ماذا لو كفّ الناس عن الكلام.. ؟

لبنان ـ نسرين الرجب

هذه الأصوات الكثيرة أشواك تُحاصر الحناجر، أصوات بلا فائدة معنويّة، أصوات لا تفعل شيئًا؛ تتمرّد، تصرخ، تشتم، تضحك بطريقة هستيريّة، تبكي، تلعن، تقسم، تُندّد، تذكّر، تحذّر، تؤيّد، تُعارض، تُسدد، تُبدد، وتسحب كل ما في الطاقة الإنسانيّة من قوّة، وتشرذم السامعين كمهاجر في الصحراء الجافيَة ولكن ليس لحكمة، فيبدو سرابٌ سعيُنا، ما نقدّسه يرجُمنا!

أدرك الإنسان منذ بدأ تحسُس مكامن التعبير في ذاته وفي الطبيعة حوله قيمة الصمت وجسّد إدراكه من خلال الفن بكُل تجلياته، فبلاغة التعبير لا تقف عند حدود الكلام، بل قد تلامس أطراف الصمت لتتماهى مع جماليّة الحضور والغياب،

لوحة الصرخة دفارت مونك

فالصمت هو سبيل العارفين لفهم الأسرار الكونيّة، فالشاعر نزار قباني يقول:  »ليس مهمًا أن أتكلم/ إنّ الصمت جميلٌ جدًّا/ مثل ملايين الأحلام«.

  في الصمت دعا الله عبده زكريا ليصوم عن الكلام لمدّة ثلاثة أيّام ولا يُكلّم الناس إلا رمزا! وكذلك كان الصمت مواسيًا ودرعًا تحصّنت وراءه السيدة مريم عندما أتت قومها وعلى يدها ولدها عيسى المسيح! ومن الأحاديث المروية قول:  »ليت رقبتي كرقبة البعير، كي أزِن الكلام قبل النطق به«.

يبدو الصمت المُنقذ من الضلال في زمن الأزمات، حيث يختلط الحابل بالنابل، فيكثر الكلام ويقل أو قد ينعدم الفعل، فليس أسهل اليوم من أن ينشر أيٍّ من كان أراءه وتصوراته للعلن في ظل مجانيّة المنصات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح لكلّ من أراد التفلسف والتنظير أن يلوك جمل التهديد والتنديد والتصعيد:

ينشر المثقف أو مُدّعي الثقافة، والفرق كبير، تحليله للأحداث الحاصلة في البلاد، يزفر ضميره في تنهيدة ارتياح، يقفل جهازه الإلكتروني، ويضع رأسه على الوسادة وينام.. بانتظار أن يجد صباحًا كومة من التعليقات الإيجابية، والتي ستتضامن وستُثني على ما كتبت يُمناه أو يُسراه، ولا ضير من المشاكسين الذين سيبحثون عن ثغرة خِلاف وهو سيرُد عليهم بالكثير من الحجج والبراهين التي لم يُضمّنها كتابه المنشور.

 ينام أو يخلد إلى النوم.. لعل في كلمة خلد اشتقاق من الخِلد الذي يعيش تحت التراب ويحفر ويحفر وعندما يجوع يخرج في الظلام ليحضر قوتَه اليوميْ ويعود إلى نومه المخلّد.

أزمات مستعصية عصفت _وما زالت_ بالعالم؛ من ثورات، وأزمات اقتصادية، إلى انتشار وباء الكورونا، إلى معاهدات التطبيع بين بعض الدول العربية والعدو الإسرائيلي، وإلى أزمة التعامل مع المسلمين والإسلام في فرنسا كمثال حديث؟! هل ينطبق على المتكلمين الذين ليسوا بأشخاص عاديين دائمًا بل جزء كبير منهم يُمثّل أعيان المجتمع بمكانتهم الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية؛ وكما تقول أغنية داليدا الخالدة، من لفظة  »خلود«.. Parole parole!! كلام كلام، أو لعل وعسى يخلص هالأسى كما غنّت فيروز؟!

 نوّع الشعراء على اختلاف مذاهبهم الأدبيّة والمناطقيّة في موضوعات قصائدهم، فأدّوا دورًا مُهمًّا في الدلالة على جانب من طرق تفكير بعيدة عن المألوف، وحدّدوا زاوية الرؤية التي من خلالها صوّروا العالم النفسي والروحي والوطني والديني. قد يغدو الصمت غير مقبولا في أوقات كثيرة، وعلى الرغم من الراحة التي قد يُتيحها الصمت، إلى أن الكلمة تصبح مسؤولية لا بُد من تحملها وحملها، يقول الشاعر أحمد مطر:  » أريد الصمت كي أحيا/ ولكن الذي أراه ينطقُني«، وهنا لا بد للكلام أن يأتي في موضعه المناسب، أن يُناسب مقامه، أن يكون مزلزلًا وحاسمًا في اتخاذ موقف.

يقول عبد الرحمن الشرقاوي في مقطع من نصه المسرحي  »الحسين ثائرًا. شهيدًا«:  » الكلمة فرقان بين نبيّ وبغيّ/ بالكلمة تنكشف الغمة/ الكلمة نور/ ودليل تتبعه الأمة«. إلى أن يقول:  »إن الكلمة مسؤولية إن الرجل هو كلمة، شرف الله هو الكلمة«. فـ »في البدء كان الكلمةُ… « كما ورد في الإنجيل، وعلّم الله آدم الأسماء كلها كما جاء في القرآن الكريم. والنبي محمد حاجج قومه بالكتاب وببلاغة الكلام القرآنيّ.

