة اغتيال جمال عبد الناصر، فر أيضا وبعدد مضاعف الكثير من قياداتهم إلى الخارج سواء عام 1954، وكذلك أثر اكتشاف تنظيم سيد قطب الذي كان يعد لتفجير القناطر الخيرية ونسف الكباري من اجل نشر الفوضى تمهيدا للأستيلاء على الحكم عام 1965، وفي الخارج بدأ احتضان بعض الأنظمة المناوئة لنظم الحكم لهم واغداق الاموال عليهم، ما كان من شأنه تراكم الاموال وتكوين الثروات، وظهر مفهوم (المال السياسي) كأسلوب عمل وارتزاق في آن واحد. هنا لابد ان نذكر كذلك اذاعة (مصر الحرة) التي باشرها محمود ابو الفتح، وكانت لدعم العدوان على مصر عام 1956، وكان الخلاف بين آل ابو الفتح وثورة يوليو خلاف يتعلق بثرواتهم اكثر منه خلاف سياسي.

من يتابع بعض القنوات الفضائية المعادية لمصر، وفي المقدمة منها قناة الجزيرة يلمح بغير عناء كم التعبئة الاعلامية ضد مصر، وكم يبلغ حد الابتهاج لتعثر المباحثات، بشأن مفاوضات السد الإثيوبي. وكم يبلغ حجم التدني في بعض المشاعر العربية، حين يصف أحد المحاورين من القطر الأردني الشقيق قادة إثيوبيا بأن (العيال كبرت) بمعنى ان مصر قد توارت أو شاخت أمام الجيل الصاعد في إثيوبيا. هكذا تهترئ العواطف وتهبط المشاعر العربية، ونحن ننظر ونراقب صدور مثل ذلك التعبير، ونعرف دوافعه وهو دغدغة مشاعر القائمين على أمر قناة الجزيرة واستجلاب رضاهم ولا أكثر، فالمقارنة بين مصر وإثيوبيا، لا ينبغي أن تذكر، فكلاهما قطر افريقي له وزنه، وكلاهما كسب لقضية الحرية والاستقلال على المستوى العام للقارة الافريقية، ولحساب الكرامة الانسانية التي ينبغي ان تكون عالية ومرصودة بالنسبة لحقوق الانسان.

مصر وإثيوبيا وحتمية التعاون للانطلاق في التنمية

1 ـ مصر كان لها دور فاعل في العمل في افريقيا، بل يمكن القول ان لها انجازا تاريخيا في دعم حركة التحرر الافريقية، وخير شاهد على ذلك رواد حركة التحرر الافريقية مثل نلسون مانديلا، في جنوب افريقيا ونكروما في غانا وسيكوتوري في غينيا، وهناك بالمناسبة جامعة في(كوناكري) باسم جمال عبدالناصر، ولست بصدد طرح الجهد المصري في افريقيا، وهو كثير إلى حد ان احد قادة (غانا) وهو الجنرال (انكراه)كان يلقب عبدالناصر بوالد افريقيا، وان كانت مصر قد غابت عقودا عن حضورها الأفريقي بفعل سياسات الرئيسين السادات ومبارك، فان سياساتهما لم تضر بمصر فقط في علاقاتها مع افريقيا، بل اضرت بمصر على مستويات متعددة من الانفتاح الاقتصادي (السداح.. مداح)وبيع مؤسسات القطاع العام التي كانت ركيزة التنمية ومدرسة التصنيع وتشكيل الطبقة العاملة والأيدي المدربة

رئيس جمهورية جنوب افريقيا سيريل رامافوزا
المظلة الافريقية هي البيت الطبيعي لبحث القضايا الافريقية

وزواج الحكم مع رأس المال في عهد مبارك.. الخ وكذلك اهمال الرصيد الذي كونته مصر مع عالمها الأفريقي. لكن مصر من جانب آخر لها رصيدها الكبير على الرصيد الحضاري والتماسك الاجتماعي، ويقول د. جمال حمدان في رائعته (شخصية مصر) أن (المجتمع المصري مجتمع متجانس إلى حد كبير، فهو مجتمع لا تعتصره العرقية ولا الطائفية، وعلى ذلك فان طاقته يمكن ان تكون مضاعفة في حالة ادارتها بشكل جيد)، يعزز ذلك تراثها الفكري والثقافي والعلمي، وقد قدمت إلى الساحة العلمية رموزا عالمية د. زويل ود. مجدي يعقوب، وعلى الساحة الادبية نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعلى الساحة السياسية جمال عبدالناصر فهو زعيم له اسهام عالمي فهو احد

