خمسون عاما على رحيل الزعيم

رغم الحملات التي ما زالت تنهشه بضراوة فانه ما زال يسكن الوجدان العربي

القومية العربية ان كانت قد توارت ـ ازاء الظااهرة القطرية  فهي لازالت المخرج للأزمات

أمين الغفاري

عبدالناصر ليس زمنا راح وانقضى، وانما هو فكرة وارادة تجسدت في رجل، وعمل على تحقيقها، عبر مرحلة، أخذت أقل من عقدين من الزمان، وحققت في عهده انجازات، لفتت اليه الأنظار، وتبوأ من خلالها مكانة رفيعة، على مستويات عدة، منها الوطني، ثم القومي، وكذلك العالمي. لكنها تعرضت في مراحل تالية بعد رحيله، لحملات متعددة، كان همها الأساسي تقويض إرثه، وتصفية انجازاته سواء في عهدي الرئيس انور السادات أولا، حيث كانت بداية الانفتاح ( السداح مداح) انتهاء بزيارة القدس وكامب ديفيد، ثم في عهد الرئيس حسني مبارك حيث تعانقت السلطة مع رأس المال، تعانق المصالح وتقاسم الغنائم، وجرى التعريف بأن (المصالح تتصالح). لكن تجربة عبدالناصر تبقى الشاهد على ان طريق الاصلاح والانطلاق الى مستقبل واعد، له قواعد وأسس، لمن يستوعب الدرس ويسعى

الزعيم الراحل جمال عبدالناصر
رغم مضي خمسون عاما على رحيله فما زال مثيرا للجدل

لأستنهاض الهمم، من اجل شق الطريق من جديد، الى عوالمه الثائرة على اليأس والأنكسار. عبد الناصر هو قضية مركبة عمادها الحرية لجموع الشعب، والعدل الاجتماعي للمواطن الفقير، والأنتماء للأرض واللغة، ووحدة المصير، وهو ما يلخصه شعار القومية. شعارات عبد الناصر لم تكن طبلا أجوف بلا مضمون، وانما كانت مبادئ تترجمها كلمات (أرفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الأستعباد)، (سنبني مجتمع العزة والكرامة)، (على الاستعمار أن يحمل عصاه على كتفه ويرحل)، وفي معركة السويس قال (لقد فرض علينا القتال، ولكن لن يوجد من يفرض علينا الاستسلام ) ثم ردد، سنقاتل.. سنقاتل ولن نستسلم ابدا). تتغير الظروف، وتستجد القضايا ويتطور شكل الحياة، بما يعني أو يقتضي تبدل السياسات، ولكن مع اختلاف السياسات تبقى التجربة شاهدة والقيم قائمة، بقاء حاجات الانسان، فالحرية قيمة لا تتغير، والعدل الأجتماعي قيمة لا تتبدل، وآفاق التضامن والتعاون بين اقطار الاقليم الواحد، قيمة تتعمق ولا تتبسط، حتى وان لم تتيسر وحدتها الدستورية فهي تحمل في مضمونها صمام الأمن والآمان. تلك هي الاهداف التي تعامل معها وبها عبدالناصر، منذ قيام ثورة 23 يوليو عام 52، وحتى رحيله في 28 سيبتمبر عام 1970.

ثورة 23 يوليو.. ثورتان

قاد عبدالناصر ثورتين عام 1952 أولا : ثورة سياسية أطاحت بالنظام الملكي، وبالطبقة السياسية الاقطاعية الحاكمة التي كانت في مجملها، ومن خلال محافظتها على مصالحها تعد ظهيرا للمستعمر، فكلاهما يقف في خط معاد للشعب بطبقاته الفقيرة المعدمة، وتصدى في نفس الوقت لقضية الاستعمار البريطاني لمصر والسودان الذي امتد لعقود طوال من السنين تربو على سبعين عاما، وكانت(الاتفاقية) التي اثمرت عنها المفاوضات اعطاء حق تقرير المصير للسودان، سواء بالوحدة مع مصر أو الاستقلال، ومع ان الحزب السوداني الذي فاز في الانتخابات السودانية بعد ابرام الاتفاق كان (الحزب الاتحادي) بقيادة اسماعيل الازهري، الا ان الاختيار الأخير للحكومة كان الاستقلال، وكانت مصر أول من اعترف بذلك الاستقلال. وكان الجلاء عن مصر، مع تحفظ وهو عودة القوات البريطانية الى قواعدها في مصر ان تم العدوان السوفييتي على تركيا في غضون سبع سنوات، وقد وافقت مصر على ذلك المضمون، وتم توقيع معاهدة الجلاء عام 1954. لكن الامور تغيرت بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ومشاركة بريطانيا في العدوان فقد تم الغاء المعاهدة من جانب مصر مع قيامها بالاستيلاء على كل ما في القاعدة البريطانية من معدات واسلحة قد تم تخزينها، واعتقال مجموعة الخبراء الذين بقوا في القاعدة وعددهم حوالي ثمانمائة خبير بملابسهم المدنية كما نصت بنود المعاهدة، وهكذا تم تصفية الاحتلال نهائيا.

