ماكرون والمنطقة: خرائط باريس

تنسيق مع واشنطن توافق مع طهران وصدام مع أنقرة وتواطؤ مع أوروبا

محمد قواص (*)

سيكون على المراقب أن يتابع بدأب حركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المنطقة. ففرنسا تقود تيارا أوروبيا صقوريا ضد تركيا وترعى حماية شبكة مصالح دولية داخل سوق الطاقة في شرق المتوسط. وفيما المشهد ضبابي بانتظار ما ستفرج عنه الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وبانتظار التحولات المقبلة في ملف سوريا كما ملف العراق، وعلى وقع المشهد الإيراني ومستقبله في بلدان المنطقة، يعزف ماكرون على أوتار حساسة في سعي للاهتداء إلى المعزوفة الفرنسية المثلى داخل ضجيج العالم الصاخب.

أحدث الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في 4 آب / أغسطس الماضي صدمة محلية في لبنان كما لدى كافة عواصم العالم، على نحو أحدث انقلابا دوليا عاما في كيفية مقاربة الملف اللبناني، وأحدث زلزالا سياسيا داخليا بدءا بتحرك عنيف للشارع اللبناني، مرورا باستقالة حكومة حسان دياب في 10 من الشهر نفسه، انتهاء بسيناريوهات متعددة كان أبرزها التدخل الفرنسي الذي قاده الرئيس إيمانويل ماكرون.

الكارثة: تواطؤ الفساد وسلاح حزب الله

تمثل كارثة انفجار 2750 طنا من مادة نيترات الأمونيوم مخزنة في أحد عنابر مرفأ بيروت (العنبر رقم 12) واجهة لحالة الفساد والتسيب التي تنخر المؤسسات الحكومية اللبنانية على مدى العقود التي تلت نهاية الحرب الأهلية (1990). كما يعكس الغموض الذي أحاط بقضية وصول هذه الشحنة من المواد القابلة للانفجار وظروف تخزينها منذ عام 2014، تواطؤ منظومة الفساد مع منظومة الأمر الواقع الذي يفرضه الواقع السياسي، كما أثار لدى الدوائر الدولية مسألة هيمنة حزب الله على مرفأ ومطار بيروت كما منافذ البلد الشرعية وغير الشرعية.

وتطرح قضية الكارثة التي ألمت بالعاصمة اللبنانية خطورة تحالف السلاح والفساد على نحو سبب ما يشبه الإبادة لمدينة مثل بيروت، كما تطرح خطورة خيارات حزب الله وخططه على أمن اللبنانيين كما على أمن المنطقة والبحر المتوسط. واللافت هو تصاعد المطالبة من داخل لبنان بإجراء تحقيق دولي أو عربي للكشف عن ملابسات الحدث، خصوصا أن رئيس الجمهورية ميشال عون لم يستبعد أن يكون العمل عدوانا وليس مجرد حادث مأساوي غير مقصود.

وتأتي كارثة بيروت لتضاف إلى أزمة اقتصادية مالية نقدية غير مسبوقة وتحمل الماء إلى طاحونة الحراك الشعبي المندلع بمستويات متفاوتة منذ 17 تشرين الأول / اكتوبر 2019. ويساهم تفاقم الوضع المعيشي والسياسي والأمني في تضخم الضغط الداخلي لتغيير المنظومة السياسية الحاكمة، بحيث باتت المطالب هذه المرة تتجاوز مسألة إجراء انتخابية مبكرة وتشكيل حكومة كفاءات غير سياسية، إلى المطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة تنهي عهد الرئيس الحالي ميشال عون.

