من الهاوية: لبنان في مئويته يناجي العالم والأمّ الحنون تبادر

سندريللا مرهج

من المؤسف أن نكتب عن بلدنا أنّه قاصر عاجز عن حلّ أزماته الداخلية والخارجية، ولكنّها الحقيقة.

كلّ شيء كان يسير مع السلطة على ما يرام شكلياً؛ أمّا فعلياً، اللبنانيون هم ضحايا كذبة كبيرة. فضحت ثورة 17 تشرين الاول هشاشة السلطة؛ ليس الحالية فحسب، بل تلك المتحكمة بالبلاد منذ حوالي ثلاثين عاماً. كشفت الثورة أنّ كلّ ما أُنجز من قِبل الحكومات كان أقلّ من واجب وطني ولا يرتقي الى مستوى الإنجازات التنموية المنتجة.

تفاقمَ الدين العام وانهار الاقتصاد الريعي وسقطت معه السياسات النقدية التي لطالما حلّت محلّ السياسات المالية الغائبة القائمة على الضرائب والإستدانة.

اعتاد اللبنانيون على الحروب والأحداث الدموية والإنفجارات والاغتيالات وهم صنّاع الحرّية وحبّ الحياة والدفاع عن الارض. هم الشعب القدوة في النهوض من تحت الركام. ولكن، انفجار مرفأ بيروت ترك آثارا مختلفة لن تندمل، وخلّف دمارا ماديا ومعنويا لن يُغتفر، وأنتج خسائر في البشر والحجر لن تنسى. لبنان الكبير في مئويته قاصر يناجي العالم لانقاذه، بيروت الجريحة النازفة بكت عليها دول العالم، همّت لمساعدتها شعوب ودول بمبادرات إنسانية طيّبت نفوس غير الجاحدين وارتمى الناس في حضن أمّه الحنون فرنسا التي بادرت بشخص رئيسها ايمانويل ماكرون لنجدة البلد والشعب سياسياً وأكثر.

مفارقة هامّة تاريخية، في مئوية لبنان الكبير. لا احتفالات ولا اعياد، هي فرنسا تعلن أنّ »لبنان ليس وحيداً«، ولبنان لا يعلن شيئاً سوى كلمات… وثورة تثبتُ أنّ ولادتها من رحم الأحزان…وقلوب ترسل السلام لبيروت…

• ماذا في قراءة الخطوة الفرنسية ؟

نجحَ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بزيارَتيه إلى لبنان عقب انفجار مرفأ بيروت بالاتجاهات التالية:

أوّلاً: في التوقيت، كان ماكرون رئيس الدولة الأول الذي سبق كلّ نظرائه في معاينة مكان وقوع الجريمة ومواساة أهل العاصمة وعقد اجتماعات متنوّعة ولقاءات مختلفة مرسلاً بذلك رسائل سياسية دولية ومحلية مفادها أنّ فرنسا تعود الى الخارطة السياسية الشرق أوسطية من بوابة لبنان حاملةً رؤية مختلفة عن السنوات الاخيرة التي مضت، وباستراتيجية قيادية لا منافس لها، وذلك، بحسب ما يُفهم من خطاب ماكرون، لأحقيتها التاريخية ولامتداد الجسور المجتمعية والثقافية بين الشعبين.

ثانياً: في المضمون، حملت المبادرة الفرنسية أهدافا عدّة نذكر منها:

ـ إعادة إحياء مفهوم ارساليات البعثات الانسانية والثقافية الفرنسية الى لبنان من بوابة المنظمات المدنية وليس فقط الدينية كما كان تاريخياً.واضحٌ أنّ الحاضنة الشعبية اللبنانية للخطوة الفرنسية لا تسهّل فقط مهمّة الرئيس في توقيتها الحالي لا بل تعيد التذكير بـ »وجه لبنان« الذي صرّح ماكرون أن جهات دولية مخرّبة تسعى لتغييره. هذه الحاضنة الشعبية من صلب السياسة الفرنسية ـ اللبنانية التي يرسمها ماكرون.

ـ سدّ الطريق على التمدّد التركي باتجاه لبنان سواء السياسي او العسكري أو المجتمعي او الاقتصادي. صرَح ماكرون ما معناه أن المبادرة الفرنسية أتت بتوافق مع دول الاتحاد اوروبي. وتشير بعض المعطيات أنها بمباركة أميركية ـ إيرانية لا سيّما أنّ وزير الخارجية الفرنسي بزيارته الاخيرة الى طهران صرّح مع نظيره الايراني ان صفحة جديدة تفتح بالعلاقات الفرنسية ـ الايرانية تتناول التعاون في اكثر من سياق.

إنّ التوتّر الحاصل في شرق المتوسط بين تركيا وسوريا من جهة وبينها وقبرص واليونان من جهة اخرى، واصابع الاتهام الموجهة صوب التمويل التركي لبعض المجموعات المخرّبة في لبنان سرّعت من المبادرة الفرنسية.

واضح أن الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان لا يستسيغ حركة نظيره الفرنسي المكوكية بين لبنان والعراق ودول الاتحاد الاوروبي، ولا يسكت حتى عن تصاريحه الى ان وصل به الامر حدّ توجيه كلام قادح وتهديده بالشخصي. بالمقابل، ماكرون يقولها علنا أن تركيا لها مآرب في شرق البحر الأبيض المتوسط خطيرة.

