فلسطين.. الملف الذي أيقظه الزلزال

صدمة التطبيع ومواجهة مع البيئة العربية وتوق نحو مصالحة داخلية حقيقية

محمد قواص (*)

خلال الأسابيع الماضية اهتزت الطاولة الفلسطينية بدرجات غير مسبوقة وفق المقاييس التي عرفتها القضية الفلسطينية في العقود الأخيرة، وخصوصا منذ ما أسمي ربيعا عربيا. داهم الفلسطينيون حدث إبرام اتفافية للسلام بين الإمارات وإسرائيل ثم بين البحرين وإسرائيل، فيما الكواليس تتحدث عن لائحة جديدة من الدول العربية المرشحة للانضمام إلى هذا التيار الجارف الجديد.

بدا أن الحدث مفاجئ صاعق، على الرغم من أن الفلسطينيين كانوا مسؤولين من خلال انقسامهم الخبيث عن تردي سمعة قضية فلسطين وتراجع أهميتها. وبدا أيضا أن مفاعيل الأحداث التي اجتاحت المنطقة، منذ  »ثورة الياسمين« في تونس، مرورا بالتحولات الدولية الكبرى التي تحاصر المنطقة، انتهاء بالتحولات التي أحدثتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب داخل ملفات كثيرة في العالم بما فيها ملف فلسطين، قد أيقظت الفلسطينيين على واقع الأمر الواقع.

استحقاق التطبيع

شكلت الاتفاقية الإماراتية الإسرائيلية واقعا جديدا مسّ الرتابة التي طبعت المقاربة العربية لمخارج حل قضية فلسطين من خلال المبادرة العربية لعام 2002. الأمر فجر جدلا واسعا لما للحدث من تأثير مباشر على الستاتيكو الذي تعرفه المنطقة بشأن هذه القضية، ومن تداعيات محتملة على سيناريوهات علاقات إسرائيل بدول المنطقة.

بالمقابل انطلق الرد السياسي الذي ارتأته قيادة السلطة الفلسطينية من قاعدة باتت متقادمة، وفق الحدث الإماراتي، تستند على رهن مستقبل أي علاقة عربية مع إسرائيل بمزاج فلسطيني ينطلق من حسابات فلسطينية. ولئن تعتبر الإمارات أن طبيعة علاقتها بإسرائيل هي شأن ثنائي وقرار سيادي يتخذ بمعزل عن الرؤية الجماعية العربية وخصوصا عن الرؤية الفلسطينية، فإن صاحب القرار الفلسطيني لم يقرأ جيدا هذا التحول وما زال يغرف من بضاعة كاسدة يعود عبقها إلى زمن آخر.

والاعتراف بالزمن هو سر تقدم الأمم. يكفي في هذا الصدد تأمل الفكر والسلوك اللذين سادا بدموية وتخلف قرونا من تاريخ أمم في هذا العالم، ومقارنة ذلك مع طبائع الراهن وقوانينه لدى نفس الأمم والتي أملت قطيعة، أحيانا غير متدرجة، مع السائد بأدواته الفكرية ووسائله البالية.

أخطأ الطرف الفلسطيني بمحاولته التشاطر لفرض وجهة نظر عضو في جامعة الدول العربية على بقية الدول الأعضاء. لم يكن مفاجئا أن يُسقط الإجماع العربي ما من شأنه النيل من قرار سيادي اتحذه عنصر من عناصر هذا الإجماع. وأخطأ الطرف الفلسطيني حين وضع نفسه في مواجهة النظام السياسي العربي بدل أن يكون متفيئا به محميا بعباءته. ويخطئ الفلسطينيون حين يمارسون استعلاء على العرب وفوقية في توزيع شهادات حسن السلوك وفق ما أفاد به صائب عريقات حين دعا أمين عام الجامعة العربية إلى الاستقالة أو حين أنذر بأن الفلسطينيين سيراقبون من سيحضر من العرب حفل التوقيع على الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي.

