دور التكنولوجيا في التغيير وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعيّ

بيروت من ليندا نصار:

تقوم التكنولوجيا بدور رئيسي ليس فقط على مستوى  »تحقيق الهيمنة الثقافيّة«، وإنما باعتبارها تجسيدًا لهذه الهيمنة ذاتها، ويتعزّز دور وسائل الإعلام الحديثة تبعًا لهذا السياق، من أجل إحداث التغيير والاتجاه إلى الحداثة، والتخلي عن  »النزعة التقليدية«، ومن ثمّ، فإن تطوّر التكنولوجيا يكون نقيضًا لتطوير الأفكار الإبداعيّة أحيانًا. ولهذا صارت هذه الأخيرة أساسًا للرؤى المستقبليّة، حيث تخطّت الحدود التي كان يتصوّرها الإنسان عن نفسه لبلوغها حتّى وصلت إلى درجة المستحيل، وتحرّرت من حدود الزمان والمكان والواقع. ومن ثمّ تشكّلت ظاهرة أسهمت في توسيعها لتشمل ما هو إلكترونيّ بإمكاناته اللانهائيّة وهي تطلق العنان لحريّة الإنسان في المكان والزمان.

إنّ بداية تشكّل وسائل التواصل الاجتماعيّ بناء على التطوّرات الهائلة في تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات جعلت المجتمعات العربيّة تعيش زمنًا آخر في ظل سطوة الغرب الذي عمل على احتكار الإنتاج في قطاعات دقيقة خصوصًا في المرحلة التي عرف فيها ما بعد الزمن الصناعيّ؛ أو يسمّيها ألفين توفلر بـ »الموجة الثالثة« وفيها تمّ توظيف  »مجتمع المعلومات« خلال نهاية السبعينيّات وبداية الثمانينيّات من قبل أرموند ماتلار الذي ربط بين هذه الثورة التكنولوجيّة بالتحوّلات التي خلفتها الحرب العالميّة الثانية وما تبعها من حرب باردة سمحت بظهور آلات وأجهزة ذكيّة انتقلت من النظام الميكانيكيّ إلى النظام الإلكترونيّ الرقميّ، وهذا أفضى إلى بروز مواقع التواصل الاجتماعيّ على شبكة الإنترنت، وغرف الدردشة، والقوائم البريديّة، ومنصّات المشاهدة، وتأسّس بموجبه المجتمع الافتراضيّ. ومن ثمّ ساعد نموّ المجتمعات المحليّة الافتراضيّة بتنام ٍفي إنتاج الرأسمال الاجتماعيّ الافتراضيّ.

 قامت اليابان العام 2000 بتأسيس مجتمع تكنولوجيّ يتكوّن من الإعلام والمعرفة في سياق تفكيرها في ما يسمّى بالتنكولوجيّات الجديدة؛ حيث عمل يونج ماسودا على نقل حضارة تكنولوجيّا المعلومات والاتصالات إلى إطار اليوتوبيا؛ ذلك أنّ الحياة تتمحور عنده حول مدينة كونيّة عظمى ويصبح شغل الناس الأساس هو إنتاج المعرفة وتعميمها على كلّ فرد، فتنفتح عندها البيئة العلميّة بلا حدود، ومع تضاؤل أيّام العمل الأسبوعيّة يصبح التحصيل العلميّ مدى الحياة.. مع الألفيّة الجديدة، عرف العالم ثورة غير مسبوقة في مجال المعلومات، انتقل بموجبها الإنسان من العيش في وسط اجتماعيّ، إلى واقع افتراضيّ؛ يدفع بالإنسان نحو الوسط التكنولوجي حيث التقدم على الصعيد التقني خصوصًا وبهذا تمّ تقريبًا إقصاء وتهميش كلّ من لا يواكبها؛ لأنّ الارتقاء يزيد القدرة على الغربلة الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

من ناحية أخرى، إنّ هذا الدور المتزايد للإنترنت والشبكات الاجتماعيّة والخطابات التبسيطيّة الجاهزة في معالجة النزاعات والحروب وحقوق الإنسان يسائل أخلاقيّات ورهانات وسائل الإعلام في سياق يعتوره تقدّم تكنولوجيّ مذهل يضرب في العمق ليس فقط الجانب المتعلّق بالأنموذج الاقتصاديّ لوسائل الإعلام بل أشكال تنظيمها ومحتوياتها. ولعلّها مؤشّرات تنمّ عن دخولنا إلى عصر جديد ينذر بانحباس التعدّد في الرأي والمحو الممنهج للحدود بين الحياة الخاصّة والعامّة، بين المعلومة والتواصل والإشهار. كذلك إنّ دخول آليّة الرأي العام إلى فضاء الثقافة سمح بتحوّل شمل أساسًا علاقة المثقّف بالمجتمع.

