ترسيم الحدود اللبنانية بين القانون والسياسة رحلة اللانهاية

المحامية سندريللا مرهج

حاولت الإدارة الأميركية على مدى عقود من الزمن إقناع لبنان بالدخول في مفاوضات مع إسرائيل بهدف ترسيم الحدود البرية والبحرية من الجهة الجنوبية، لكنّ لبنان بقي على موقفه الرافض لأيّ وجه من وجوه الإعتراف بإسرائيل كدولة.

بتاريخ 7 تشرين الأول 2020 أعلن رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه عن اتفاق يقضي بدء لبنان بالمفاوضات حول  »اتفاق إطار« لترسيم الحدود البحرية والبرية الجنوبية برعاية الأمم المتحدة وبوساطة أميركية.

فاجأ الخبر اللبنانيين المنقسمين بين مؤيد ومعارض لفكرة التفاوض انطلاقاً من قناعات مبدأية، وتكثر اليوم التساؤلات حول الواقع القانوني، السياسي ـ الإقتصادي لهذه المفاوضات كما تسيطر على مشهد النتائج المرتقبة ضبابية قاتمة.

أوّلا: في القانون

في الحدود البحرية:

إنّ المكتب الهيدروغرافي البريطاني المكلّف من الحكومات اللبنانية للعام 2002 و 2006 وضع دراسة حول ترسيم الحدود البحرية اصطدم بصعوبة الاطار تبعاً للنقص في الخرائط.

في العام 1982 صدر عن الامم المتحدة قانون البحار ومنذ ذلك التاريخ غاب لبنان عن ابرام اتفاقيات دولية تحمي مساحاته المائية.

في العام 2011 صدر قانون لبناني حول تحديد واعلان المناطق البحرية اللبنانية وتحديدا بتاريخ 1/10/2011 صدر مرسوم تحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة.

في 17/12/2011 وقعت إسرائيل وقبرص اتفاقية لتحديد الحدود بينهما وذلك بعد شهرين واسبوع من تاريخ اصدار المرسوم اللبناني.

اختلفت خريطة الاتفاق الإسرائيلي ـ القبرصي عن خريطة لبنان ما أفقد لبنان حوالى 860 كلم2 من المنطقة الاقتصادية الخالصة.

في الحدود البرّية:

في 7 حزيران 2000 رسمت الامم المتحدة خطّ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان بهدف التحقق من تطبيقه،وهو لا يعتبر حدوداً دولية ومعروف بـ »الخطّ الأزرق«. يبلغ طوله 120 كلم. وفي العام 2007 نتيجة اجتماعات ثلاثية مع الامم المتحدة جرى الاتفاق على وضع علامات مرئية على أرض الخط الازرق.

الواقع أنّ  »الخطّ الأخضر« بين فلسطين المحتلّة ولبنان هو الحدود الدولية المرساة في العام 1949 في  »اتفاقية الهدنة« حيث جاء في المادة الخامسة منها:

 »يتبع خطّ الهدنة الحدود المعترف بها دولياً«

تم تحديد الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين في العام 1923 كحدّ فاصل بين الانتداب الفرنسي في لبنان و الانتداب البريطاني في فلسطين نتيجة عمل لجنة بوليه ـ نيوكومب

عدا عن المناطق المتحفظ عليها، 13 منطقة حدودية يعتبرها لبنان لبنانية 100 وجرى قضمها في الخط الازرق. للنقطة الاولى في رأس الناقورة أهمية قصوى لاستراتيجيتها الجغرافية ولأثرها على ترسيم الحدود المائية.

ثانياً: في السياسة والإقتصاد

يحكم المشهد العربي ـ الإسرائيلي ثلاثة محطّات تاريخية:

-1- صفقة القرن والتعاون الخليجي

-2- اتفاقيات التطبيع والسلام

-3- الخلاف العربي ـ العربي والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، لبنان، سوريا.

في ظلّ ما سبق، تتداخل المصالح ـ الاقتصادية الاجنبية ـ العربية في المنطقة ويرسم الغاز والنفط خرائط تحالفات جديدة.