هذا الخطر يكبر تهديده باتجاه أوروبا فيما اذا أحكمَت تركيا من نفوذها فيه. الأحوال العسكرية التركية ـ اليونانية ـ القبرصية تشير إلى احتمالية صدام مباشر عسكري كبير.

ـ رفض فرنسا أي عدوان على لبنان من الخارج أو صدام في الداخل. بالمقابل، إنّ صفقة القرن التي وُلدت أساساً ميتة يُعاد إحياءها باتفاقيات سلام وتطبيع مع اسرائيل من قبل دول عربية. واضح أن تلك الدول العربية وغيرها من اللاحقين بها تدخل حلفاً عسكريا واقتصادياً مع اسرائيل. أتت فرنسا لتطرح ورقة عناوينها سياسية ـ اقتصادية ـ أمنية ـ مجتمعية ـ إصلاحية مؤكدة على وجوب تشكيل حكومة »وفاق وطني« والبدء بالاصلاحات ومحاربة الفساد ضمن مهل زمنية محدّدة تمهيداً لفرنسا من اجل إقناع دول العالم بمدّ لبنان بمساعدات مالية. وإلا تُفرَض العقوبات. التزم لبنان بالمهلة المحددة فتمّت تسمية رئيس حكومة جديد عشية زيارة الرئيس الفرنسي الثانية. هل تُشكّل الحكومة المنشودة وتنجح؟!

• ماذا ينتظر لبنان؟

تكثر التساؤلات والسيناريوهات في المرحلة الراهنة من تاريخ لبنان الحديث. واضحٌ أنّها مرحلة انتقالية.

غرّد »ماكرون« على حسابه عبر تطبيق »تويتر« »مستقبل لبنان يُرسم الآن«. نعم، نوافق. التحوّلات الاقليمية والدولية تشير الى مرحلة جديدة عالمية لا سيما في الاقتصاد العالمي حيث يطفو الصراع الاميركي ـ الصيني على مشهد حرب النفوذ الباردة.

اتفاق ثلاثي تركي ـ روسي ـ ايراني حول سوريا بدأت ملامح تنفيذه على الارض السورية.

الرئيس الاميركي دونالد ترامب يصعّد من سلّة العقوبات على المقاومة وحلفائها في أكثر من دولة قبيل تحضيراته للانتخابات الرئاسية التي يترشّح فيها لولاية ثانية معلناً أنه فيما لو فاز فهو على استعداد لفتح صفحة حوار مع ايران.

نتنياهو هو الآخر امام استحقاق انتخابات ويسعى لتسطير انجازات تطغى على نقمة الداخل عليه وتهم الفساد المساقة ضده، عبر تعجيل توقيع اتفاقيات سلام وتطبيع علنية مع دول عربية. علاقات كانت لعقود سرّية أو غير رسمية يستثمر فيها الان نتنياهو للانتخابات.

أمّا السعودية، فهي تترقّب ما يحصل في الداخل اللبناني تاركة المسار اللبناني الى حليفتها اميركا التي سلّمت الورقة اللبنانية الى فرنسا والاتحاد الاوروبي بعد ان امتنعت روسيا من لعب هذا الدور. وكان سفير روسيا في لبنان الكسندر زاسبيكين اعلن في مقابلة اعلامية غداة انتهاء مهامه في لبنان »لا نوايا لروسيا بلعب دور اساسي في لبنان ونحن غير قادرين على ذلك«.

في هذه المشهدية، لبنان في مهبّ الريح والاخطار من حوله كبيرة. ثروته الغازية قد تتحول الى نقمته الابدية. ترسيم الحدود مع اسرائيل وسوريا ملف مغلق. أمنه المجتمعي يعاني خطر البطالة والفقر والجرائم والاقتتال والانقسامات الحادّة في ظل تدهور قيمة العملة الوطنية وارتفاع الاسعار وانهيار الاقتصاد وافلاس شركات وتعثر المصارف.

أمّا الخطر الأكبر فهو في خلايا إرهابية نائمة يتبين انها تسعى لتنشط ولا شكّ انّ في ذلك مصلحة دول. لذا ، لبنان امام فرصة تاريخية، إمّا التوافق السياسي الداخلي وتحصين ساحته من الصراعات الخارجية عبر تسهيل عمل الحكومة العتيدة والعمل على نظام سياسي جديد قائم على عقد اجتماعي حديث، وإمّا خراب أكبر ودماء وحصار وعقوبات وعقد اجتماعي جديد يُفرَض فرضٌ،

ولكن هذه المرة ليس من الطائف.

ما من سياديّ يلجأ إلى الإستقواء بالخارج على وطنه، وما من سياديّ يقبل بهيمنة الخارج على وطنه. وكذلك، ما من سياديّ يقبل بسلطوية الداخل على وطنه، وما من سياديّ يرضى بحكم الفاسد على شعبه، وما من سياديّ يبقى صامتا أمام فجور الباطل. إنّها معركة تغيير وصراع هوية…وفي زمن الاستسلام والخضوع، يبقى لبنان يحمل هوية مختلفة..لبنان الرسالة كونيّ الهوية.

العدد109 /تشرين2020