الثورة الثانية التي قادها كانت (الثورة الاجتماعية) وذلك حين اصدر قانون (الاصلاح الزراعي) يوم 9 سبتمبر 1952 أي بعد شهر ونصف تقريبا من قيام الثورة، وحدد الملكية الزراعية بمائتين فدانا بعد ان كانت ملكية الطبقة الحاكمة واعوانها تحصى بآلاف الأفدنة، ثم توزيع الأراضي التي تمت مصادرتها على الفلاحين بواقع خمسة فدادين للفلاح الذي كان اجيرا فأصبح مالكا، وتطورت الثورة الاجتماعية فامتدت الى الشركات الأجنبية الفرنسية والبريطانية والبلجيكية في اعقاب العدوان الثلاثي على مصر بما عرف بحركة (التمصير) للمؤسسات الاجنبية، وتشكلت (المؤسسة الاقتصادية) عام 57، ثم مرحلة التأميم لسيطرة الشعب على وسائل الانتاج، واشراك العمال في عضوية مجالس ادارة الشركات بانتخاب عضوين منهم لعضوية المجلس ثم نسبة من ارباح الشركات للعاملين بها، ومنع الفصل التعسفي الا بقرار من (لجنة ثلاثية) قوامها عضو من النقابة وعضو من مكتب العمل وعضو من المنشأة التي تطلب الفصل، ولا يتم ذلك الا باتفاق جهتين من تلك الجهات. وعلى الجانب الزراعي توالت التشريعات التي تنص بأحقية الفلاح الذي يزرع على نصف المحصول مشاركة للمالك. ثم انشاء الجمعيات التعاونية التي تتولى توفير وسائل السماد ومطاردة أي عوامل تؤثر على انتاجية الأرض بتوفير المبيدات الحشرية. سلسلة من الاجراءات التي تضيف الى رصيد الطبقات الفقيرة، وتوفر لهم الحد الأدنى لكرامة المواطن، وقد ساهمت تلك القرارات في انكماش الطبقة الفقيرة، واتساع الطبقة المتوسطة، مما ساهم في اتساع دائرة التعليم، وزخم حركة المعرفة والتنوير. تلازمت تلك الاجراءات الثورية في الجوانب السياسية والاجتماعية، وكان لابد ان يصاحبها حركة ثقاقية ومعرفية تغذي الجانب السياسي والاجتماعي، مع الطفرات التي تحققت، ولذلك تميز عصر عبدالناصر بأزهى عصور الثقافة والفكر، مما كان له أثره بالفعل في حركة النشرالتي كانت تشهد طبع (كتاب كل ست ساعات)، وشهدنا كذلك مشروع (الألف كتاب)، تعزيزا لحركة الترجمة، وانشاء أكاديمية الفنون، التي تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما وفنون البالية والموسيقى والفنون الشعبية، و الأوبرا والسيرك القومي والقبة السماوية، والمتاحف امتدادا الى انشاء القصور الثقافية في المحافظات علاوة على أنشطة الثقافة الجماهيرية اتي تطوف القرى والكفور والنجوع في اعماق الريف لأيجاد عمليات الوصل بين المدن والقرى، بما يعني التوزيع الديموقراطي للثقافة، ثم كان انشاء مؤسسة السينما التي ساعدت في انشاء اعمال لها قيمة ثقافية واجتماعية، كما انها مدت يدها للفنانين الشباب خريجى معاهد السينما في مجالات مختلفة سواء في التمثيل أوالاخراج أو كتابة السيناريو أو المجالات الاخرى كالتصوير أو الديكور أوالنقد وقد اكتسبوا من ذلك الخبرة وصقل الموهبة، وانطلقوا في صناعة حديثة لفن السينما.