تقادم الرد الفلسطيني

لا تريد القيادة الفلسطينية أن تقتنع أن فلسطين قضية أساسية في وجدان العرب، لكنها لم تعد قضيتهم الأولى. هي ليست أولوية القضايا عند الليبيين واليمنيين والسوريين حيث الحرب تفتك بواقعهم، وليست أولى القضايا لدى بلدان وشعوب المنطقة حيث الهمّ بات أمنيا اقتصاديا تنمويا معيشيا، وحيث باتت أخطار إيران وتركيا للبعض كبيرة داهمة آنية وأكثر فتكا مما يمثله الخطر الإسرائيلي.

راقب الفلسطينيون بدهشة تساقط دول أفريقيا وبلدان في العالم الثالث لطالما كانت محسوبة على معسكر معاد لإسرائيل متضامن داعم لفلسطين. لم يعترفوا أن عبورهم نحو  »أوسلو » أسس لعقيدة  »إذا كان رب البيت بالدف ضاربا«، والتي شرّعت الباب لنسج علاقات هذه الدول مع إسرائيل. لم تنتبه القيادة الفلسطينية بأن أسطورة  »يا وحدنا« التي خطّها محمود درويش هي دفق شعري رائع، إلا أنها، إضافة لعدم حقيقتها في واقع أن الفلسطينيين لم يكونوا لوحدهم، باتت ديدن العقيدة السياسية الفلسطينية عامة من حيث التماس مع العالم في الكر والفر دون مشاركة العرب وتطوير الاستقواء بوجودهم.

قد يجوز الجدل حول وجاهة قراري الإمارات والبحرين، لكن هل ممكن أن تجيبنا قيادة السلطة الفلسطينية متى جال رئيسها على عواصم العرب، ومتى انتشر مبعوثوه يدقون الأبواب من المحيط إلى الخليج؟ هل ممكن أن تجيبنا القيادة الفلسطينية لماذا ينشط بعض سفرائها، وفق همّة ذاتية شخصية، لدى بعض العواصم الغربية يلتقون بأحزابها ونقاباتها وجمعياتها وإعلامها، فيما لا نشاط يذكر لسفرائها في عواصم العرب؟ ثم إذا كان من جفاء بين رام الله وبعض الدول العربية، فلماذا هذا الجفاء ولماذا البلادة المزمنة في فك العقد وتمتين صلات فلسطين بالعرب. وأخيرا هل ممكن للقيادة الفلسطينية أن تخبرنا كيف التعامل مع الواقع الجديد الذي يفرضه حدث الإمارات والبحرين وربما بلدان لاحقة غير إلقاء محاضرات في الوطنية وإصداد شهادات التخوين وسحب سفراء السلطة؟

لم تخرج الضفة الغربية غاضبة حين تعرض قطاع غزة لحروب متعددة. في كل مرة كان الرئيس محمود عباس يذهب لإلقاء خطبته السنوية من على منبر الأمم المتحدة في نيويورك كانت أجهزة السلطة تسيّر مظاهرات تحمل صور أبو مازن. صحيح أن هذه المظاهرات مصطنعة لكن لم ينظم مثيل لها استنكارا لما كان يتعرض له الفلسطينيون في غزة. بالمقابل خرجت المظاهرات تلو المظاهرات، ونظم الإضراب تلو الإضراب ضد قانون الضمان الاجتماعي وهذا من حق الناس وواجبهم في الدفاع عن مصالحها. فإذا كان أمر الموقف من مسألة فلسطينية بات في نظر الفلسطينيين وجهة نظر، فحري أن تعترف قيادة السلطة أن من حق غير الفلسطينيين أن يكون لهم وجهة نظرهم.

تحريك فلسطينيي لبنان

يكشف الضجيج الذي أثارته زيارة إسماعيل هنية إلى لبنان الانزلاق الذي وصل إليه الأداء الفلسطيني في عيون العرب. لم يهتم هنية ومن مشى في عراضاته العضلية في شوارع عين الحلوة، أن لبنان، كما العالم العربي، قد تغير. لم يقرأ اللبنانيون هذا الصخب الذي أثاره هنية إلا تلويحا بعلم فلسطيني لصالح أجندة إيران وحزبها في لبنان أو تمرينا فلسطينيا لصالح تركيا وجهودها التي بدأت تظهر في لبنان، أو ردا ضمنيا تقوم به طهران وأنقرة على الوهج الدولي الذي تقوم به فرنسا في هذا البلد. وأيا كانت تفسيرات الحدث وتبريراته، فإنه يمثل واجهة من واجهات فلسطين التي تعمل لصالح أمر عمليات لا شأن للعرب به.