ماكرون: إنهاء القطيعة الدولية مع لبنان

تمثل الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت بعد يومين من حدوث الكارثة مفترقا جذريا في السبل التي تعامل بها المجتمع الدولي مع ملف لبنان. وفيما كرس ماكرون في زيارته رمزية تعبر عن العلاقات التاريخية الخاصة التي لطالما أولتها فرنسا إلى لبنان، إلا أن هدف الزيارة تجاوز بعدها الإنساني التضامني إلى بعد سياسي قد يؤسس لتحول جديد في مسار لبنان ومصيره من خلال الوقائع التالية:

ماكرون: عودة فرنسا بقوة إلى لبنان

1- تفصح زيارة ماكرون عن حملهِ خريطة طريق سياسية لإخراج البلد من نكبته الحالية ومن مأزقة ما قبل ذلك. والظاهر أن تحرك ماكرون قد حظي بموافقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي قادت إدارته سياسة متشددة حيال بيروت تطالب الحكومة اللبنانية بإجراء إصلاحات جذرية داخل البنية الاقتصادية اللبنانية، بما في ذلك مكافحة الفساد وإقفال المعابر غير الشرعية وسيطرة الدولة على منافذ البلاد الشرعية والتقيد التام بالمعايير التي يفرضها صندوق النقد الدولي قبل الإفراج عن أي مساعدات مالية للبنان.

2- تفصح زيارة الرئيس الفرنسي عن تمكنه من إقناع واشنطن بفك العزلة عن الشعب اللبناني بمناسبة هذه الكارثة، مقابل العمل على إقناع ساسة لبنان بالانخراط في تحولات داخلية وإيجاد  »عقد سياسي جديد«.

3- يفصح تدفق المساعدات العربية والدولية باتجاه لبنان عن مقاربة يراد منها منع الإنهيار النهائي الكارثي للبلد الذي يستضيف أيضا 1. 5 مليون لاجئ سوري، دون أن يعني ذلك إعادة الوصل السياسي مع الدولة اللبنانية ورموزها بانتظار حدوث تغيير جدي في متن الأداء الحكومي وفي وجوه الحاكمين.

بين الإنساني والسياسي في التحرك الدولي

كان لافتة السرعة التي تمكنت بها فرنسا بشخص رئيسها من عقد مؤتمر طارئ لمساعدة لبنان في 9 آب / أغسطس، بحضور الرئيس ترامب ومشاركة 36 مسؤولا من رؤساء وملوك ورؤساء حكومات ووزراء خارجية ومديري مؤسسات مالية دولية،. وكان لافتا أيضا إعلان ماكرون أن المبلغ الذي تم جمعه (حوالي 298 مليون دولار) هو بداية. وكان لافتا أيضا التأكيد على أن الأمم المتحدة ووكالاتها والمنظمات غير الحكومية هي التي ستتولى إدارة هذه المساعدات، ما أعاد الإعلان ضمنا عن عدم ثقة المجتمع الدولي بالدولة اللبنانية، وما نفى ما ذهب الرئيس اللبناني ميشال عون من أن الكارثة هي  »فرصة« لعودة الوصل الدولي (السياسي) مع لبنان.

وفيما تتحدث بعض الإحصاءات عن حاجة لبنان إلى مساهمة دولية هائلة لإعادة إعمار بيروت ومرفأها (5-7 مليارات دولار)، فإن الدول المانحة لن تُقدِمَ على أي إنخراط جدي في مشاريع إعادة الإعمار قبل التأكد من حدوث تغيير حكومي يرضى به اللبنانيون، على نحو يعيد ثقة المجتمع الدولي، كما يوفر أرضية لاستقرار سياسي وأمني يمكن على أساسها إطلاق ورشة دولية لإعادة الإعمار.

ماكرون والرؤية الدولية الجديدة

ظهر من أداء الرئيس الفرنسي أثناء زيارته لبيروت مجموعة من العلامات التي يمكن أن تكون مؤشرات لمستقبل الحياة السياسية في لبنان. ويمكن إيجاز تلك العلامات بالنقاط التالية:

1- تأييده للحراك الشعبي ودعم مطالبه وتصريحه بغياب الثقة بين الشعب وسلطته.

2- استجابته لطلب الأهالي الذين التقاهم في بيروت بالتأكيد على أن المساعدات الدولية لن تصل إلى الدولة اللبنانية، بل سيتم تقديمها بالسبل التي تصل إلى المتضررين مباشرة، بما أظهر اتهاماً فرنسيا دوليا بعجز المنظومة السياسية وضرورات تغييرها.

