اماركورد اقرب افلام فيلليني الى السيرة الذاتية

المبدع الملحمي يرى الماضي ببصيرة المخيلة

سيدني ـ جاد الحاج

 أماركورد لوحات لا تنسى عن مرحلة المراهقة والإفلات من رقابة الكبار إلى مغامرات عبثية، مخالفة للمنطق، معظمها مغاير لحسن التصرّف. وبحسب الناقد الأميركي فينسنت كانبي انها لوحات رسمها فيلليني:  »في براعة طريفة، احتفالية، مثل حلم يوقظ فينا أفضل ما لدينا، فنشعر أننا إنسانيون أكثر، وأقل بلادة«. وأماركورد تعني  »أتذكر« في عامية ريميني مسقط رأس فيلليني، حيث تدور احداث الفيلم.

فيديريكو فيلليني يتذكر كمبدع ملحميّ. يرى الماضي ببصيرة المخيلة ويعيد بناءه بحِرفية فذة:  »لا أستطيع العمل إلا عبر الذاكرة« يقول  »والذاكرة تتحوّل، وتتصفّى، وفي المحصلة الأخيرة تلامس جوهرَ الحياة«.

فاتحة أماركورد أغطية سرير بيضاءَ منشورة على حبل، تؤرجحها ريح طفيفة، ناشرتها امرأة مبتسمة ترنو إلى

تيتا وبائعة السجائر

الفضاء وتقول:  »مانينه!« إنه منّ الجمّيز الطائر كنفناف الثلج، بكر مؤشرات الربيع. يجيبها عجوز مشغول خلفها بشؤون حديقته:  »حين يأتي الزغب ضعي الصقيع في العُلب!« فتبتسم قليلاً وتمضي.

 ساحة البلدة هرج ومرج وأقوال مأثورة يجود بها مجنون فصيح. الصبيان يتقافزون ويحاولون القبض على الزغب الطائر. وفي الجوَ وعد باحتفال تتشكل ملامحه من مشاهد متقاطعة، متلاحقة، كأن العدسة تتدحرج بين الناس. لكن شمس النهار لم تغب بعد، وما زال كُثر في اشغالهم. ـولــينا الشقراء الشبقة الفالتة على حلِّ شعرها مخلوق طبيعي الى حدّ التناقض مع سائر الناشطين في مهنهم والمختبئين في بيوتهم وملابسهم وسلوكهم الثابت. انها اقرب الى لبوة تجوب المدينة منبوشة الشعر لاهبة النظرات. مهتاجة تقترب من ورشة أوريليو على الشاطئ. تقول إنها أضاعت قطتها وجاءت تبحث عنها. تتبول في اتجاه البحر، ثم تتسكع باتجاه الورشة. يدعوها العمال إلى مشاركتهم طعامهم. لكن أوريليو يحاول ابعادها بهدوء، تعاند قليلاً. نزولا عند إلحاح زملائه يهديها أحد العمّارين قصيدة على سبيل الوداع،:

كان جدّيَ يصنع الطوب

كان أبي يصنع الطوب

وها إنني أصنع الطوب أيضاً

لكن أين بيتي أنا؟

مع حلول المساء يتدفّق القوم من كل الجهات، أولهم عازف الأكورديون العجوز الضرير، قصير القامة، نحيل الجسم، جانبا رأسه الأصلع جناحا شعر فاحم، يعمص خلف نظارتين خفيفتين ويلوي عنُقه منتشياً بعزفه، غير آبه بالمراهقين الرقعاء، يناوشونه لمجرد اللهو والشيطنة مع انه المصدر الوحيد للموسيقى الحيّة في ريميني، يرافق الاحتفالات الخاصة والعامةَ كلها، عازفاً من كل جوارحه. يسمعونه أو لا، يرقصون لعزفه أو يتركونه يعزف وحده، لكنهم لن يفرحوا ولن يحزنوا من دونه.