وليس صدفة أن تتحولَ بيروت إلى هانوي العرب في ما أُريد له أن يكون ردا على الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي للسلام. تجمعَ الأمناء العامون للفصائل الفلسطينية في العاصمة اللبنانية ليطلقوا منها ومن رام الله مواقفَ جمعت المنقسمين من فتح وحماس والجهاد وبقية العناويين ضد هذا الاتفاق. مرة أخرى انطلقت من بيروت مواقفُ شاتمةٌ لدول الخليج على منوال ما كان يُمارسه حزبُ الله. ومن بيروت انطلق التهديدُ بضرب إسرائيل بالصواريخ مرة أخرى على منوال ما يتوعدُ به حزبُ الله. هل باتت بيروت هي العاصمة الوحيدة التي تُبيح من بين كل عواصم العرب

تعليق: التطبيع بات هاجسا أيقظ الفلسطينيين من سبات

استقبال حماس والفصائل؟ أم أنه أُريد لبيروت أن يُعاد استخدامُها من جديد ساحة تُمرَرُ من خلالها أجنداتُ الآخرين. في التفسير أن إيرانَ وحزبَها في لبنان يستدعي من خزائنه ورقةَ الفلسطينييين ومخيماتِهم للضغط في شؤون الداخل اللبناني، وللرد على ما يلوح من ضغوط تارة أميركية غربية وتارة فرنسية ضد طهران وحزبها في لبنان. في التفسير أيضا أن إسماعيل هنية الذي أخرج مخيم عين الحلوة في عراضةٍ عضلية مقلقة، يحمل في زاده واجهاتٍ تركية إضافية قيل أن أنقرة تريدُ نشرها داخل بعض البيئات في لبنان ولما لا لدى البيئة الفلسطينية أيضا. حدثُ اجتماع الفصائل وعراضة هنية أثار امتعاضا داخليا لبنانيا وفلسطينيا، وأعادا تسليط الضوء على فلسطينيي لبنان لفهم حيثيات ومرامي الجدل الداهم!

هنية في بيروت

أيقظت زيارة رئيسِ المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية إلى لبنان، مخاوف وهواجسَ حول مصير فلسطينيي لبنان، ووظيفتِهم المحتملة داخل التحولات الجارية في فلسطين ولبنان.

بدت العَراضةُ المسلحةُ التي شهدها مخيمُ عين الحلوة جنوب لبنان ترحيبا بالضيف الوافد، رسالةٌ متعددة الأبعاد أثارت أسئلة في بيروت كما في العواصم البعيدة.

لطالما كان الفلسطينيون في لبنان مادةَ سجالٍ بين فرقاء السياسة في هذا البلد. ثبَّت اتفاق الطائف تحريمَ توطينهم، وثبتت الحساباتُ الطائفية اللبنانية مهزلةَ تهميشٍ غير إنساني لهم، يحرمُهم من العمل والتملكِ والانخراطِ السلس في الحياة الاقتصادية في البلد.

وفي الطائفية خوفٌ مسيحي من بعبعٍ يرفع حجم المسلمين الديمغرافي على حساب المسيحيين، وخوف شيعي من أن يصبح اللجوء الفلسطيني والسوري رقما مقلقا في أعداد السُنّة في بلد تجتمعُ فيه الطوائف والمذاهب على نحو

الأمير  بندر بن سلطان: عتب سعودي على القيادة الفلسطينية

فسيفسائيٍّ معقدٍ شديد الحساسية.

في لبنان من رأى في ضجيج هنية محاولةٌ لإعادة لبنان ميدانا فلسطينيا تطلُّ منه الفصائل.

منهم من رأى أيضا، أن عراضةَ هنية بعد لقائه بأمين عام حزب الله حسن نصر الله، رسالة من الحزب ومن خلفه إيران عما يملكانه من أوراق فلسطينية يعبثون بها في لبنان.