 هذه الانتقالات الحضاريّة من مستوى تواصليّ إلى آخر سمحت بتوسيع وسائل التفكير في الواقع، فـكلّما تطوّر الفكر البشريّ، وتطوّرت آليّات تفكيره، وأشكال تعبيره، تغيّر إدراكه للأشياء والحياة والعالم. من هنا عمل الإنسان على تحرير الإبداعيّة الفرديّة، وتقديم خدمات مبهرة ومدهشة من دون قيد أو رقيب يعطّل عمليّة الانطلاق في البحث والاكتشاف، وفي إمكانيّة التعبير والإبحار في المعلومة، وفي إيجاد فضاء خصب لاستثمار رغبة الذات في التعبير.

يستقي الإعلام الاجتماعيّ مشروعه من راهن الاتّصال على الأقل في شقّه التقنيّ، لكن هذه التسمية تتداخل مع تسميات أخرى من قبيل التواصل الاجتماعيّ، والإعلام البديل أو غير الموجّه. ومعنى هذا الكلام أنّ هذه التسميات تقرّ بكون الاتّصال لم يعد محصورًا في أبعاده التقنيّة فحسب؛ لأنّ هذا الإعلام لا تحكمه قصديّة محدّدة حيث يسير في كلّ الاتّجاهات وأحيانًا في اللااتّجاه، وهذه السّمة هي ما يشكّل جوهرها وأزمتها في الآن نفسه.

لهذا لا يرتبط تسويق العمل الإبداعيّ بديمقرطة الإبداع فهي خاضعة لسوق الاستهلاك تبعًا لثنائيّة العرض والطلب. ولكن ينبغي في الآن نفسه استحضار معطى أساس يتعلّق بكون مآلات الإعلام الاجتماعيّ متعدّدة أبرزها التخلّص من الرؤية العموديّة لبثّ المعلومة لصالح بثّ أفقيّ يلغي الحدود ويتّسم بفاعليّة وقوّة تأثيريّة في مختلف أشكال الخطابات الإنسانيّة.

إنّ الميديا الاجتماعيّة ساهمت في التأكيد على الحقّ في الإبداع، وفي ولوج مجاهل كانت مغيّبة في زمن الإعلام الموجّه الذي أخّر التنمية وساهم في تعطيل نهضة حقيقيّة بفعل الرقابة والإقصاء الممنهج تجاه أصوات كانت تعيش في خانة المؤجّل.

وهذه الميديا الاجتماعيّة اليوم هي آليّة جديدة لبثّ روح الإبداع في كلّ مناحي الحياة، وفي الآن نفسه لكشف فقر وعقم التصوّرات الثقافيّة الرسميّة التي عملت على اغتيال المستقبل عبر تجميد الحاضر ونسيان الماضي. وهذه الهوّة التي كشفتها الميديا الاجتماعيّة تسرد اليوم كحكاية خالية من الألم لكون الميديا الاجتماعيّة تنازلت طوعًا عن كلّ أثر نفسيّ لصالح فعاليّة الصورة والتعليق المقتضب. ولأنّها كذلك فهي تجعل الكلّ يقف عاريًا أمام مرآتها.

وإذا ما ربطنا هذه التحوّلات المفصليّة بواقعنا العربيّ، واستحضار الحداثة في طابعها التقنيّ أو العقل الأداتيّ بتعبير الفيسلوف الألمانيّ يورغين هابرماس أمكننا الحديث عن إعلام بديل في الفضاء العام يهدم ويتجاوز الإعلام الموجّه، ويؤسّس لزمنه الخاصّ ارتباطًا بالحرّيّة والحقّ في التعبير. إنّنا اليوم بصدد بداية تحوّل عظيم في اتجاه اللّامتوقّع لذلك فإنّ المنظور البائس الذي يعاد نسخه وتداوله في المحافل المسمّاة ثقافيّة، يبدو كالرسم في الماء، حيث يتعذّر الحصول على شكل محدّد ونهائيّ.

أخيرًا تضمن الميديا الاجتماعية الحقّ في التعبير كحقّ من حقوق الإنسان، لكنّ هذه الميديا نفسها تتناسى لزوم المعرفة لصالح التنافس بمعطف الإيديولوجيا أو ردّ فعل لحدث معين. وما بين التبريرات والحقّ في الاختلاف نجد الإبداع يشقّ لنفسه طرقه الصعبة. فلم تكن طرقه يومًا سهلة لكنّها اليوم لا تتّصل بزمن محدّد وأسهمت كثيرًا في تغيير مفهوم الأدب وربطه بما يكتب على صفحات التواصل الاجتماعيّ، وانتشار ظاهرة الكتابة وفق منطق التغريدات، ونجوميّة الكاتب لا ترتبط بالنصّ بقدر ما ترتبط بعدد التعليقات واللايكات والمشاركات، ما أفضى إلى نوع من التوجيه على مستوى القراءة وأنماط التلقّي وتحوّلات عميقة في توجيه القرّاء نحو الرواية والمقالات التي تكاد تكون قراءات عاشقة وانطباعيّة وذوقيّة مقابل ضمور وتلاشي عديد من الأجناس الأدبيّة التي تكاد تكون معرّضة إلى الانقراض على الرغم من قوّتها في الانفتاح على أجناس أدبيّة وغير أدبيّة.

العدد109 /تشرين2020