تُشكّل الثروة النفطية المتواجدة في البحر اللبناني خطراً على تحالفات إسرائيل مع دول أوروبية أهمّها في المشروع المعروف باسم  »ايست ـ ميد«.

في مطلع العام الحالي وقّعت إسرائيل مع قبرص واليونان في أثينا مذكرة تفاهم لمدّ خط انابيب بطول 1900 كيلومتر تحت المياه لنقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا. يمتد الخطّ من إسرائيل إلى المياه الاقليمية القبرصية وجزيرة كريت اليونانية إلى اليابسة اليونانية وصولاً لشبكة انابيب الغاز الأوروبية عبر ايطاليا.

تبلغ كلفة المشروع حوالى 6 مليارات دولار وهو اطول انبوب في العالم تحت المياه.

حُدّد العام 2025 كحدّ زمني أقصى للتوصّل إلى اتفاق شامل والإنتقال بعدها إلى مرحلة التوقيع النهائي قبل البدء بتنفيذ المشروع بتمويل متعدّد الأطراف.

من العوائق التي تعرقل السير قدماً في المشروع:

ـ الحدود البحرية الإسرائيلية مع لبنان

ـ الصراع التركي ـ اليوناني ـ القبرصي على احتياطي الغاز

ـ الاتفاق الليبي ـ التركي على تقاسم بحر ايجه

ـ غموض الموقف الإيطالي

ـ الاتفاق الروسي ـ التركي حول انبوب يمتد من روسيا إلى أوروبا عبر تركيا والبحر الاسود.

تحاول الادارة الأميركية جاهدة دعم إسرائيل في مشروع  »ايست ميد« وكانت قد سطّرت عقوبات على مشروع انبوب  »نورد ستريم 2-« الذي ينقل الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر البلطيق وقد صرّح

المتحدث باسم الكرملين في كانون الاول من العام المنصرم من انّ  »المشروع سيُستكمل« ووصف العقوبات بـ »المثال النموذجي للمنافسة غير العادلة«.

تكبرُ المنافسة على سوق الغاز في شرق البحر المتوسط وتتخذ اشكالاً دراماتيكية من حروب وتهديدات وصفقات وعقوبات وحتى اعتداءات ومشاريع تقسيم.

بالنسبة للبنان، إنّ من مصلحة إسرائيل الضغط قدر الامكان على لبنان للدخول بمفاوضات ترسيم حدود تضمن حقوقها في البلوكات النفطية والغازية القريبة من الحدود اللبنانية وتسنح لها فرصة الاستحصال على تمويل اوروبي لمشروع ايست ـ ميد؛ إذ أن أيّ تمويل يشترط بداية تأمين الأمن وضمان المشروع من أي اعتداءات قد تأتيه من لبنان أو فلسطين.

فشلت الخطط الاقتصادية، استشرى الفساد، انتفض الشعب ثائراً على سلطة خذلته،

تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، تفاقمت الاوضاع المعيشية سوءاً، انكمشت العجلة التجارية، انكشف تعثّر المصارف، فُقد الدولار الأميركي من السوق اللبناني، ضُرب القطاع الخاص، انفجر العنبر 12 في مرفأ بيروت، دُمّرت نصف العاصمة بيروت، سُطّرت العقوبات الأميركية الواحدة تلو الاخرى على حزب الله وحلفاء له، تعثرت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، جُمّدت المساعدات في مؤتمر  »سيدر«، فشلت الحكومات في تحقيق الاصلاحات، انهارَ البلد. فجأة، وأمام هذه المشهدية، تنطلق المفاوضات حول  »اتفاق إطار«. رحّبت الإدارة الأميركية بالإتفاق وأبدت رغبتها بإنجاحه.

ثالثاً: في النتائج المرتقبة

من المهمّ التوقف عند النقاط التالية التي ذكرها الرئيس نبيه برّي في مؤتمره الصحفي:

-اتفاق الهدنة

-قرار مجلس الأمن 1701

-تمثيل الجيش اللبناني للجانب اللبناني في التفاوض

-الاجتماع في مركز اليونيفيل بالناقورة

-التفاوض باشراف رئاسة الجمهورية والحكومة

وأعلن الرئيس برّي انتهاء دوره في هذا الصدد.