السد العالي أو الهرم الرابع الذي شيده عبدالناصر

شاءت الاقدار وحدها ان تشارك في الاحتفالية بذكرى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وذلك من خلال المدد الطبيعي لذلك الفيضان العارم الهادر الذي اجتاح ولايات عديدة من السودان الشقيق هذه الايام قادما من ينابيعه الاثيوبية، وقد غمر ايضا عدة مناطق منها. أنه فيضان لم يحدث من قبل منذ أكثر من مائة عام كما وصفته المصادر السودانية، وكان يمكن ان يهدد الأراضي المصرية بقوة اندفاعه، الا اننا كنا في الوضع الآمن بفضل ذلك الحصن الذي شيده عبد الناصر السد العالي وبسبب (بحيرة ناصر) من خلف السد العالي، وهي اكبر بحيرة صناعية في العالم حتى الآن على الأقل، وقد خاض الزعيم الراحل من أجل بنائه حربا ضروسا عام 56، قادتها بريطانيا وفرنسا مع اسرائيل نتيجة لتأميمه قناةالسويس حتى يتمكن من بناء المشروع القومي الجليل (السد العالي)، وبعد ان سحب البنك الدولي تمويله بضغط امريكي بريطاني. السد العالي ايضا جاء في مقدمة الاحصاءات في تقرير الهيئة الأممية للسدود والمشاريع الكبرى، وجرى وصفه بأنه اعظم مشروع هندسي عالمي تم انجازه في القرن الماضي. كانت مصر قبل انجاز مشروع السد العالي تقع دائما تحت رحمة القدر، سواء في فيضانات النيل أو حتى في انحسار الأمطار، وما يترتب عليها من جفاف، وما ينعكس بذلك على خصوبة الارض، بل وحياة النبات الاخضر، كان الجفاف يضرب الأرض ويشققها، وفي بلد كمصر تعرف تاريخيا انها بلد زراعي، وذلك قبل ان تدخلها المشروعات الصناعية التي قام بها ايضا الزعيم الراحل. أصبح السد العالي وبحيرة ناصر هي ملاذ البلاد وحصنها سواء في الفيضان وكرمه الزائد أو في شح الأمطار وتعرض البلاد لظاهرة الجدب والجفاف. الآن تعيش في مأمن فيضانا وجفافا، وبحيرة ناصر هي الملاذ في كل الحالات. يبلغ طول بحيرة ناصر 500 كيلو متر واقصى عرضها 35 كيلومتر وتبلغ مساحتها 6216، كيلو متر مربع كما يصل عمقها الى 180 مترا، وتبلغ سعتها التخزينية نحو مائة وثمانين مليار متر مكعب من مياه النيل. انه مشروع عملاق، قامت على تحقيقه ارادة حديدية، وعزم لا يمكن وصفه الا بأنه عزم الأبطال.

تتعدد الانجازات الداخلية لذلك العهد المشرق، الذي انحاز بشدة الى الفقراء، بل والى المعدمين وكانت تلك من جانب آخر خطيئته التي لم تنسها الطبقات التي خاطبها قائلا «لن يكون الغنى ارثا، ولن يكون الفقر ارثا، بل فرص متساوية لجموع الشعب في العمل والانطلاق بدون استغلال او استعباد ».

اسهاماته في حركة التحرر

تحرك عبدالناصرمنذ انطلاقة ثورة يوليو الى الدوائر الثلاث التي حددها، وفق رؤيته وهي العربية والافريقية والاسلامية، وانطلق في اطارحركة التحرر العالمية فساهم أولا في دعم حركات التحرر الافريقية بالتدريب وبالسلاح، ثم في تشكيل منظمة الوحدة الافريقية، وكذلك في اطار حركة التضامن الآسيوىة الأفريقية، وكان تأسيسها عبر مؤتمر باندونج عام 1955 الذي كان مظاهرة عالمية ضد الحركات الاستعمارية، وبعدها المساهمة في تشكيل حركة عدم الأنحياز أو الحياد الايجابي بين القوتين المتصارعتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وكان من قادتها مع جواهر لال نهرو زعيم الهند وجوزيب بروز تيتو زعيم يوغسلافيا قبل ان تتفكك بعد رحيل زعيمها، في اطار حركته الواسعة في دعم الثورات العربية، فقام بتأييد الثورة الجزائرية، وأعلن انطلاقها من اذاعة (صوت العرب) في