ومنهم من رأى أن هنية القادم من تركيا يحمل في زيارته بعضا من الأوزان التي تلوح بها أنقرة داخل لبنان على نحو أثار رد فعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أسابيع.

كانت الرئاسةُ الفلسطينية في رام الله كررت أن مخيمات الفلسطينيين في لبنان تحت سقف الدولة اللبنانية، ملمحة إلى استعداد كامل لتسليم سلاح المخيمات إلى هذه الدولة.

بيد أن الدولةَ نفسها التي تتهم بالخضوع لحزب الله لم تستمع لهذا التلميح، بما فهُم أن لنزعِ سلاح المخيمات ثمن دولي إقليمي تقرره حساباتُ الحزب ومرجعيته في طهران.

بحرص ودراية لم تتدخل مخيمات الفلسطينيين بصراعات اللبنانيين في السنوات الأخيرة. بيد أن الأمر ليس ثابتا، ذلك أن أجنداتٍ إقليمية دولية قد تعيدُ استخدامَ ورقة المخيمات الفلسطينية على نحو يمقتُه فلسطينيو لبنان أنفسُهم، وهم الذين لا يريدون أن يكونوا رقما في أي حسابات مشبوهة واردة من وراء الحدود.

يقرأ العرب جيدا واقعهم وواقع العالم وتحولاته من حولهم ويقرأون شلل القيادة الفلسطينية على إدراك المشهد الدولي الجديد. بدا أن ما حصل في اجتماع جامعة الدول العربية الأخير يؤكد خطوط الممكن والمستحيل في التعامل مع المسألة الفلسطينية ويفضح عدم قدرة الدبلوماسية الفلسطينية على التعامل برشاقة مع الثابت والمتحول في مواقف الدول. وما يستنتج من الإعلان عن اتفاق بحريني إسرائيلي للسلام أن العرب لن يحرجهم الثابت المتهالك ولن يرتهنوا لمزاج رام الله وغزة المتحول.

مصالحة اسطنبول

في استفتاء الشارعَ الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بدا واضحا أن الناس لا تصدق المصالحةَ الجديدة التي أُعلن عنها بين حركتي فتح وحماس في اسطنبول اوائل اكتوبر الماضي. وحين سؤال عينات من فلسطينيي دول الشتات هز كثير منهم رأسه تبرما من مزاعم لم يعد بالإمكان تصديقُها. في ذلك أن الفصيليْن الكبيريْن اللذين انقسما دمويا منذ ثلاثة عشر عاما امتهنا مُذاك روايات المصالحة فكانت لهم صولات وجولات في مكة وصنعاء والقاهرة والدوحة  وموسكو وربما عواصم أخرى دون أن تتمَ تلك المصالحةُ الموعودة. الإنقسام وفق هذا بات متجذرا داخلَ الجسم السياسي الفلسطيني. ووفق ذاك بات مصلحة للحاكم في غزة كما ذلك الحاكم في الضفة. ومع ذلك ووفق قواعد السياسة وعلومها، فإن لفتح وحماس وكل الفصائل الفلسطينية مصلحة في أن توحد صفوفها للتصدي للتحديات المتعلقة مباشرة بالقضية الفلسطينية. اعترفت إدارة ترامب بالقدسِ عاصمة لإسرائيل فلم يكن هذا المفصل الدراماتيكي محفّزا لنسج مصالحة عاجلة بين فتح وحماس. ثم كشفت إدارة ترامب عما أُطلق عليه اسم صفقة القرن فاستنكر الأول واستهجن الثاني دون أي قفز نحو المصالحة المنتظرة. وحدها اتفاقات السلم الاماراتية البحرينية مع إسرائيل أفرجت على نحو ملتبس عن مصالحةٍ عاجلة قيل إنها ستُنهي الإنقسام الموجع وتعيدُ إنعاش الجسم السياسي الفلسطيني من خلال انتخابات تشريعية ثم رئاسية ثم ثالثة للمجلس الوطني.