ويُقال عندما تريد أن تؤكد على سلامة عهدك لشخص ما:  »أعطيتك كلمة« بمعنى أنه لا تراجع عن العهد المقطوع!

في لوحة الصمت للرسام البريطاني من أصل سويسري  »هنري فوسيلي«، والتي رسمها بين عامي 1799 و1801، تظهر فيها امرأة في وضعية انغلاق جسديّ، كتفان منسدلان، تحتضن جسدها بيدين مرتخيتين، يغطي شعرها وجهها، لون المرأة ترابي، وما حولها معتم، فهي تجلس في الظلام، وربما هي ظلمة النفس وحلكتها التي

لوحة الصمت لهنري فوسيلي

تعكس حالة نفسيّة سيئة. إنه الصمت البليغ الذي يقول الكثير من الأشياء من دون النطق بحرف، فالصمت يفرض حضوره الرمزيّ، من خلال الريشة واللون، بقوّة. بكل ما تحتويه عناصر اللوحة من معاني الصمت والانطوائية، والوحدة، والانفراد مع الذات.

يصمت الرجال في المواقف الإشكاليّة حين لا يستطيعون حسم خياراتهم، وحين يريدون أن يفكروا في حلّ إشكالية ما، فليجأون إلى كهفهم الصامت. وتصمت المرأة حين يخيب أملها، ولا يعود الكلام مُجديًا، فالصمت هنا هو موقف وهو علامة فارقة، لا بد أن يتبعها اختيار وقرار.

وقد يكون الصمت مؤذيًا في ارتداداته على الذات وعلى الآخر أيضًا، وقد يكون خيانة في المواقف التي تستدعي الحسم، في مقطع من قصيدة  »أنا الصمت« للشاعر العراقي مظفر النواب:

 » أنا الآن صمتٌ/ ألا تفهم العجر في الصمتِ!« إذ لا يحمل الصمت دومًا معنى القوّة وعمق التفكير، فقد يكون دلالة عجزٍ، وقصر إدراك.

وقد يكون خيانة كما في صمت الرعيّة اتجاه الزعيم الفاسد، وكما في تقبُّل الذُلّ وتبرير الظلم، وقد يكون نوعًا من الساديّة والرغبة في الإيذاء، وقد يتحوّل إلى آلية دفاعية نفسيّة فيتمثّل في الكبت ودفن الذكريات في أعمق طبقة من اللاوعي، للهروب من تجربة مؤلمة، ولكن لا بدّ للمكبوت أن يتحرر من قيوده، ولو اتّخذ سُبلا غير واضحة، فيظهر في فلتات اللسان وفي ردّات الفعل، وكما يقول الحديث المروي عن الإمام علي:  » ما أَضمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظهر فِي فلَتاتِ لِسانِه، وَصفحَاتِ وجههِ. «

وهذا النوع من الصمت لا يكون عن رغبة وعن رضا، بل يكون نتيجة الخوف ونتيجة ضعف الخيارات وضياع الهدف، وبالتالي يكون الكلام بعده انفجاريًّا حانقًا كما في لوحة الصرخة للفنان  »إدفارت مونك« رسمها في العام 1893، جسّد فيها الخوف والفزع والألم النفسي في أبرز تجلياته عندما يخترق حاجز الصمت والوحدة وسط الجموع، وتماهى ذلك في اللوحة مع عناصر الطبيعة من السماء المحمرة والبحر الأسود الهائج، والشخصان المنسجمان مع بعضهما ولا يديران بالا للشخص الفزع والذي يصرخ على مسافة منهما، وكأن بالفنان يقول أن العالم يتعامل مع ألامنا كشيء شخصيّ ولا أحد يهتم لما نواجهه من مخاوف وهواجس.

إذا جسّد الفن بأشكاله الصمت، بكل آليالته التعبيريّة، وأحواله الشعوريّة، إن كان عبر الشعر أو الرسم أو حتى الموسيقى، أو المسرح من خلال فن الميم، والذي يعتمد على الإيماءات والإشارت والحركات التعبيريّة وتوظيف الجسد كأداة لقول ما لا يُنطق لفظًا، من خلال استخدام الحواس والأطراف، وإظهار الانفعالات من فرح وحزن، توجس وانفتاح، وهو كثير الإيحاء إذ يجذب اهتمام المتفرج ويثير مكامن خيالاته وتأويلاته.

وهكذا لا يعرف الإبداع الإنساني حدودًا في تماهيه مع عالم الطبيعة، وإن كان الإنسان في بدء تكوّن اللغة قلّد الطبيعة في أصواتها، فقد قلّها في سكونها وصمتها أيضًا من خلال التأمل فيها، فهو لا ينفك يتصل بجذره ويُعيد اكتشاف المسميّات والأصوات مهما تعددت أشكال اللغة وكثُرت الصوائت والصوامت، وحين يحتدم الكلام ويختلط الكذب بالحقيقة لا بد من عودة إلى الذات إلى العمق اللاواعي والارتقاء في سلّم الوعيّ، عبر معاودة التأمل في الحقائق الوجوديّة بصمت.

العدد 111 / كانون الاول 2020