 تعبر صاحبة حانوت التبغ ذات الصدر الجبّار. مستقلة، مستعدة لشتى انواع المواجهات ما يحيل الاقتراب منها تحدياً يتجنبه ذوو العقول الراجحة. ويظهر بطل الحكاية، الفتى تيتا، متورّد الخدين متأجج الرغبات، والده أوريليو مقاول البناء صاحب ورشة الشاطئ يسير مع زوجته ميرندا التي تحشد لابنها تيتا مذنباً أو بريئاً، بلا تردد. وقربهما ثقيل الظل لاللو التنبل، شقيق ميرندا الذي يصرف من عرق جبين زوجها بلا حساب. أيضاً تدافع عنه باعتبار زناخاته من بقايا طفولته البريئة. وفي الرهط جدّ تيتا العجوز البذيء الذي يغازل خادمة العائلة بلا خجل ولا وجل. واخيراً الفشّار صاحب المبالغات الخرافية، وهو بائع جوال يدعى بيتشينتي.

مجنون البلدة يدلي بدلوه الإعلامي كأي مذيع مستشعر:  »ها هو الزغبُ يطير فوق المدافن حيث يرقد الجميع بسلام. وها هو يطير فوق البحر، يدور ويدور…«

 آآ، كدنا ننسى أجملَ جميلاتِ ريميني: غراديسكا، محبوبةَ الصغار والكبار، ساطعة الأناقة في فستانها الأحمرَ القاتل، تحيي الجمهور وتغدق على من ترشّحهم للزواج منها نظراتِ إغواء مباشرة لا تحتمل التأويلات البريئة على الاطلاق، وكما من فمِ سمكة تفقفق لهم قبلاتها عبر الأثير. تيتا مهووس بغراديسكا لكنها لا تعيره ذرّة اهتمام. يتخيلها إلى جانبه في سيارة سباق، يلوّحان للجمهور وينطلقان إلى الفوز بالجائزة الكبرى. يتبعها إلى صالة السينما حيث تجلس وحدها

عرس غراتيسكا

تدخّن سيكارة مع غاري كوـر على الشاشة. يجلس تيتا بعيداً على حدة، ثم يبدأ بالاقتراب، مقعداً فمقعدين، إلى أن يحاذيها ويمد يده المترددة إلى ركبتها الجميلة: هل تبحث عن شيء؟ تسأله بأقل من لفتة، أو قل بصفعة معنوية تطرده إلى حانوت بائعة التبغ، في الظاهر ليشتري سيكارة، لكنه يضمر أبعد من ذلك. صاحبة الحانوت على وشك الانصراف، تنقل أكياس خيش ثقيلة إلى ركن داخليّ فينبري تيتا إلى مساعدتها:

 انت لا تستطيع حمل الكيس، تنتهره.

ـ بلى واستطيع حملك أنتِ، يتحدّاها.

ـ جرّبْ !

يطوّقها تيتا بذراعيه ويرفعها بعسر، ثم يضعها ويشقلها من جديد، فتعجب بعزمه وتنتضي ضرعها المهول من غمده . لوهلته لا يعرف كيف يتدبر أمره. يتعرّق، ويرتبك، ويفشل وينتهي المشهد به مريضاً محروراً في سريره، شاكياً لأمه حظه السيء، مثل طفل مهزوم.

كلام المتدفّقين إلى ساحة ريميني ربيعٌ ودفء وشيك ولهو موعود. الجميع على قدم وساق لإضرام نار الترحيب بالفصل الوليد. يضيفون حملة حطب كبيرة إلى نوافل منزلية وكراكيبَ متنوعة، يعتليها مجنون البلدة كمصباح مطفأ على قمّة منارة. يأتون بسلّم لاستعادته، لكن الخال الغليظ لاللو يحاول مناكفته فيقرّب السلم ويبعده مراراً والنار مشتعلة.

ـ أنظري إلى سماجة أخيك، يقول أوريليو لزوجته.

ـ أوه، إنه طفل صغير! تجيب ميرندا.

 وتأتي عصبة فتيان بمجسّم أخرقَ لما يسمونه  »الساحرة العجوز« يرفعونها إلى قمة النار ويصيح احدهم: احترقي أيتهىا العجوز واحترق أيها الشتاء!

 في أميركا رأيت ناراً بلغ ارتفاعها ثلاثمئة قدم، يقول الفشار.

 ومتى كنت أنت في أميركا، يسأله أحدهم.

ـ والداي أميركيان، يجيب بيتشينتي.

