رحل محمود رضا.. نجم فرقة رضا للفنون الشعبية

أمين الغفاري

الفنان محمود رضا مؤسس فرقة رضا للفنون الشعبيه

تتعدد الرؤى وتختلف الاذواق كما تتباين المفاهيم، حول الكثير من القضايا، وخاصة تلك التي تتعلق بالتقاليد، والعادات، والأعراف، ولذلك نجد من يتشدد بشأنها في ارائه، ونجد كذلك من يوازن، ويتسامح أيضا. نلاحظ كل ذلك في حواراتنا الممتدة، ونرى ـ في العادة  ـ أن تلك الظواهر تأخذ منحى أكثر تطرفا أوحدة، أزاء مهن معينة، وفي المقدمة منها مجال الفن بصفة عامة، حتى وان كان متعدد الألوان والأشكال، ففي فن النحت مثلا، هناك من يحرمه، لأنه يرى أن الفنان الذي يصنع التماثيل يرتكب جرما حين يريد ان يحاكي قدرة الله في خلق الانسان أو الحيوان، وفي فن التمثيل هناك من يزدريه ويقلل من شأنه باعتبار أن (الممثل)أو الفنان ليس سوى مجرد (مشخصاتي)، وكان الممثل في الثلث الأول من القرن الماضي، لا تقبل شهادته أمام القضاء، ثم نجد ان ذلك التحفظ يصبح أكثر غلظة وقساوة فيما يتعلق بنوع آخر من الفن، وهو فن (الرقص) تحديدا. حتى وان كنا ندرك أن كل المهن فيها الصالح وايضا فيها الطالح، فليست المهنة بالذات هي القضية، وانما هي الممارسة للمهنة هي المشكلة، وهي بيت الداء. ذكر الكاتب الراحل (سلامه موسى) ذات مرة في هجومه على الرقص الشرقي، أن الراقصة الاجنبية ترقص، وهي تنظر الى أعلى، ذلك لأنها (تسمو)، ولكن الراقصة الشرقية ترقص وهي تنظر الى اسفل، ذلك لأنها (تنحط). وهو هجوم كما نرى بالغ القسوة وهو ينظر للرقص الشرقي بنظرة أحادية، باعتباره ذلك النمط الذي درجت عليه الغواني في قصور اصحاب الجاه والسلطان، عبر عصور متعددة من التاريخ العربي في اطار حكم الامبراطوريات أو الممالك خاصة وهي تتحلل، وظاهرة الجواري وهي تحيط بالسلطان، ثم في حكم العصر الليبرالي في مصر الذي تحكمت فيه طبقة النصف في المائة، ويلقبونه بالعصر الحر.

الرقص.. لغة الجسد

الرقص موضوع هذا المقال، هو نوع من أنواع اللغة، وان كان يتميز بأنه ليس لغة اللسان، ولكنه لغة الجسد في رمزية التعبير، والرقص في الضمير العام هو عنوان للبهجة، ويتعارف ابن البلد الشعبي على الرقص في تقديره بأنه تعبير عن الفرح المفرط، ولذلك يقول من سمع خبرا، طرب لسماعه (أنني حين سمعت هذا الخبر السعيد كدت أرقص من الفرح) بمعنى أن الرقص هو قمة الفرح، وفي حفلات العرس الشعبية يقوم في بعض الاحيان والد أحد العروسين بالرقص في فرح ايهما قائلا (دا كان ندر علي، يوم ما افرح بابني أو ببنتي أن أرقص ليلة فرحهم) كما ان الرقص له ميادين مختلفة، وليس فقط (هز البطن) كما تذهب الى ذلك راقصات علب الليل، فهناك رقص الباليه الغربي بايقاعاته الجمالية، أو الرقص الأيقاعي بحركاته المقننة، وهناك الدبكة الشامية بدفوفها الساحرة، وهي ليست مبتذلة، ويشارك فيها الشباب من الجنسين، وهناك الرقص بالعصا، أو ما يسمى بالتحطيب، وهناك الرقص بالخيل، الى آخره من أنواع الرقص، فذلك الفن عنوانه البهجة والمرح حتى في محيطه الضيق بل ان الموالد الشعبية في القرى، تجد فيها أنواعا مختلفة من الرقص بالمزمار والدف والأرغول. كما ان الرقص كفن لا يختلف في مفهومه من بلد الى بلد، ولكنه يختلف فقط في الحركة، وصورها التعبيرية كما يختلف الأيقاع، والنغم، والجمل الموسيقية.