3- حديثه عن  »عقد سياسي جديد«، وبالتالي دفعه باتجاه تغيير في الطريقة التي تدار بها الدولة اللبنانية بين المكونات السياسية اللبنانية.

4- تأكيده عدم دعوته كرئيس فرنسي لتغيير دستوري، معتبرا أن أمرا كهذا يحدده اللبنانيون، بما يجعل دوره، ودور المجتمع الدولي من ورائه، محفزا للتغيير وليس فارضاً له.

5- اجتماعه مع الرؤساء الثلاث، ميشال عون ونبيه بري وحسان دياب، جاء بروتوكليا، فيما أن اجتماعه مع كافة قادة الأحزاب السياسية الأساسية في لبنان، بما في ذلك حزب الله، كان الأكثر توضيحا للوجهات التي تدفع بها فرنسا لبنان والآفاق التي يعرضها المجتمع الدولي.

6- توجيه ماكرون اللوم إلى حدٍ وُصف بـ  »التأنيب« إلى كل الطبقة السياسية، موالاة ومعارضة، مشاكين في الحكومة المستقيلة أو في الحكومات السابقة، مناشدا الجميع الاتفاق على صيغة حكم جديدة والتوافق على تشكيل حكومة وحدة وطنية.

7- لم يشر ماكرون أبدا إلى مسؤولية حزب الله وسلاحه وسلوكه في لبنان والمنطقة، وأعاد الأزمة إلى منظومة الفساد التي يتشارك بها الجميع. وقد وجه ماكرون الدعوة إلى حزب الله لحضور اجتماع قادة التيارات السياسية الكبرى، ولم يمانع من أن يمثل الحزب محمد رعد، رئيس كتلة حزب الله البرلمانية، وهو أحد قيادات الحزب المدرجين على لوائح العقوبات الأميركية.

8- شدد ماكرون على تشكيل حكومة وحدة وطنية بصفتها أولية على اقتراح الذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة التي اعتبرها ضرورة، لكن إجراءها قد يستغرق وقتا فيما معالجة الأزمة تحتاج إلى خيارات قصيرة الأجل.

خيار حكومة الوحدة الوطنية

يستطيع المراقب أن يستنتج بسهولة أن التطورات السياسية منذ زيارة ماكرون لا تبتعد عن العلامات التي أوحى بها الرئيس الفرنسي في لبنان. أول هذه التطورات استقالة حكومة حسان دياب بما يفسح المجال للبحث في حكومة بديلة.

وفيما يشدد الشارع اللبناني على ضرورة رحيل الطبقة السياسية برمتها من خلال تشكيل حكومة مستقلة، ذهبت سيناريوهات إلى أن الاتساق مع مقترح ماكرون بتشكيل حكومة وحدة وطنية، يقود إلى طاقم حكومي يكون برئاسة سعد الحريري زعيم تيار المستقبل، علما أن الأخير كان قد اشترط قبل ذلك للقبول بهذا المنصب تشكيل حكومة خبراء مستقلة عن كل الطبقة السياسية، أو تشكيل حكومة سياسية لا يكون جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر وصهر الرئيس عون، داخلها.

وسبق لحزب الله أن رفض شروط الحريري التي تحرمه من نفوذ مباشر داخل الحكومة من جهة، وتنال من جهة أخرى من حليفه المسيحي الذي كان مخلصا له منذ  »ورقة التفاهم« المبرمة بين حسن نصر الله وميشال عون عام 2006.

