أسيل سقلاوي انطلاقة الأنا نحو مساحات الشعر الواسعة.

في حوار مع الشاعرة أسيل سقلاوي لمجلة  »الحصاد« لندن

أسيل سقلاوي:  »أهمية القصيدة تكمن في تقمّصها روح الشاعر وذوبانهما معا كوحدة وجودية قابلة للرؤية والقراءة والتلقي«.

بيروت من ليندا نصار

تسيطر على الشاعر أحيانا حالات شعورية مرتبطة بعلاقته بالعالم بما فيه من لحظات ومواقف، فيعيش في المسافة الفاصلة بين الذات والآخر الذي لا بدّ له، ويمارس طقوسا خاصّة به يكون قد ابتدعها من خلال تجاربه، حيث يعبّر فيها عن وجدانه وحالاته ومقاربته للحياة، فتأتي قصيدته تعبيرا عن الذات المتشظية فالمستقرة في هذا العالم الإبداعيّ.

ضيفتنا لهذا العدد من المجلّة هي الشاعرة اللبنانية أسيل سقلاوي التي تكتب الشعر الموزون وهي تمثّل تجربة إبداعيّة فريدة وعميقة لافتة في الوسط الثقافي اللبناني، نظرا لما قدّمته من قصائد حملت فيها همّ الإنسان في تركيبته الخفيفة والمعقّدة، وقد خصّت قصائدها بنصوص تعبّر فيها عن رؤيتها للعالم بما فيه من معادلات. إنها أسيل  التي تنتقي

أسيل سقلاوي

مواضيعها بدقّة ما جعلها تتّسم بالعمق والجمال المستمدّ من مخيّلة لا يحدّها حدّ. في قصائدها قوّة حملها قلمها ضدّ الألم والحزن والموت، وهذه القوّة نابعة من ذات صادقة نقية لا يصدر عنها إلا ما يشبهها ويمثّلها.

أستاذة الرياضيات تحدّثنا عن الشعر، عن الأرقام، لنصل معها في النهاية إلى معادلة تكتبها على طريقتها الخاصّة ليستوحيها القارئ من خلال هذا الحوار.

 »الحصاد« التقت الشاعرة اللبنانية أسيل سقلاوي وكان لها معها الحوار الآتي:

 »الحصاد«: تتّسم كتاباتك بعناية خاصّة بالمضمون والشكل ولا يخفى فيها القلق الوجودي الذي يعيشه الشعراء بالإضافة إلى العاطفة التي تظهر في درجة عالية عندك، وهي التي تعبّر عن صدقيّة الكتابة النّابعة من القلب. من خلال ذلك أين تكمن أهمّيّة القصيدة بالنسبة إليك؟

أسيل سقلاوي: القصيدة هي المعادل الموضوعي للروح الشاعرة إذا صح التعبير ، لا أهمية للشكل إن خلا من المضمون والشاعر يجب أن يحافظ على جودة المضمون ورسالته الهادفة بأي شكل كانت قصيدته فلا فصل لديّ بين الشكل والمضمون لأنهما وحدة متجانسة.

أما القلق فأظنه حالة من حالات التخيّل والاستبصار لغة وإحساسا.

وأهمية القصيدة تكمن في تقمّصها روح الشاعر وذوبانهما معا كوحدة وجودية قابلة للرؤية والقراءة والتلقي. فالقصيدة هي أنا.. أي ما أهميتي أنا بالنسبة إلي!

 »الحصاد«: إلى أيّ مدى استطاعت أسيل أن تعبّر عن المضمر في خفايا الرّوح من خلال الشّعر؟

أسيل سقلاوي: المضمر يطفو على لسان الشاعر وفي قصيدته ويحتاج فقط قارئا يجيد التعمّق والتأمّل حتى يتلمس اللغة بسرّها المتواري فينا.

والحقيقة هذا المدى لا أحدده أنا كشاعرة ولا حتى كأسيل ، يمكنني فقط أن أقول: أسيل انطلقت في مسيرة طويلة وبشكل معقول، لكن هذا ليس كافيا لإرضاء ما تصبو إليه وتنشده. أما خفايا الروح فلا أفق يحدّها والشعر لا سقف للإبداع فيه.

 »الحصاد«: الخيال الشّعريّ أساسيّ في العمليّة الكتابيّة، هل أسعفك المتخيّل بالاشتراك مع اللّغة في تصوير حالات الإنسان وقضاياه من خلال حلول الأنا في القصيدة؟

أسيل سقلاوي: الأنا في قصيدتي ليست بمعناها السطحي بل بالمعنى الذي يخدم المتخيل ولا يجعل اللغة ضيقة بحدود ذاتي الخاصة وإنما هي منطلق من ضيق ذاتي لسعة ذوات الآخرين.

في كل قصائدي هناك أسيل تبحث عن الجمال والخيال الرحب وتعانقه وتندمج فيه، ومن خلال ذلك تذوب هذه الوحدة الحلولية في قضايا الإنسان لتعيشها ثم تتقمصها ثم تصورها، ليس خيالا ولغة فقط،، بل إحساسا كامل التشظي والانتماء والحضور.

 »الحصاد«: كانت لك مشاركات ناجحة في مسابقات عن فئة الشعر العمودي بالإضافة إلى نشاطك في الوسط الثقافي عبر الأمسيات والمنتديات. أين تكمن أهمّيّة هذه المشاركات وماذا تعني لك؟

أسيل سقلاوي: المشاركة الفاعلة خطوة في طريق طويل تعبّده طاقات الشاعر الإبداعية وأدواته الخاصة به والتي تشبهه، أهميتها أنها تزرع الثقة في نفسه بحيث يقف أمام ما وصل إليه ليصوب مسيرته  ويندمج في تجارب الآخرين ويقف على إبداعاتهم.