السد العالي
أنقذ مصر من الفيضانات المدمرة
وحفظ لها الماء في سنوات الجدب وقلة الامطار

القاهرة، وفتح لها مخازن الجيش المصري لتسليحها، وقام بدعم ثورة اليمن، الى حد الدعم العسكري المباشر للدفاع عنها، ومن اليمن كان دعمه لليمن الجنوبي، وكان تحت الاحتلال البريطاني حتى نال استقلاله، وكذلك تم انتصار الثورة اليمنية، وتم استقرار نظامها الجمهوري. كانت (فلسطين) ايضا وهي قضية العرب المركزية نصب عينيه، فاصدر العديد من القرارات التي تتيح معاملة الفلسطينيين في مصر معاملة المصريين فيما عدا حق الترشيح والانتخاب حفاظا على الهوية الفلسطينية، كما دعا الى مؤتمر للقمة العربية في احتفاله بعيد النصر في بورسعيد في ديسمبر عام 1963، للنظر في التهديد حول (نهر الأردن) ليعقد في عام 1964 مرتين كانت الاخيرة في الاسكندرية واعلنت القمة العربية (منظمة التحرير الفلسطينية) برئاسة احمد الشقيري، وبعد حرب حزيران عام 1967 وبروز حركة المقاومة اخذ ياسر عرفات موقع القيادة للمنظمة وكان رئيسا لمنظمة فتح التي بدأت الحركة المسلحة لتحرير فلسطين وجناحها العسكري (العاصفة) عام 1965وقد وصف عبدالناصر المقاومة بأنها (أنبل الظواهر بعد النكسة، وانها وجدت لتبقى وقام باصطحاب ياسر عرفات الى موسكو لكي تتعرف القيادة السوفييتية على المقاومة الفلسطينية، وتدعمها بالشكل الذي تراه، وعلى أي مستوى.

كانت آخر اسهاماته حول قضية فلسطين، حين دعى الى مؤتمرلقمة عربية، لفض الاشتباك الذي حدث في الاردن في سبتمبر عام 1970، وتمكنت القمة من وقف نزيف الدم في الاردن، ولكن كان الثمن

هو فقدان الرئيس عبدالناصر، ففي اليوم الاخير من ايام هذا المؤتمر ودع الرئيس عبدالناصرالحياة.

رحيل عبدالناصر

رحل عبدالناصر، وانهمر الحزن شلالا متدفقا يعتصر القلوب والعقول معا، في انحاء العالم العربي وفي دول صديقه في افريقيا وفي آسيا، ونكس الثوار في فيتنام اعلامهم، وساد الحزن في نفوس الملايين وشهدت جنازته مواكب من الوفود الرسمية والشعبية من دول عديده، كما كان عمادها جماهير العمال والفلاحين والبسطاء من ابناء الذين انحاز اليهم في قراراته، ويقدر الكثير من المراقبين حجم جنازته بأكثر من سبعة ملايين مشارك، بحيث تعد أكبر جنازة شهدها التاريخ، مما لا يمكن اخفاء دلالاته.

فقد كان دافعها المحبة لا الخوف، والارتباط وليس التنافر، والتوحد في المشاعر، وليس التناقض.

لقد مر نصف قرن من الزمان على هذا المشهد، ولكنه لم يتكرر رغم وفاة العشرات من السياسيين في انحاء مختلفة من العالم عبر هذه العقود الخمس، ولم نر ملايين توحدهم الدموع يسيرون في وداع قائد أو سياسي أو أي أحد ذو

كانت القناة دولة داخل الدولة وجاء
قرارالتاميم ايذانا بمرحلة جديدة في تاريخ حركة التحرر

صفة اخرى. بل رأينا جنازات رمزية تحمل اسمه وصورته على تابوت وينتظم خلفها كثيرون بعيون باكية شهدتها الكثير من العواصم العربية.

لقد رحل زمن، ومضى كالحلم الجميل البديع، في اطار معارك تعددت شعاراتها عن الحرية والعدل والوحدة، وكانت تنضح كرامة وكبرياء وشموخ واستعداد مفرط للتضحية من أجل تحرر الأوطان.

مرحلة مضت وانقضت ولكن فضلها باق، فقد علمتنا الدرس، وأعطتنا الدليل، عن كيفية بناء الأوطان.

العدد 110 / تشرين الثاني 2020