خيار الانتخابات المبكرة

تدعو خيارات أخرى إلى تشكيل الحكومة البديلة بعد إجراء انتخابات تشريعية مبكرة. وقد كان هذا الخيار قد طرح بعد انفجار الحراك الشعبي قبل أشهر، إلا أنه قوبل برفض قاطع من قبل الثنائية الشيعية (حركة أمل وحزب الله) وتيار رئيس الجمهورية ميشال عون. وقد حاول رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب إبعاد كأس الاستقالة عن حكومته من خلال الإعلان عن عزمه تقديم اقتراح لإجراء انتخابات نيابية مبكرة. غير أن دعوة بري إلى جلسة برلمانية لمساءلة الحكومة، كشف عن غضب زعيم حركة أمل وحزب الله ورئيس الجمهورية من مبادرة دياب بشأن انتخابات لا يريدونها. وتدور إشكالية إجراء الانتخابية حول فرضيتين:

الأولى، أن الأمر يحتاج إلى قانون انتخابي جديد يأتي بديلا عن القانون الذي وُضع على مقاس التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل ولمصلحة الثنائية الشيعية حتى لا تكون نتائج الانتخابات شبيهة بالمشهد البرلماني حالي ونسب الأغلبية داخله (حاليا لصالح حزب الله وحلفائه). ويستبعد المراقبون إنجاز ذلك سريعا حتى لو تأكد فرضا أن كافة الفرقاء وافقوا على إجراء الانتخابات.

الثانية، إجراء الانتخابات هذه وفق القانون الحالي على مساوئه. ويعتبر المدافعون عن هذا الخيار أن الرأي العام اللبناني قد تغير بشكل كبير منذ الانتخابات الأخيرة، وأن المشهد البرلماني الجديد سيتبدل بالنسب والوجوه حتى في ظل القانون الحالي.

خيار المؤتمر التأسيسي

يجري نقاش آخر ليس بعيدا عن أجواء تحالف حزب الله وتيار رئيس الجمهورية مستفيداً من دعوة ماكرون إلى  »عقد سياسي جديد«. وكان أمين عام حزب الله قد دعا منذ سنوات إلى مؤتمر تأسيسي لإعادة صياغة دستور لبنان وبالتالي تغيير منظومة الحكم وإنهاء العمل باتفاق الطائف المعمول به منذ ثلاثة عقود. وقد فهم من هذه الدعوة نزوع نحو إقامة نظام يقوم على المثالثة بين السنة والشيعة والمسيحيين بدل نظام المناصفة بين المسلمين والمسيحيين المعمول به حاليا. وقد توقف نصر الله عن إثارة الموضوع بسبب حساسيته الشديدة حتى لدى حلفاء الحزب.

وقد لمح عون مؤخرا إلى ضرورات التغيير في المنظومة السياسية اللبنانية، فيما جاءت زيارة ماكرون لتدفع بهذا الاتجاه، ما قد يدفع حزب الله الذي حظي باعتراف كامل من قبل الرئيس الفرنسي مقارنة بمواقف بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة التي تعتبر الحزب منظمة إرهابية، بالبناء على الموقف الفرنسي لتدشين ورشة دستورية تتيح له توسيع نفوذه دستوريا داخل النظام السياسي اللبناني.

وفيما ينظر تحالف الثنائية الشيعية والتيار الوطني الحر بعين القلق للدعوات لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، فإن الدفع باتجاه التغيير الدستوري يسبب قلقا بالمقابل لتيارات سياسية ما زالت مدافعة عن اتفاق الطائف ومدافعة عن فكرة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.

ومع ذلك يجب الانتباه إلى أن لبنان بات، وبسبب كارثة بيروت أولوية داخل سلم الاهتمام الدولي المتعلق في المنطقة على النحو الذي يفسر كثافة الاهتمام الدولي بالشؤون اللبنانية. وعلى هذا فإن اللبنانيين قد لا يتمتعون بترف التدلل القديم، وأن عليهم الاستجابة لأجندات كبرى تُحضّر المنطقة برمتها لتحولات كبرى. ومن الجدير مراقبة ما استجد حديثا في ملف النزاع الحدودي بين لبنان وإسرائيل، سواء من خلال الإعلان اللافت لبري (حليف حزب الله) عن قرب التوصل إلى اتفاق، أو عبر إرسال واشنطن ديفيد هيل وكيل وزارة الخارجية الأميركية وبعده ديفيد شينكر وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى لبحث هذا الملف. ويؤشر ذلك إلى أن لبنان دخل في مرحلة التسويات والمقايضات التي ستملي شروطها على كل الطبقة السياسية في البلاد.