 بعد قليل يستفيض بيتشيني راوياً واقعة وصول شيخ عربي برفقة ثلاثين جارية إلى أعرق فنادق المنطقة. حجم الشيخ أقلّ من ربعة، مرافقوه مردة، ومعه حفنة عبيد يحثون الجواري على السير السريع في ملابسهنّ الفضفاضة. ويزعم الفشار أنه، مع هبوط الليل، وقف تحت نوافذهنّ وراح ينفخ في قصبته، فخرجن إلى الشرفات كأشباح بيض، ورفعنه إليهنّ بالشراشف البيضاء المعقودة، فلما أدرك أخدارهنّ عزف مرة أخرى فبزغت من حوض مدخّن حوريات راقصات بلا ملابس تقريباً، وجزم بيتشينتي بأنه لم يعاشر أكثرَ من 28 حورية تلك الليلة!

 لتصوير زيارة موسوليني إلى ريميني أحال المايسترو سخريته الكاريكاتورية من التفكّه والدعابة إلى التهكم والكآبة. عبر الكوميديا القاتمة جعلنا نستنتج مدى احتقاره مرحلة انتفاخ الذات القومية في ظل الدوتشي، حيث اختلط الفجّ بالمبتذل، والجديّ بالسخيف. أغرق المايسترو ريميني في الضباب منذ الصباح الباكر. والضباب مرآة الاكتئاب حتى لو تضمّن مفارقات مسليةً كخروج الجدّ من البيت وضياعه على بعد خطوات معدودة، ثم محاولة أوريليو حضور حفل استقبال موسوليني ليجد الباب الحديديّ مغلقاً بالمفتاح. ميرندا لا تريده أن يذهب وهو كعادته يجنّ. لكن ليتها لم تمنعه، لأن شقيقها الغليظ، ناكر الجميل، وشى به لقوله ذات يوم:  »أذا أكملوا على هذه الحال… لا أعرف…« ما اعتبره المحققون تشكيكاً سافراً في جدوى المسار الفاشيّ، وعاقبوا أوريليو بتجريعه زجاجة من زيت الخروع وأرسلوه حبواً إلى أحضان ميرندا الموهولة.

استوعب ملعب كرة القدم جمهور المستقبلين الذين توزّعوا بحسب مناصبهم بين منصات خاصة للرسميين والعسكريين، وحلقات مسيجة للعامة، توسطتهم غراديسكا الأكثر حماسة.  »ها هو! ها هو!« قفزت غراديسكا قبيل ظهور الدوتشي ومعه ضباط مبقّعون بالأشرطة والنجوم. وارتفع مجسم هائل لوجهه العابس المهيب في الجهة المقابلة من الملعب، رافقته صيحات الترحيب والولاء. مرافقو الدوتشي يهمسون له بأن تسعين في المئة من السكان هنا مع

مجسم موسوليني في ريميني

الحزب. ويندفع فريق رياضي من الشبان إلى تأدية عرض بهلوانيّ بالسلاح، تتبعهم فرقة فتيات لولبن إطارات نحيلة حول أجسامهنّ ورقصن بها. وبعد خطاب خاطف، حماسي، أجوف، توجّه الدوتشي إلى أحد مقاهي البلدة لاحتساء نخب الزيارة، وهناك لاحظ وجود مشكلة لدى لاعبي البلياردو، فقرّر التدخل بضربة صائبة و… ما ان حمل المضرب انقطع التيار الكهربائي، وسمع القوم موسيقى النشيد الأممي وكلماتِه تحدّياً سافراً لزيارة الزعيم الأوحد. بعضهم هرع إلى الخارج بحثاً عن محدث البلبلة، لكنهم لم يستطيعوا تعيين مكانه بسبب الظلام، ثم لمحه أحد الضباط تحت قبة جرس الكنيسة وأمطره وابلاً من رصاص مسدسه فهوى إلى أرض الساحة. شهيداً…

اليوم التالي مدرسة: معلمة الرياضيات، عارمة الصدر تتبختر مثل فهدة حرون. وأمام السبّورة تلميذ طويل القامة، غائب حاضر، حول عينيه كثافة قاتمة تطمس بياضهما، يتآمر عليه رفاقه وهو غافل بالمرة: يصنعون ماسورة من الخرائط تمتد حتى أسفل قدميه، وفيما هو يحاول حلّ معادلة جبر يبول أحدهم في الماسورة فيتجمع البول بركة تحته، وتفقد ذات الصدر العارم اعصابها وينبهل الفتى يابساً في مكانه بلا حراك!