مبادرات واستحقاقات

محمود رضا هو (عمدة) الرقص الشعبي في مصر، وهو ليس راقصا فحسب، ولكنه مصمم للرقصات كذلك، وقد كان التراث الشعبي، بعمق صوره، وتعدد فرسانه، هو ينابيعه التي استقى منها ذلك الفن. لكن السؤال من كان يا ترى مثاله أو نموذجه، أو قدوته في تصوره لفن الرقص وجمالياته عموما، وليس فقط في حركته وأسلوبه، سؤال نحتاج الى الأجابة عليه بالرجوع الى فترة الأربعينات من القرن الماضي، حيث لمعت نجوم وأضاءت العديد من الشموع. ازدهرت صناعة السينما في الولايات المتحدة الامريكية، وبرزت (هوليوود) كمركز لتلك الصناعة، ولمعت نجوم ونجمات، وكان وهجهم طاغيا منهم من الفنانين روبرت تايلور وتيرون باور وايرول فلين ولمعت من الفنانات سوزان هيوارد وريتا هيوارث واستر وليامز، وكان من بين هذه النجوم اللامعة فنان جامع. كان ممثلا ومغنيا ومخرجا ومنتجا وكان ايضا راقصا ذو باع كبير وعريض، في ذلك الفن وهو (جين كيلي) ومن أشهر أفلامه (الغناء تحت المطر) مع الفنانة (دبي رينولدز) و(أمريكي في باريس) مع الفنانة (ليسلي كارون)وله ايضا فيلم شهير (الفرسان الثلاثة) مع الفنانة (لانا تيرنر) والفنان (فان هيفلين) كانت استعراضات هذا الفنان وتصميماته للرقصات التي يؤديها في افلامه تتميز بقدر كبيرمن الأبهار للشاب (محمود رضا) وهو من، فانتشى الى حد الولع بذلك الفن من الحركة والخطوات

الفنان الامريكي جين كيللي
كان النموذج والمثال للفنان
المصري محمود رضا

المدروسة والمعدة على جانب كبير من الاتقان. ويذكر ان المخرج (يوسف شاهين) قدم في أحد أفلامه وأظنه فيلم (اليوم السادس) 1986اهداء الى الفنان (جين كيلي) يقول (الفيلم مهدى الى جين كيلي الذي ملأ شبابنا بالبهجة). ظهرت ايضا في فترة الأربعينيات في مصر بعض الأفلام التي تولى البطولة فيها نجوم أدوا بعض الحركات الراقصة منهم محمد فوزي في فيلمي (فاطمة وماريكا وراشيل) وفيلم (بنت باريس)كما قدم منير مراد بعض الحركات الراقصة في فيلم (أنا وحبيبي)، كما لا يمكن ان نغفل دور الفنانة (نعيمه عاكف) حتى في اول أفلامها كبطله (العيش والملح) مع الفنان المطرب سعد عبد الوهاب، ثم افلامها مع أنور وجدي (النمر) ويتضمن هذا الفيلم (تابلوه) رائع عن الصحف والمجلات، ثم فيلم (أربع بنات وظابط)، ونذكر ايضا لأنور وجدي تقديمه للفنانة الطفلة في ذلك الوقت وفيلم (ياسمين) وفيلم (دهب) وشمل الفيلمان العديد من الاستعراضات. لكن في النهاية كان قيام فرقة كاملة تقدم التراث الفني الشعبي بألوانه الغنية من الفولكلور الشرقي، وبهذه القدرة في الأعداد والحركة كان تحقيق هذا الامر يشكل طفرة تحفظ لمن قادها شرف الريادة والمبادرة باستحقاق وجدارة.