خيار مصطفى أديب

غير أن كل الخيارات المحلية اصطدمت بأجندة دولية جدية كبرى يقودها الرئيس الفرنسي. بدا واضحا أن باريس استنتجت عجز الطبقة السياسية اللبنانية عن الاهتداء إلى سبيل للخروج من مرحلة حكومة دياب المستقيلة، ففرضت عى كل الفرقاء الذهاب إلى اختيار سفير لبنان في ألمانيا مصطفى أديب لتشكيل الحكومة البديلة. وواضح أن الضغوط كانت كبير على نحو فرض على رؤساء الحكومة السابقين التسليم بأديب، وهو أحد المستشارين السابقين لرئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، لهذا المنصب.

وقد أظهرت زيارة ماكرون الثانية إلى لبنان (31 آب/ أغسطس) بعد أقل من شهر على زيارته الأول، تبديدا لكل الإشاعات التي تحدثت في بيروت عن إلغاء ماكرون لزيارته احتجاجا على عدم جدية الطبقة السياسية اللبنانية، وأظهر الأمر أيضا أن لفرنسا مصالحخ جادة ومستجدة في لبنان، وأن رئيسها سيتعامل مع الأمر الواقع في البلد.

وتكشف هوية الوفد الكبير الذي رافق ماكرون والذي ضم شخصيات وزارية ومصرفية واقتصادية متخصصة، أن فرنسا تعد لمشروع كبير يعيد تأهيل باريس للعب دور أساسي مغطى دوليا لانقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية والإنسانية الراهنة، ولتثبيت أقدام فرنسا داخل البلج الذي ساهمت في تأسيسه والذي بات خلال العقود الأخيرة ميدان مصالح لدول أخرى قريبة وبعيدة.

ولا يمكن فهم الاهتمام الفرنسي بلبنان إلا من خلال توسيع دائرة اهتمام باريس بالمنطقة سواء في الرقعة المائية التي يمثلها البحر الأبيض المتوسط، أو الرقعة البرية التي تعدج بها التحولات في سوريا والعراق وإيران. ولم يكن صدفة

باريس فرضت على الطبقة السياسية رئيسا للوزراء

أن ينتقل ماكرون من بيروت إلى بغداد في زيارة تزيد من رسم ملامح السياسة الخارجية الفرنسية في الشرق الأوسط.

خرائط ماكرون في لبنان

ولا يملك اللبنانيون ترف التمرد على ما سارع البعض إلى تسميته  »وصاية« فرنسية. تصدعت هياكل لبنان الاقتصادية، انهارت قيمة عملته، انكشفت أسطورة نظامه المصرفي، فقد اللبنانيون ودائعهم المالية، واتضح أن تقاطع الفساد والسلاح يفتك بوجودهم ويدمر عاصمتهم. أفلس لبنان، أفلس اللبنانيون، أفلست الطبقة السياسية التي باتت عاجزة برعاية حزب الله عن نفخ حكومة يقبل بها العالم، عربا وعجما. وحين هبط إيمانويل ماكرون لم يصدق ساسة البلد قبل مواطنيه أن  »ملاكا« ترجل لانتشالهم.

ماكرون ليس ملاكاً وليس فاعل خير. لفرنسا علاقات تاريخية مع لبنان تعود لنشأة هذا البلد منذ مئة عام. غير أن هذه العلاقات لم تكن كافية لصون نفوذ باريس في لبنان وتعزيز حضورها. قيل أن يدا سورية اغتالت السفير الفرنسي لويس دولامار في بيروت عام 1981، وأن يداً إيرانية هاجمت مقرا للجنود الفرنسيين في لبنان فقتل 58 منهم عام 1983. تقدم التنافس الأميركي السوري الإيراني الإسرائيلي، وبات حضور فرنسا متراجعا غير مؤثر في ترتيبات البيت اللبناني.

