غياب رياض نجيب الريس

غريد النشر

ربط رياض نجيب الريس حضوره في عالم النشر، بميثاق أخلاقي، يقدم البرامج على الإرتجالات والعقول على الاحاسيس، بدون أن يعتبر أن الاحاسيس جزء من عذابات العالم المادية. لم يأبه العتمة الضاربة، بمختلف الدول العربية، حين راح يصمغ حياته بكل الخواطر الضرورية والضروريات المأهولة بعذابات التفوه بالجنون في عالم لم يرد قادته سوى أن ينضبط على المعايير السائدة. رياض الريس جزء واسع من شميم أوقات النشر الذهبية، مذ تلقف الحياة من والده الصحفي نجيب الريس، صاحب جريدة  »القبس« الدمشقية ورئيس تحريرها. هكذا، وجد الريس

رياض نجيب الريس

يتواشج مع عرقه الصحفي الخاص في منطقة، واحدة من سماتها السير على سكك أشجار الصبار لا الأشجار المثمرة الأخرى.

حين إنوجد رياض نجيب الريس في بيروت، بعد دراسته في مدرسة برمانا العليا في الجبل اللبناني، ثم دراسته في جامعة كامبريدج البريطانية، بدا أن المدينة أصيبت بواحدة من الأمراض العصابية النادرة. مرض الخروج من الحشرجة والآبار المعطلة، الخروج من الهوايات المخلوطة بنثار الإحتراف، إلى عالم لن يكتهل بوجود أحد أبرز الناشرين العرب فيه. هكذا، إنخرط الرجل ذي الوجه العريض في الدغل والزمن المتوحش في بيروت. زمن إكتمال المدينة وانفجارها بعد الإكتمال، ثم زمن الحرب الأهلية.

لم تقع الحرب هذه في صمت الرؤيا. ثمة من أراد وصمها بالتضييق على التعبير والحريات والحيوات الفردية والجماعية، إلا أن هذا الوصم بقي بعيداً من الواقع. لأن الحرب في لبنان، لم ترسم حضورها كمستودع للأسلحة في مختلف عياراتها أو كديبو للقتلى أو مستشفى للجرحى أو مؤسسة جامعة للمعوقين. خصبت الحرب أشكال التعبير، وهي تلسع الضيق بالسعة على مختلف المستويات. بحيث عاش اللبنانيون حياتين في حياة واحدة، بعد أن وضعتهم الحرب بالأقصى، أقصى الإحتمالات وأقصى الطموحات. صحيح أن الريس ترك بيروت في فترة من فترات الحرب، إلا أنه لم يلبث أن عاد إليها بعد أن  »إستراح« في لندن، مصدراً صحيفة أسبوعية بعنوان  »المنار«. هذا من شعرية الريس، شعرية الريس الخاصة (مواليد العام 1936): إصدار صحيفة أسبوعية. هذا من شعرية الريس: أن يدوس تقاليد إصدار الصحيفة اليومية بإصدار أسبوعي لا يومي.