نشــأة فـرقـة رضــا

كان محمود رضا مولعا بالفنان الراقص (جين كيلي) الذي عرف اسلوبه في الرقص بالطابع الرياضي الملئ بالحركة والحيوية والحركات الايقاعية التي برز في أدائها، ولذلك عني بتقليده، وتعلم رقصاته، وتدرب بواسطة احد المتخصصين بالرقص الايقاعي، وذات مرة، وكان لا يزال طالبا في كلية التجارة ذهب الى احد المسارح، وكان يقدم عرضا راقصا لأحدى الفرق الأجنبية (الأرجنتينيه)، واعجبه العرض، فدلف الى الكواليس على المسرح والتقى بأعضاء الفرقة لتهنئتهم، ودار معهم حوارا، عرفوا من خلاله مدى عشقه لذلك الفن، وقدم أمامهم نماذجا من الأداء، تبينوا كذلك أداءه الرفيع، فعرضوا عليه الأنضمام الى فرقتهم، فوافق سريعا على ذلك العرض، وانطلق معهم يجول مع فرقتهم بعض دول العالم. لكن في النهاية لابد ان يعود الطير الشارد الى وطنه، وان يكون فنه لأهل بلده، وهكذا عاد محمود رضا الى القاهرة، يراوده حلم الفرقة الاستعراضية، التي تستلهم حركتها من تراثها، وأن يكون فنها نابعا ومعبرا عن عمق وجدانها الشعبي. عمل ابتداء كمحاسب في احدى الشركات باعتبار مؤهله الدراسي، وأخذ يصرف من دخله الوظيفي على حلمه، في تكوين فرقة للفنون الشعبية.

نجح من خلال بحثه الدؤوب على من يتعاون معه في ذلك المشروع، ويكون لديه الموهبة والرغبة في أداء ذلك الهدف، وبالصبر والبحث والمثابرة، تمكن بالاشتراك مع شقيقه الراحل (علي رضا) من تحقيق ذلك الحلم، وأصبح أول راقص مصري، بل واسطورة ذلك الفن من الرقص الشعبي، مؤسس ومصمم (استعراضات أهم فرقة فنون شعبية، وهي فرقة رضا). وكان محور حركته ونشاطه يتركز في البحث في كل محافظات الجمهورية، على تعددها في الصعيد والأرياف حتى يتمكن من نقل صورة واضحة، خصوصا عن العادات والتقاليد، ولكي يصمم من خلالها رقصات تصور أو تحكي ما يدور على الساحة الشعبية من الحياة الطبيعية، كما يصور نوعيات العمل سواء في اطار الحرف أو المهن أو الصور التقليدية الحياتية لأبناء البلد، تحاكيهم أو تعكس مواقفهم أو أساليبهم من تصرفات أزاء ما يصادفونه في الحياة اليومية. كانت هناك رقصات عن عروسة المولد وجنية البحر، وبياع العرقسوس، والمراكبي، والصيادين، وعن بدو الصحراء، وغير ذلك. كبرت الفرقة وذاعت شهرتها الجمالية في عرض استعراضاتها، وتمكنت بذلك أن تحصل على طلبات للعروض الخارجية في بلدان ودول عربية وأجنبية، كما وجدت الفرص لتقديم عروض سينمائية وأفلام حققت من خلالها شهرة ونجاحا كبيرا.

مقومات فرقة رضا

تشكلت (فرقة رضا) محمود رضا وشقيقه علي رضا وكان مصمم رقصات ايضا. تزوج محمود رضا من (نجيدة فهمي) ابنة استاذ بكلية الهندسة وهو الدكتور (حسن فهمي) وكان مسؤولة بالفرقة عن عنصر الأزياء التي يتم الاستعانة بها في الأستعراضات المختلفة، وبعد ان توفيت تزوج (محمود رضا) من سيدة يوغوسلافية (روزا) وكانت متخرجة من اوبرا العاصمة اليوغسلافية (بلجراد) وكانت (بالرينا) الفرقة هناك وأنجب منها الفنانة (شيرين رضا)، وهي ممثلة وفنانة استعراضية. تزوج شقيقه (علي رضا) من الفنانة الراقصة (فريده فهمي)وهي الأبنة الثانية للدكتور (حسن فهمي) وكانت هي البطلة الرئيسية لفرقة رضا لعقود من الزمن، كما كانت بطلة لفيلمي (أجازة رأس السنه)