ومع ذلك بقيت فرنسا  »الأم الحنون« التي يرتضي اللبنانيون حنانها. أطلق الراحل جاك شيراك مطلب المحكمة الدولية إثر مقتل صديقه رفيق الحريري عام 2005. نظمت باريس المؤتمر الدولي تلو الآخر لنجدة اقتصاد لبنان، بما في ذلك  »سيدر« الذي أسس لشرط الإصلاح الذي بات دوليا معمما لا تنازل عنه قبل الإفراج عن أي دعم مالي لاقتصاد لبنان.

ما زالت فرنسا تمتلك مفاتيح العمل داخل الدهاليز اللبنانية. لباريس حضور عسكري وازن داخل قوات اليونيفل الأممية في جنوب لبنان، وتمتلك علاقات جيدة مع كافة القوى السياسية اللبنانية بما في ذلك حزب الله. امتنعت فرنسا، حتى الآن، عن السير على منوال دول أوروبية أخرى، لا سيما ألمانيا وبريطانيا، في اعتبار حزب الله تنظيما إرهابيا. وما زالت باريس متمسكة بسياسة، أكدها ماكرون في بيروت، تكتفي بوضع الجناح العسكري للحزب على لوائح الإرهاب. وعلى هذا بدا أن فرنسا، وماكرون بالذات، الوحيدان القادران على إحداث خرق دولي فارق داخل ملف

تقاطع مصالح فرنسي إيراني يسهّل جهود ماكرون في لبنان والعراق

يزداد تعفنا ويمثل انفجاره خطرا على حسابات الكبار والصغار.

خرائط ماكرون في العراق

من خلال الفلاحة في الحقول اللبنانية ينتقل ماكرون للزرع في بساتين العراق. يسبح الرجل في بركة تتشارك واشنطن وطهران في التحكم بمائها. ويسير قطار الرئيس الفرنسي على سكتين، سكة إيرانية وسكة أميركية. ويرتبط نجاح مسعاه بثباتهما. فإذا ما أسقط الأميركيون رعايتهم لهمّته ورفض الإيرانيون التعامل معها، فإن فرنسا لا تملك بقواها الذاتية تسيير قطارها في حقول ألغام المنطقة وفخاخها.

بنت فرنسا مفاعل تموز النووي الذي دمرته إسرائيل في يونيو 1981. لكن الحدث كشف عن حميمية العلاقة الفرنسية العراقية، حتى لو أن تلك الحميمية تختلف عن العلاقة مع لبنان. كان صوت الرئيس الراحل فرنسوا ميتران مرتجفا حين أعلن لمواطنيه بدء الحرب لتحرير الكويت عام 1991. استقال وزير الدفاع جان بيار شوفمنمان اعتراضاً. عام 2003 رفض الرئيس شيراك مشاركة بلاده في الحرب ضد العراق، وألقى وزير خارجيته دومينيك دوفيلبان مطالعته الشهيرة في مجلس الأمن التي باتت نصا يدرس في فن الخطابة الدبلوماسية المُدينة لحرب واشنطن ضد بغداد.

وفق خلفيات الماضي ووقائع الحاضر يتحرك ماكرون داخل لبنان والعراق مُظهراً أعراض سياسة خارجية حيوية في المنطقة. لباريس علاقات ممتازة مع القاهرة ودول الخليج، وتستقبل ملك الأردن هذه الأيام، وتطور علاقات حساسة مع دول شمال أفريقيا. تقود فرنسا ورشة أوروبية لمواجهة استحقاقات ليبيا وصراغ الغاز في المتوسط، وهي رأس حربة صلبة لمواجهة تركيا وطموحات زعيمها.

يمثل ماكرون في لبنان عزيمة دولية وبركة أميركية لم يتردد في تهديد من يعرقل مسعاه بهما. ويمثل ماكرون في العراق ملاقاة أوروبية لجهود أميركية لرفد حكومة مصطفى الكاظمي في بغداد. يستدعي الرجل خصومته مع أردوغان درعا مُيسِّراً لمناوراته في ميادين نفوذ إيران. تقصّد في زياراته انتقاد التدخل التركي في العراق، وذهب إلى إقليم كردستان ممعنا في إدانة سلوك أنقرة هناك. أثار قبل ذلك في لبنان محاولة تركيا التدخل في شؤون هذا البلد.