عجلةٌ ما أخرجت بيانَ الاتفاق الفلسطيني في اسطنبول. فمن مكة إلى القاهرة مرورا بصنعاء والدوحة وحاضرات أخرى مرت المصالحة الفلسطينية بمحطات جدية في شكلها وبياناتها وخطابات الوعد بما بعدها دون أن يتحول حبر النصوص مصلا يغير شيئا في النفوس. بات الانقسام أصلا في الجسم السياسي الفلسطيني فيما الكلام عن الوحدة ضجيج منابر لم يعد يجد من يشتريه. فأن تتفق حركتا فتح وحماس في اسطنبول على ما سبق أن وعدا به في عواصم عديدة وتحت إشراف رعاة متنوعين، فذلك أمر جيد حتى لو كانت ثقة الفلسطينيين بجديته مهزوزة تعتريها الشكوك.

حتى الآن يبدو أن عجلة أخرجت بيان الاتفاق. لم يظهر قبل أشهر أن ما يجري من تواصل بين فتح وحماس ذاهب باتجاه الحل الوردي، بيد أن الإعلان عن اتفاقات السلم بين الإمارات وإسرائيل ثم بين البحرين وإسرائيل حركت لدى المتخاصمين الفلسطينيين بواعث مشتركة للاصطفاف بشكل حاد داخل تيار تركيا قطر إيران. غادرت قيادة السلطة الفلسطينية موقعها السياسي الوسطي داخل البيئة العربية، اتخذت موقفا سلبيا من جامعة الدول العربية، وذهبت باتجاه معسكر حركتي حماس والجهاد في المنطقة، بما يفسر صدور بيان الاتفاق في اسطنبول على أن تتم مباركته في الدوحة.

المصالحة الفلسطينية مطلوبة فلسطينيا وهي ضرورة أبجدية لبناء أرضية صلبة واحدة لمواجهة الاستحقاقات التي تمر بها القضية الفلسطينية. والمصالحة الفلسطينية مطلوبة عربيا بما يزود البيئة العربية بموارد قوة في التعامل مع المنظومة السياسية الفلسطينية أو التعامل مع العالم دفاعا عن القضية الفلسطينية. والمصالحة الفلسطينية مطلوبة دوليا، ذلك أن الدول الصديقة لفلسطين والتي ما برحت تتخذ المواقف ضد صفقة القرن ومشاريع الضم، من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي انتهاء بالصين ودول أخرى، باتت مربكة في موقفها من حيث أن القضية لم تعد فلسطينية بل تخضع خلال السنوات التي تلت الانقسام لأجندات متعددة الهويات لا علاقة لها بالأجندة الفلسطينية الوطنية.

ولئن جاءت المصالحة العتيدة ردا على قراري الإمارات والبحرين في شأن العلاقة مع إسرائيل، فإنه حري الاستنتاج أن الحدث ولّد وعيا جديدا لدى الفلسطينيين بأن أولويات العرب تتغير وأن المشهد الدولي يتبدل على نحو يتطلب تموضعا فطنا يفترض أن ينزع من رام الله وغزة كل محرمات سابقة وهواجس ثابتة كانت تحول دون المصالحة بين فتح وحماس.

وقد يكتشف الفلسطينيون يوما، بعد أن تسقط عنهم نوبة المكابرة، أن ما صدر عن أبو ظبي والمنامة وما ظهر من أعراض في السودان وسلطنة عمان قبل ذلك وما يتوقع ظهوره لاحقا في هذا الصدد، قد أيقظ لدى الفلسطينيين الحاجة إلى تجاوز الانقسام الذي بات بنيويا شكل ستاتيكو الحالة الفلسطينية منذ أكثر من 13 عاما.

غير أن سطورنا المرحبة بتلك المصالحة لا تتأسس على سذاجة تجعلنا نؤمن أن تلك المصالحة حقيقية لا رسائل إيرانية تركية قطرية داخلها. ففي المرحلة السابقة للانتخابات الرئاسية الأميركية يسعى هذا التحالف الثلاثي الظرفي غير المعلن أن يحسّن شروط تموضعه الإقليمي والدولي من خلال الإطلالة من خلال المنبر الفلسطيني. وعلى هذا تبدو الدول الثلاث ممسكة بالورقة الفلسطينية في حالة الانقسام وفي حالة المصالحة العتيدة على السواء.