 المؤسسين لحركة عدم الانحياز واحد قيادات مؤتمر باندونج واحد المؤسسين لمنظمة الوحدة الافريقية. واذا كانت مصر قد تأثرت بحركة الثورة في 25 يناير2011 وسرقة جماعة الاخوان لتلك الثورة وشيوع الأضرابات، واثارة القلاقل، الا ان يقظة شعبها قد قامت بتصحيح مسيرتها يالثورة اللاحقة في عام 2013. لكل ذلك فهي في حاجة إلى بذل كل طاقتها في التنمية لتعوض تلك الفترة التي عمت فيها الفوضى، وتدارك كل الآثار السالبة لفترة حكم الرئيسين السادات ومبارك، وأيضا التصدي لمخطاطات جماعة الأخوان وداعميها في اثارة القلاقل والمتاعب من اجل تحقيق اهدافها. أيضا فترة الخلل التي تعرض لها العالم العربي في مايسمى بالربيع العربي قد أغرى بعض القوى الاقليمية المحيطة ان تحاول فرض اجندتها، والدخول إلى المنطقة العربية بالنفوذ وأيضا بالقوة العسكرية، واستخدام الدين في محاولة بسط نفوذ اضافي، وضرب الوحدة الوطنية في بعض الاقطار العربية. كل ذلك يحتاج إلى اعادة ترتيب الاولويات، ووضع اساس جديد لحركة البناء والتعمير والتصحيح.

2 ـ إثيوبيا: مصر بالتأكيد لاتقف في مواجهة حق إثيوبيا في التنمية والبناء، فإثيوبيا القوية ضمانة لأستقلال افريقيا، ودعم لأمتلاكها لحريتها وبالتالي حرية افريقيا، والتحفظ الوحيد هو ان تعمد إلى الأضرار بجيرانها، فقاعدة لا ضرر ولا ضرار هي القانون الحاكم لعلاقة دول حوض النيل، وإثيوبيا تحتاج للمؤازرة في مواجهة العديد من الأخطار التي تهددها. إثيوبيا وفق تعريف بعض العلماء التقليديين انها عملاق متعدد الاعراق، حيث يعيش على ارضها نحو مائة مليون وعشرة نسمة ينتمون إلى اكثر من 80 مجموعة عرقية، وقد يكون مفهوم (العرق) في حاجة إلى مراجعة، باعتبار ان بعض العلماء يرون أن الاختلاف العرقي، هو اختلاف لغوي واختلاف ثقافي، وسواء سلمنا بهذا التعريف اوذاك الا انه يشكل ظاهرة محفوفة بالمخاطر بل والانفجار، فقد كانت دولة ارتريا ضمن التعريف بإثيوبيا، ثم حدثت الثورة ونالت اريتريا الاستقلال بعد كفاح تخللته حربان اهليتان بدأتا بخلفيات دينية بين مسلمي الساحل الاريتري ومسيحيي الجبال، إلى ان تمكنت (الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا)وهو تنظيم ماركسي يقوده اسياس افورقي الذي تمكن من ان يتحول إلى زعيم وطني للبلاد مع اعلان استقلال اريتريا عن إثيوبيا رسميا وفقا لأستفتاء شعبي عام 1993 وان كانت المشاكل ما زالت تدق الابواب حتى الآن بين الدولتين. مشكلة اقليم (أوجادين) أيضا ما زالت في الذاكرة وقد كان على وشك الانفصال والالتحاق بالصومال في عهد منجستو (الشيوعي) عام 1977، وقد تمكن الصومال تحت قيادة زياد بري من السيطرة على 90 من اقليم (اوجادين)، ولم يرده سوى التدخل الذي قام به الاتحاد السوفييتي من دعم لم يشهده من قبل القرن الافريقي، ومقاتلين من كوبا، وبذلك تم الاحتفاظ بأقليم (أوجادين) ضمن الحدود الإثيوبية. تتشكل إثيوبيا من الأعراق التالية: الأورومو 34. 5 ـ أمهرة 26. 9 صومالي6. 2 ـ 6. 1 ـ أخرى 26. 2. واللغات الأمهرية (الرسميه) أما اللغات الأخرى فهي الصومالية ـ التيغرانية ـ السيدامو  ولغات اخرى. لأديان: الارثوذوكسية 43  ـ البروتستانية 19  ـ الاسلام 34 ديانات اخرى تمثل 4 من حجم السكان. هناك من الباحثين من يرى ان تشابها يجمع إثيوبيا بتركيبتها تلك بالدولة اليوغسلافية في مرحلة التسعينات من القرن الماضي، والخطر الذي اطاح بيوغسلافيا حتى فككها إلى دول بعد ذلك أثر حرب أهلية ضروس، فعلى إثيوبيا ان تنتبه إلى ذلك، عليها أن تقوي وحدتها ليس فقط على مستوى التنمية الاقتصادية، الذي تسعى اليه الآن ولكن وهو امر غاية في الأهمية هو التنمية في الجانب السياسي في اتساع رقعة الحريات، ودعم العلاقات بين دول الجوار فهم السند الاول في التعاون والتكامل الاقتصادي، وقبل اهمية التعاون مع الدول الكبرى، فدول الجوار ليس لها مطامع في بسط النفوذ أو السيطرة أو تجيير عملية المساعدات للضغط السياسي، أوتحقيق مصالح لا تتفق بالضرورة مع مصلحة الوطن.