خلال درس التعليم المسيحي في مدرسة ريميني الرسمية، ينجح الجالسون في الصفوف الخلفية بالانسحاب من الحصة في غفلة من دون بالوسا، كاهن البلدة المهووس بترتيب الأزهار بعد تحذير الصبيان المعترفين عنده من مغبّة الاستمناء:  »لأن القديسين سيشعرون بالإهانة إن لمستم أنفسكم«. تيتا يعترف أنه لم يكن قادراً على كبت شهوته حيال رؤيته غراديسكا في فستانها الأحمر، وـولبينا الشبقة، ومعلمة الرياضيات ذات الصدر الرائع ناهيك عن صدر صاحبة الحانوت. يحاول تيتا وصف المشاهدِ المتعلقة بالوقوع في التجارب المذكورة للأب بالوسا الذي يشعر بالإحراج فيوقفه عند حده.

 ذات نهار صيفيّ مشمس تأخذ العائلة العمّ تيّو من مصح الأمراض العقلية إلى نزهة خارج البلدة. يبدو تيّو سعيداً مثل طفل ويحاول الجدّ، والده، أن يجري معه حديثاً على قدر مقبول من المنطق. لكن تيّو يقفز من الديك إلى الحمار كقول الفرنجة. في جيوبه حفنة حجارة.  »لماذا الحجارة؟« يسأله أوريليو. لأنها حجارة وجميلة، يجيب تيّو باسماً، ثم يطلب التوقف قليلاً ليتبوّل. ينزل الجدّ معه ويقف الاثنان أمام سهوب خضراء يتأملها تيّو مأخوذاً، ناسياً مثانته، ثم يعود بليل البنطال. إنها الإشارة الرابعة إلى التبوّل في أماركورد، فبعد برْكة حصة الرياضيات، رأينا عائلة أوريليو إلى مائدة العشاء حيث تحدث تقليدياً مناوشات بين الجميع، أبرزها غمز ولمز غير مجديين تجاه الخال الشره، مما يُحزن ميرندا ويعطل شهيتها من دون أن يؤثر في مسارات تحرّش الجدّ بالخادمة. وفجأة يُقرع الباب.  »مَنِ الزائر في هذه الساعة المقدسة؟« الخادمة تفتح وتعود لتهمس أن جارهم السيد بيوندي يلتمس لحظةً مع ربّ البيت. تيتا يضطرب. يخرج والده ويعود إلى المائدة بلا تعليق، لكنه لا يصمد طويلاً قبل أن ينفجر:  »أين كنت مساء البارحة، تيتا؟« في السينما، يجيب تيتا. نعم كان في السينما واستعمل قبعة جارهم للتبوّل ثلاث مرّات في عتمة الصالة. وفقد أوريليو أعصابه معلناً رغبته في دس ستريكنين في الحساء كي يموت الجميع خصوصاً بِكره، ثم ينوي قتل نفسه بفسخ رأسه من شدقيه بكلتا يديه… ولا ننسى أن أول ما فعلته ـولبينا لدى ظهورها على الشاطئ أن أقعت وتبوّلت فوق الرمل!

 تيّو يتسلق شجرة وينادي: أريد امرأة! أريد امرأة! يحاول أهله الجالسون إلى مائدة غداء في الهواء الطلق إقناعه بالنزول، الواحد تلو الآخر يتوسلونه أن ينضم إليهم، فإذا حاول أحدهم الاقتراب من الشجرة رجمه تيّو بحجر، وأصاب. انقسم الرجال فريقين: الجدّ مع الصبر والروية وأوريليو مع ترك شقيقه المشبوب فوق الشجرة ومغادرة المكان:  »ـوليو أونا دونّا!« يصيح تيّو، صوته يثقب المسافة. ولن ينزل. تحزم العائلة أمرها وتتهيأ للرحيل. لكن سيارة المصحّ تصل في الوقت المناسب. تنزل منها راهبة قزمة غارقة في ثوبها وقبعتها المجنحة فلا يُرى لها وجه، معها رجلان متينان، يضع أحدهما سلماً على الشجرة، فتتـسلقه الراهبة بسرعة وتُنزل تيّو إلى الأرض بلا مقاومة. ويدخلان معاً سيارة الاسعاف.

العدد 110 / تشرين الثاني 2020