قبل إيران وتركيا وقطر،  استثمرت دول عربية وصفت بالثورية داخل السوق الفلسطيني فأنبتت داخله الفصائل، وتولت رعاية أبو نضال الذي اغتال تنظيمه قيادات فلسطينية متجنبا الصدام مع المحتل، وراحت تشحذ همم الانقسام الداخلي مشتغلة على التنازع بين يمين ويسار وبين أهل تسويةٍ وأهل تصدٍ وصمود. في ذلك الوقت بالذات كانت دول الخليج تستثمر مالا ودعما وتأييدا لقضية فلسطين وقيادتها دون أي تدخل في شؤون البيت الفلسطيني ودون زرع أي ودائع سياسية داخله.

قد تبدو الذاكرة قصيرة في التعرف على من أحب فلسطين قضية ومن استثمر في فلسطين خدمة لمصالح أنظمة في إخضاع شعوبها وخدمة لمسلسل مزايدات مملة بين دول المنطقة. وقد تبدو الذاكرة الراهنة غائبة في تذكر أن السعودية أول من رعى مصالحة في 8 فبراير 2007 أقسم خالد مشعل في مكة أنها نهائية حقيقة قبل أن تفرض حسابات طهران ودمشق غير ذلك.وقد تبدو الذاكرة مرتبكة في حقيقة أن دينامية فلسطين أنها داخل حاضنة العرب بتعدد توجهاتهم وخياراتهم وأن لا دينامية لقضية يتم استعارتها داخل أروقة القرار لدى السلطان في أنقرة والولي الفقيه في طهران.

ربما يجوز السؤال هل كانت تلك المصالحة ستكون غائبة لو أن الإمارات والبحرين لم يذهبا إلى ما ذهبا إليه، وهل هذه المصالحة وما أفرجت عنه من مشاريع انتخابات تشريعية ورئاسية وثالثة للمجلس الوطني هي رهن نزق ظرفي قد يسقط قبل أن يجف حبر الاتفاق.

على أية حال تكشف التحولات الدولية أن على الفلسطينيين إعادة قراءة المشهد العام جيدا والبحث عن سبل خلاقة

هنية في عين الحلوة: خوف لبناني جديد

لمقاربة عالم يضغط باتجاه استئناف المفاوضات مع إسرائيل، فيما يفترض على العقل الفلسطيني أن يكون جريئا في التقدم بخيارات تأخذ جيدا بعين الاعتبار أن المصالحة  ـ إن كانت حقيقية ـ  فهي متأخرة ومتأخرة جدا وقد لا تكون كافية وحدها لإعادة تصويب البوصلة الفلسطينية باتجاه فلسطين.. فلسطين فقط.

بيد أن الأكيد هذه المرة أن لسان حماس يقول لمحورها الإقليمي:  »لقد أتيناكم بفتح.. انتهت المهمة«!

لا يبدو أن السجال سيتوقف عند هذا الحد. كشفت المواقف التي أطلقها الأمير بند بن سلطان أن السعودية قررت أن تدلي بدلو مفاجئ يسلط المجهر على دورها ومواقفها نصرة لفلسطيني وقضيتها وشعبها ردا على حملات فلسطينية عفوية ومبرمجة استهدفت الرياض وحلفاءها في الخليج. تستشعر القيادة الفلسطينية أمر ذلك وتسعى أن لا تحرق مراكبها مع كل العرب. تقول المعلومات أن تعميما رئاسيا فلسطينية قد صدر يمنع أي رد فلسطيني رسمي على رواية الأمير السعودي. فقد بات واضحا أن المرحلة تتطلب ترميم علاقة فلسطين بالعرب كما ترميم علاقات الفلسطينيين مع الفلسطينيين وأن إصلاح الجدار المتصدع بين الفصائل البيتية يحتاج أيضا إلى تقوية جدران البيئة العربية بانتظار أن تفرج واشنطن عن وجهها وتوجهاتها ما بعد الانتخابات الرئاسية.