لقد ظهرت مشكلة سد إثيوبيا منذ عام 2011، وهو العام الذي انشغلت فيه مصر بالصراعات الداخلية، ومحاولات سرقة الثورة، كونها ثورة بلا قيادة وبالتالي بلا برنامج، ولم يكن الأمر بالنسبة لمصر يمثل أي حساسية، في كون إثيوبيا تريد ان تقوم ببناء سد للكهرباء بغرض خدمة المواطن والمساهمة في القيام بعمليات التنمية، ولكن المشكلة كانت وستظل في اتخاذ قرارات منفردة يمكن ان تؤثر على حياة الملايين من المواطنين من دول المصب، ورغم صعوبة المفاوضات وطول أمدها، وتدخل اعلام وقوى معادية في عمليات الأثارة والدس والافراط في الأدلاء بتصريحات مستفزة من الجانب الإثيوبي لتحقيق مكاسب جماهيرية داخلية أدت في النهاية إلى تحقيق عثرات في المفاوضات. لكن كان الاجتماع الأخير لقادة الدول مصر وإثيوبيا والسودان تحت مظلة الاتحاد الافريقي ومراقبين من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في مجمله له جوانب ايجابية يمكنها أن تساهم في دفع المفاوضات إلى الامام بحيث صدر التصريح التالي: تم التوافق في ختام القمة على مواصلة المفاوضات والتركيز في الوقت الراهن على منح الأولوية لبلورة اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، على أن يتم لاحقًا العمل على بلورة اتفاق شامل لكافة أوجه التعاون المشترك بين الدول الثلاث فيما يخص استخدام مياه النيل. عموما الخلاف يمكن ان يقع بين القيادات، فحجم مسؤولياتهم كبير، ولكن من المؤكد ان لاتصبح هناك تجاوزات يمكن ان تأثر على العلاقات بين الشعوب. مصر وإثيوبيا دولتان في حوض نهر النيل، وإثيوبيا لم تشق نهر النيل، ومصر لم تضع نفسها في مصبه، ولكن قدرهما بفعل المواقع الجغرافية ان يجمع بينهما هذا النهر العظيم، وامام الدولتان مسؤوليات كبيرة لبناء صرح عظيم من التنمية والاعمار، في زمن تتسابق فيه الأقدار، وتتصارع الارادات لصياغة عالم جديد في خدمة الشعوب، والتعاون والتخطيط المشترك يمكن ان يدفع عجلة التقدم إلى الامام، والأمة هي الباقية على الدوام.

العدد109 /تشرين2020