بدأت أولى شرارات المفاوضات في الخلاف على شكل الوفد المفاوض حسبما تبيّن من موقفين متناقضين بين بيان الثنائي الشيعي حركة أمل ـ حزب الله من جانب وبيان رئاسة الجمهورية من جانب آخر حول مدى قانونية ضمّ الوفد مدنيين غير عسكريين للجلوس على طاولة المفاوضات.

موقف للثنائي الشيعي يستحق التوقف عنده للتساؤلات التالية:

-هل هو انسحاب مسبَق من مسؤولية قد تنتج عن مفاعيل اتفاق التفاوض؟ منها مثلاً، رفض كتلتي الحزبين النيابية التصويت على أيّ محضر اتفاق قد تعتبراه باطلاً مسبقاً؟

-هل هي مسؤولية مسبقة حول نتيجة سلبية للجانب اللبناني تُرمى في ملعب رئاسة الجمهورية؟

-أم أنّ الثنائي الشيعي يسعى عبر هذه النافذة غير المباشرة إلى عقد صلاحيته ودوره بالاشتراك السياسي والقانوني بكلّ ما يتعلق من بنود في اتفاق الإطار، على قاعدة المساواة في القرار الوطني؟!

أمّا على صعيد آخر، من المهم الإشارة إلى إنّ أيّ اتفاق اطار على ترسيم الحدود البرّية لا بدّ وأن يشمل سوريا بما يخصّ الجزء من قرية الغجر. هذا من جهة، أمّا بالنسبة للحدود البحرية ففي جزء من المنطقة الاقتصادية الخالصة لا بدّ من إشراك قبرص الملتزمة بالاتفاق مع إسرائيل الموقع في العام 2011

إنّ اتفاق الإطار يفرض تنازلات من الجانبين الإسرائيلي واللبناني، وهذا ما لن يحصل.

في المئوية الثانية من لبنان الكبير، قالها الرئيس برّي  »لبنان عمره 6 آلاف سنة وهو في طور التأسيس«.

ربما الاصحّ، لبنان في مئة عام دمّر ما بناه الاسلاف في 6 الاف سنة.

جنوباً تم قضمه، بحراً تمّ سرقته، شمالاً تمّ استباحته، بقاعاً تمّ عزله، ووسطاً تمّ كسره وعاصمته تمّ تدميرها وشعبه تمّ تقسيمه.

هل سيلزم اتفاق الإطار انسحاب إسرائيل من المناطق اللبنانية الجنوبية المحتلّة؟

هل ستدخل إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية كلٌّ من فرنسا وبريطانيا على خطّ خرائط الترسيم التاريخية لأيام الانتداب؟

في المرحلة الآنية، إن ّ البدء باتفاق الإطار قد يفكّ الطوق الدولي المالي المفروض على لبنان

ويقدم لترامب ونتنياهو هدية انتخابية، أمّا في المراحل المستقبلية، فهو ينذر بحرب كبيرة إمّا عسكرية ـ اقتصادية أو انتصار كبير بتحرير جديد أو الركون فعلاً إلى القانون الدولي ومقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية

في لاهاي المختصة بالنزاعات بين الدول.

وكما انّ اتفاق الإطار ليس تطبيعاً، فالمقاضاة الدولية لحفظ الحقوق واسترجاعها ليست تطبيعاً ولا اعترافاً. أمّا الحديث السابق السياسي عن تحكيم دولي لترسيم الحدود فتنتفي صحته القانونية الدولية لغياب اتفاق خطّي حول التحكيم بين الاطراف، حبّذا لو يتنبّه الوفد اللبناني إلى هذه المسألة و يرفض التوقيع على أيّ بند تحكيمي ضمن اتفاق الإطار لما قد يحمّل ذلك لبنان مسؤوليات مستقبلية مالية وتقنية وقانونية وتبعات سياسية.

لبنان يسعى إلى الفرج، ولكنّ التاريخ أثبت أنّ إسرائيل تحيك خيوطها مع لبنان في سلال القشّ.

العدد 110 / تشرين الثاني 2020