الاعتراف بالزمن هو سر تقدم الأمم. يكفي في هذا الصدد تأمل الفكر والسلوك اللذين سادا بدموية وتخلف قرونا من تاريخ أمم في هذا العالم، ومقارنة ذلك مع طبائع الراهن وقوانينه لدى نفس الأمم والتي أملت قطيعة، أحيانا غير

النظام العربي يبتعد عن المزاج الفلسطيني

متدرجة، مع السائد بأدواته الفكرية ووسائله البالية.

لا تريد القيادة الفلسطينية أن تقتنع أن فلسطين قضية أساسية في وجدان العرب، لكنها لم تعد قضيتهم الأولى. هي ليست أولوية القضايا عند الليبيين واليمنيين والسوريين حيث الحرب تفتك بواقعهم، وليست أولى القضايا لدى بلدان وشعوب المنطقة حيث الهمّ بات أمنيا اقتصاديا تنمويا معيشيا، وحيث باتت أخطار إيران وتركيا للبعض كبيرة داهمة آنية وأكثر فتكا مما يمثله الخطر الإسرائيلي.

قد يجوز الجدل حول وجاهة قراري الإمارات والبحرين، لكن هل ممكن أن تجيبنا قيادة السلطة الفلسطينية متى جال رئيسها على عواصم العرب، ومتى انتشر مبعوثوه يدقون الأبواب من المحيط إلى الخليج؟ هل ممكن أن تجيبنا القيادة الفلسطينية لماذا ينشط بعض سفرائها، وفق همّة ذاتية شخصية، لدى بعض العواصم الغربية يلتقون بأحزابها ونقاباتها وجمعياتها وإعلامها، فيما لا نشاط يذكر لسفرائها في عواصم العرب؟ ثم إذا كان من جفاء بين رام الله وبعض الدول

أجندات تركيا وإيران داخل ملف فلسطين

العربية، فلماذا هذا الجفاء ولماذا البلادة المزمنة في فك العقد وتمتين صلات فلسطين بالعرب. وأخيرا هل ممكن للقيادة الفلسطينية أن تخبرنا كيف التعامل مع الواقع الجديد الذي يفرضه حدث الإمارات والبحرين وربما بلدان لاحقة غير إلقاء محاضرات في الوطنية وإصداد شهادات التخوين وسحب سفراء السلطة؟

لطالما كان الفلسطينيون في لبنان مادةَ سجالٍ بين فرقاء السياسة في هذا البلد. ثبَّت اتفاق الطائف تحريمَ توطينهم، وثبتت الحساباتُ الطائفية اللبنانية مهزلةَ تهميشٍ غير إنساني لهم، يحرمُهم من العمل والتملكِ والانخراطِ السلس في الحياة الاقتصادية في البلد.

وفي الطائفية خوف مسيحي من بعبعٍ يرفع حجم المسلمين الديمغرافي على حساب المسيحيين، وخوف شيعي من أن يصبح اللجوء الفلسطيني والسوري رقما مقلقا في أعداد السُنّة في بلد تجتمعُ فيه الطوائف والمذاهب على نحو فسيفسائيّ معقد شديد الحساسية.

المصالحة الفلسطينية مطلوبة فلسطينيا وهي ضرورة أبجدية لبناء أرضية صلبة واحدة لمواجهة الاستحقاقات التي تمر بها القضية الفلسطينية. والمصالحة الفلسطينية مطلوبة عربيا بما يزود البيئة العربية بموارد قوة في التعامل مع المنظومة السياسية الفلسطينية أو التعامل مع العالم دفاعا عن القضية الفلسطينية. والمصالحة الفلسطينية مطلوبة دوليا، ذلك أن الدول الصديقة لفلسطين والتي ما برحت تتخذ المواقف ضد صفقة القرن ومشاريع الضم، من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي انتهاء بالصين ودول أخرى، باتت مربكة في موقفها من حيث أن القضية لم تعد فلسطينية بل تخضع خلال السنوات التي تلت الانقسام لأجندات متعددة الهويات لا علاقة لها بالأجندة الفلسطينية الوطنية.

(*) كاتب سياسي لبناني

العدد 110 / تشرين الثاني 2020