وحين تكلم عن السيادة والاستقلال فهمت أذرع إيران في البلدين أن لعزفه مزاجا تركيا يختلف عن صخب العزف

فرنسا تقود التصعيد الأوروبي ضد سياسة أردوغان

الأميركي ذي العبق الإيراني بامتياز.

ربما أن لماكرون طموحات نابوليونية تتوسل استعادة فرنسا لدور وازن في المنطقة. يعمل الرجل في الوقت الضائع حتى تتحدد هوية الرئيس الأميركي المقبل. يدرك ماكرون أن تسويات تركية إيرانية أميركية روسية مقبلة، ويود الرجل أن تكون فرنسا حاضرة في تلك الأعراس.

تمثل الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت بعد يومين من حدوث الكارثة مفترقا جذريا في السبل التي تعامل بها المجتمع الدولي مع ملف لبنان. وفيما كرس ماكرون في زيارته رمزية تعبر عن العلاقات التاريخية الخاصة التي لطالما أولتها فرنسا إلى لبنان، إلا أن هدف الزيارة تجاوز بعدها الإنساني التضامني إلى بعد سياسي قد يؤسس لتحول جديد في مسار لبنان ومصيره..

يجري نقاش يدعو إلى تعديل دستوري آخر ليس بعيدا عن أجواء تحالف حزب الله وتيار رئيس الجمهورية مستفيداً من دعوة ماكرون إلى  »عقد سياسي جديد«. وكان أمين عام حزب الله قد دعا منذ سنوات إلى مؤتمر تأسيسي لإعادة صياغة دستور لبنان وبالتالي تغيير منظومة الحكم وإنهاء العمل باتفاق الطائف المعمول به منذ ثلاثة عقود. وقد فهم من هذه الدعوة نزوع نحو إقامة نظام يقوم على المثالثة بين السنة والشيعة والمسيحيين بدل نظام المناصفة بين المسلمين والمسيحيين المعمول به حاليا. وقد توقف نصر الله عن إثارة الموضوع بسبب حساسيته الشديدة حتى لدى حلفاء الحزب.

ماكرون ليس ملاكاً وليس فاعل خير. لفرنسا علاقات تاريخية مع لبنان تعود لنشأة هذا البلد منذ مئة عام. غير أن هذه العلاقات لم تكن كافية لصون نفوذ باريس في لبنان وتعزيز حضورها. قيل أن يدا سورية اغتالت السفير الفرنسي

فرنسا تعلب بالوقت الضائع قبل الانتخابات الأميركية

لويس دولامار في بيروت عام 1981، وأن يداً إيرانية هاجمت مقرا للجنود الفرنسيين في لبنان فقتل 58 منهم عام 1983. تقدم التنافس الأميركي السوري الإيراني الإسرائيلي، وبات حضور فرنسا متراجعا غير مؤثر في ترتيبات البيت اللبناني.

بنت فرنسا مفاعل تموز النووي الذي دمرته إسرائيل في يونيو 1981. لكن الحدث كشف عن حميمية العلاقة الفرنسية العراقية، حتى لو أن تلك الحميمية تختلف عن العلاقة مع لبنان. كان صوت الرئيس الراحل فرنسوا ميتران مرتجفا حين أعلن لمواطنيه بدء الحرب لتحرير الكويت عام 1991. استقال وزير الدفاع جان بيار شوفمنمان اعتراضاً. عام 2003 رفض الرئيس شيراك مشاركة بلاده في الحرب ضد العراق، وألقى وزير خارجيته دومينيك دوفيلبان مطالعته الشهيرة في مجلس الأمن التي باتت نصا يدرس في فن الخطابة الدبلوماسية المُدينة لحرب واشنطن ضد بغداد.

(*) كاتب وباحث سياسي لبناني

العدد109 /تشرين2020