أراد في لندن أن يبقى في بيروت. هكذا، لم يغادر بيروت حتى حين غادرها. بقي في لندن وروحه في بيروت، يؤنس عضة المدينة الإنكليزية المكلوبة بالحنين الدائم إلى بيروت، مدينة العقارب واللامفر والأحلام والموت والحياة القصوى. راح يحضر من بعيد للعودة إلى بيروت، بعد أن انجبت واحدة من دموعه على بيروت دار ومكتبة الكشكول. رقصة إمرأة ورقية في العاصمة الإنكليزية. وجد العرب بالكشكول هذه، جزءاً من قصب سكرهم المفقود، حين وجد الريس أن الكشكول جزء، وجدها ضفة القفز الحر من لندن إلى بيروت، على بساط هجاء البياض بصالح النشر، على أوسع نطاق. هجاء البياض الواقف على الأسافل، بصالح مخطوطات الأعالي. بدا مستلذاً في بيروت، وارف الحضور، وارف الظلال، وهو ينثر فتنه بدون مواربة بكل زوايا المدينة. واحدة من فتن المدينة: دار رياض نجيب الريس. لم يعرف الكثيرون سر إصرار الرجل على إسمه الثلاثي، إلا بعد ان تبينوا أن بنية رياض الريس تعود بالأساس إلى والده الصحفي المعروف: نجيب الريس. رياض نجيب الريس إذن. بالإسم الثلاثي أرخى الرجل قدراته لعبور النشر من المجاز إلى حفر الحضور بالمسارات الواقعية بالواقع نفسه. رجل براغماتي، لا تنقصه بالعمق أن تترادف براغماتيه ومشحة شعرية عريضة. ذلك أن الريس شاعر في البدايات. شاعر في  »شعر« يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحج وثلة من رجال الشعر الأولين. غير أنه ما لبث أن إنفض عن الشعر إلى الوقوف على المناطق المنتهكة بالحروب، من تهتكت أستارها بالقتال والدم والموت. مراسل حربي. وقوف في قسم من أقسام الزنج. لأن المراسل الحربي، لم يعانق الواقع إلا مع قلة من الرجال بالعالم العربي، أولهم رياض نجيب الريس. دخول بالجوازات وبالتهريب من أجل مسح الأعشاب الوبرية للحروب الكثيرة المندلعة بالعالم في فترة الستينيات من القرن الماضي. غطى الريس لجريدة الحياة الحرب في فيتنام، ليدخل في وحشات الحروب الأخرى، في قبرص واليونان وتركيا واليمن وغيرها من بلدان غادرها السلام ذات فجأة أو على انتظار الحرب بعدأن تشققت حيطان الدول فيها. طلع الريس كما تطلع الأكاسيا على الأراضي المتفجرة والمفجوع بالحروب. ليخرج من الرمضاء هذه إلى كتابة المقالة بالسياسة، المقالة المحكوكة بالتجربة العملانية، لا لغو الكلام. كتب في الحياة والسفير والنهار، ليبدأ الحصاد الأكبر في الإصدارات الشخصية، حيث لاخطابات بل وقائع تزف المقامات إلى أعيادها. من  »رياح السموم« إلى صحافي ومدينتان و »صحافي المسافات الطويلة« (أقرب إلى المذكرات الشخصية) ورياح الشمال ورياح الجنوب. وجد القراء تخصصه في شؤون الخليج العربي في إصداراته المزواجة بنوع من القلق والمعرفة البربريين بالسلالات والمدن والمؤسسات. حط تيه الرجل على رمال الصحراء في مجموعة من الكتب / المراجع. بيد أن تعب الأيام تعب فاجر إذا لم يقترن بتعزيز المنابت، أبرزها الدار. دار رياض نجيب الريس للنشر. دار مزامير الممنوعين والمطرودين والمحرومين من وجدوا أن الإقتراب من صداقة الكلمات في بلادهم إقتراب المضيق من المضيق. إقتراب يسد بدل أن يفتح. نقرت الدار بحس الناشر. ناشريقف على جمر الأيام كما يقف على جمر نفسه. هكذا أضحت الدار مجرة لمجموعة من الأسماء الكبرى في عالم السياسة والثقافة، من محمود درويش إلى الصادق النيهوم وفواز طرابلسي والطيب التيزاني ومئات الأسماء الأخرى. دار الروايات القاطرة والدواوين لا الأزجال والقصص القصيرة وكتب المسرح والسياسة والفكر والفن والعمارة. كتب دهر الناس بعد صيام الناس دهراً على النشر. إنها دار المعنى، ترسل كتبها بدون منة إلى مداخل الصحف والأبنية العادية والإذاعات والتلفزيونات والمؤسسات بالمجان، ثم تترك خيوطها في أسواق الكتاب.

هذا الرجل غريد النشر. لا ينشر فقط. يحفز على هذا الموضوع ويقترح ويتصور ويعنون ويقرأ ولا يقبل إلا أن يقف الكتاب على عرش الكتاب: أناقة وألوان وفيض من الإقتراحات الجديدة من الغلاف إلى الغلاف. لا ينشر فقط، حين يعاون الآخرين على إختراع أنفسهم.

مات رياض نجيب الريس، في المستشفى، من مضاعفات فيروس كورونا. الثمانيني، لم يغادر الحياة إلا حين أراد، بعد أن نجا من حروب وحروب. شغله جزء من اكتمال صورة المدينة، بعد خروجها من بواباتها الضيقة منذ آواخر القرن الثامن عشر. ناشر الأعمال الممنوعة لأبي نواس ونزهة الخاطر للشيخ النفزاوي والعشرات من العناوين الجرئية، قتله فايروس. كيف يمكن لفيروس قبيح أن يقتل، صاحب أجمل مدارس النشر بالعالم؟

العدد 110 / تشرين الثاني 2020