المشاركات امتحانات ومحطات لا بد منها على المستوى النفسي والفكري للشاعر، فقبّة الشعر عالية وسلالمها خطرة وفي كل مشاركة ناجحة هنا درجة من درجات السلم التي تدعو الشاعر إلى الصعود.

 »الحصاد«: تقولين في قصيدة نشرتها حديثا:

 »في الصمت ذاكرة تحنّ لوصلنا«

وعزاؤها  »أنّ الحنين بجوهرك«

فلم المسافة تستبيح لقاءنا

وطفولة اللقيا تشيخ وتكبرك

ولمَ البراءة لم تعد خمر الهوى

ومحرّم أنّ التلهّف يسكرك.

ماذا تعني لك كل كلمة من هذه الكلمات التي تجعل العاطفة تطغى على النص: الصمت، الذاكرة، الحنين، المسافات، الهوى؟ وماذا يعني لك أن يحتفظ الشاعر بالصمت الذي يجهّز نفسه ليخرج على شكل قصائد؟

أسيل سقلاوي: لولا المسافة لما وُجد الحنين، ولولا الصمت لخلت بالذاكرة، واحتفاظ الشاعر بالصمت ليسمع صدى قصيدته في أعماقه أولا كي يهوى ولا يهوي، فأن تهوى يعني أن تحن والهوى في اللغة يكون ميل النفس والنزوع لرغباتها خيرا وشرا لكنه حين يلبس لبوس الشعر والحنين في الوجدان يرقى للمثال والعفة فيكون الحب النقي.

 »الحصاد«: هل تكفي الكتابة ليتخطّى الشاعر الأزمات التي تعصف ببلده والحروب والأوبئة؟ انطلاقا من ذلك، ماذا تعني لك الكتابة؟

أسيل سقلاوي: الكتابة ليست جسرا لتخطي الأزمات. هي الغيث إن احترق العالم  وهي الأمان إن احترب العالم والشفاء إن مرض العالم.

الكتابة… وطن نصنعه على أعيننا لا يحتله سوى الروح والعقل النقيين..

والكتابة توثيق الحس وشكل الروح التي لا تلتقطها الصور بغير المتخيل في اللغة والمجازات.

 »الحصاد«: بين الشعر والرياضيات: يقول العالم الفرنسي سيدريك فيلاني:  »الجمع بين الرياضيات والشعر، ألا يوحي ذلك بشيء من الإثارة؟« كذلك تقول العالمة الروسية صوفيا كوفالفسكايا:  »لا يمكن لأحد أن يكون رياضيّا ما لم تكن له روح شاعر«. ما المشترك بين الشعر والرياضيات بالنسبة إلى أسيل سقلاوي؟

أسيل سقلاوي: الشاعر في بنائه لأي نص هو رياضي بارع، يقوده الخيال المحلق المقيّد أحيانا بقوانين صارمة، والمطلق أحيانا بلا حدود.

يحضرني هنا قول آنيشتاين: الرياضيات هي قصيدة المنطق لكن بطريقتها الخاصة.

ففي الرياضيات لغة الأرقام وفي الشعر لغة الحروف، وفي الرياضيات نبدأ بخطوة ومسألة وتتتالى الخطوات والمسائل حتى نصل إلى النتيجة المنطقية. كذلك الشعر  خطوات روحية ونفسية يقطعها الشاعر ليصل في النهاية إلى ضفة البحر الذي يسبح فيه، لكن ليس شرطا أن تكون نهايات الشعر منطقية. في الغالب تظل مشرعة على التأويل وتعدد الصور. في النهاية اللغة حمّالة أوجه والأرقام وجهتها واحدة.

 »الحصاد«: لماذا لا يطمئنّ الشعراء مهما راكموا من نصوص؟

أسيل سقلاوي:ليس للإبداع الشعري سقف ولا للذوبان الشاعري حدود ولا لبحث الشاعر عما لم يكتب بعد نهاية..

الشعراء يا صديقتي مصابون بنزيف أفئدتهم الدائم لأن الشعر حالة مخاض وقلق مستمر، وهذه الحالة التي يعيشها الشعراء لا تنتهي بانتهاء القصيدة، فالفكرة ولادة الخيال وكذلك الإبحار في اللغة.

من قصائد الشاعرة أسيل سقلاوي:

أنا نايُ المواجــعِ والتـمنّي

وصوتي دمعُ عصفورٍ يُغنّي

أدوزِنُ ما تشظّى من جراحي

من الأشواقِ والأشواقُ تُضني

شفاهي ذابلاتٌ كالبوادي

و ما ظمِئَتْ ولكنْ لم تُعِنّي

سرابٌ صمتُها.. وحسبتُ ماء

 يترجمُ ما تقولُ  (فغبتُ عني)

أنا القصيدةُ والأنثى.. أرى بِهِما

كيفَ المسافةُ تغدو قيدَ مسجونِ

البحرُ عينايَ.. يتلو صفوَ ذاكرتي

فأستعيدُ من اللاوعي مكنوني

تلقّفتني يدُ المعنى مُغازِلة

وقالَها الورد يا سمراء (بتموني)

أسيلُ من رحمِ الـغـيمات صافـيـة

فالشعرُ قال لروحي، ها هُنا كوني

العدد 111 / كانون الاول 2020