فريده فهمي
الراقصة الاولى لفرقة رضا

و(غرام في الكرنك) كما شاركت في العديد من الأفلام السينمائية، وكانت النجمة المتألقة لفرقة رضا. يذكر ايضا ان فريده فهمي خريجة كلية الآداب، وحصلت على الدكتوراه في الرقص الايقاعي من الولايت المتحدة،، قد وصل عدد الفرقة بعد ان انضمت الى وزارة الثقافة الى 180 فنان، كانت هناك الفرقة الاولى التي تقدم العروض، وفريق الصف الثاني، ثم مجموعات تحت التدريب. قدمت الفرقة اعمالها على مسارح عالمية منها مسرح هيئة الامم المتحدة في نيويورك، ومسرحها في جنيف. كما قدمت استعراضاتها على مسرح البرت هول في لندن، ومسرح الالومبيا في باريس ومسرح بيتهوفن في بون وغيرها. كما قدم استعراضات تم تنفيذها في مهرجان القطن المصري في نيودلهي عام 1960، والمهرجان الشعبي في سراييفو قبل انفصالها عن يوغوسلافيا عام 1961 ومهرجان برلين السينمائي عام 1971 ومهرجان الفولكلور المصري في بيروت عام 1971، ومهرجان الصداقة الدولي في اليابان 1996.

ابرز ابطال فرقة رضا كان محمود رضا، فريده فهمي، هناء الشوربجي، حسن عفيفي، حسن السبكي، وقد اصبح كل من حسن عفيفي وحسن السبكي من امهر مصممي الاستعراضات في الفرق الشعبية وفي فوازير رمضان مع نيللي وشيريهان. كان قائد الاوركسترا للفرقة الفنان علي اسماعيل وكان مطرب الفرقة محمد العزبي، وقد سبقه في ذلك الفنان كارم محمود، ومن اشهر استكشات الفرقة (وفاء النيل، وعلي بابا والاربعين حرامي، ورنة الخلخال). محمود رضا من مواليد 1930، ورحل 2020.

قبــل الختــام

تعد (فرقة رضا) من ابرز الفرق الاستعراضية في تاريخ الفن المصري، وقد قامت على شاكلتها من الفرق الأستعراضية (الفرقة القومية للفنون الشعبيه)، بل ان محافظ البحيرة في الستينات وهو من رجال الثورة (الصف الثاني) وجيه اباظة، قد اقام فترة عمله في البحيرة فرقة استعراضية باسم (فرقة البحيرة للفنون الشعبية) وكانت على مستوى راق، وحققت نجاحا لفت الأنظار. كان ذلك بالطبع احد ثمار فرقة رضا والنجاح الجماهيري الذي لاقته.

بعد اكثر من ستين عام على نشأة (فرقة رضا) التي نالت شهرة عالمية، اصبح فيها ولا زال اسم محمود رضا ذات شهرة كبيرة كأستاذ للفن الاستعراضي الشعبي، وما زال اسمه يحمل رنينا خاصا كواحد من المبدعين الكبار الذين اثروا هذا الفن واكسبوه التقدير والاحترام. ويذكر ان مكتبة الاسكندرية قد قامت بعمل بروجرام تعليمي لرقصات من جميع دول العالم تحت عنوان (العالم يرقص مع محمود رضا) وانضم لهذا البرنامج حوالي 70 راقص وراقصة من جميع انحاء العالم، وقد قاموا بتقديم رقصات التي قدمتها فرقة رضا في الزمن الماضي في نحو اربعين استعراضا، وكانت تلك هي السابقة الأولى ان تقدم رقصات فرقة رضا من خلال راقصين غير مصريين.

ان العمل الابداعي لا يتوارى ولا يختفي، وانما يظل يسكن وجدان الناس حتى يرى النور من جديد، ويعود التغنى بأمجاد الأوائل الذين عبدوا الطريق امام اجيال جديدة تستوعب وتطور وتضيف لكي تستمر الحياة مع الأبداع الجديد.

01

02

03

احدى رقصات فرقة رضا

محمود رضا وفريده فهمي

04